الثلاثاء، 17 مارس 2020

المستوى التالي

تأليف : امل شانوحة


أفضل نسخة منك

في ذلك الصباح الباكر , كان جيم (اشهر لاعبيّ الباركور) يتدرّب على القفز فوق اسطح مبانيٍ متلاصقة لحيٍّ شعبي فقير.. حين تفاجىء بثلاثة شباب مقنّعين يحملون السكاكين ويركضون خلفه !



فظنهم لصوص لحقوا به الى سطح المبنى ! فاعتراه خوفٌ شديد جعله يتنقّل كالمجنون فوق اسطح المباني القديمة .. والمجرمون يصرّون على ملاحقته , وهم يبتعدون عنه أمتاراً قليلة 
وظلّ يقفز باحترافية من مكانٍ لآخر للنجاة بحياته.. 

الى ان توقف عند حافة المبنى الذي اعتاد على انهاء تمارينه عنده بسبب الشارع الفرعي الذي يفصله عن المباني الأخرى , حيث لم يتجرّأ أحد على القفز الى الجهة المقابلة لبُعد المسافة  

لكن لم يكن امامه خيار سوى المجازفة , فحياته على المحكّ 
وقفز بكل قوته دون تفكير .. وحين وصلت قدماه أرضيّة سطح المبنى المقابل , أسرع بالتدحرج حول نفسه لحماية ركبتيه من انكسارٍ حتميّ 

وما ان وقف سليماً على قديمه , تفاجأ بالرجال الثلاثة يصفقون له من فوق المبنى السابق !

ثم أخرج أحدهم ورقة من جيبه وفتحها , لتظهر كلافتة صغيرة مكتوباً عليها :
((أحسنت يا بطل !! هآقد انتقلت لمستواك التالي))
وابتعدوا عن المكان !

ولم يفهم جيم ما حصل ! لكنه شعر بالفخر لتفوقه على جميع لاعبي الباركور في منطقته  
لكنه تساءل في نفسه : من اولئك الشباب ؟ ولما ارادوا تشجيعه بهذه الطريقة المتطرّفة المرعبة ؟!
***

جاك هو أقوى حرّاس المرمى في بلدته , فطوال 5 سنوات لم يستطع أيّ فريق إدخال هدفٍ في مرماه .. لهذا رُشّح للإنضمام للفريق الوطني لبطولة العالم .. 

الا ان إصابة ركبته بحادث سير , جعلته يتردّد في التقاط الكرات الصعبة مما أخفض مستواه , وجعله يخرج من قائمة المرشحين .. 
ومع ذلك أمل بالعودة للصدارة قبل إعلان اسماء الفريق الرسمية مع نهاية الموسم ..



وفي تلك الليلة الباردة .. أخذ يُدرّب نفسه في الملعب الفارغ , وهو حزين على ضياع مستقبله واحلامه .. 
وقبل انهاء تدريباته .. وصله اتصال من زوجته , تسأله بفزع : 
- هل طفلنا معك ؟!
وأخبرته انها لم تجده في مهده حين استفاقت .. ووجدت رسالته : بأنه أخذه معه الى الملعب

وقبل ان يُجيبها .. أُضيئت الجهة الأخرى من الملعب , لتظهر عربة ابنه داخل المرمى الثاني ! 
ولأنه لم يردّ إخافة زوجته , أجابها : 
- نعم هو معي , أكلّمك لاحقاً

واسرع الى هناك .. ليتفاجأ بالسلاسل الحديدية تلتفّ حول بطانية الطفل والعربة , وتربطهما بعارضتيّ المرمى !
فحاول فكّها بهدوء كيّ لا يوقظ ابنه

فجأة ! بدأت الماكينة برميّ الكرات بقوة في اتجاههما 
فلم يجد نفسه الا وهو يصدّ الكرات الصعبة لإبعادها عن عربة ابنه 

وبعد عشرين كرة انطلقت في جميع الإتجاهات (وكأن احدهم يتحكّم بها عن بعد) توقفت الماكينة ! ليظهر صوت تصفيق شابٍ مقنّع يجلس على المدرّجات , والذي رفع لافتة تقول :
((إصابة ركبتك لم تمنعك من صدّ الكرات , اليس كذلك ؟))
فصرخ جاك بعصبية : 
- من انت ايها اللعين ؟!!

وهنا ظهر شابٌ مقنّع آخر يجلس في المدرّج المقابل , حاملاً كاميرته : 
- سأرسل الفيديو للجنة إختيار اللاعبين , ليروا تفانيك بالتدريبات لدرجة مجازفتك بإبنك

وإذّ بشابٍ مقنّع ثالث يقول من خلفه , وهو يرمي مفاتيح قفل السلاسل باتجاهه :
- خذّ ابنك وعدّ الى بيتك .. وغداً أظهر طاقتك كلها في المباراة 

ثم خرج الشباب الثلاثة من الملعب , تاركين جاك مصدوماً مما حصل !
ليقوم بحضن طفله ويقول :
- سأجعلك فخوراً بوالدك , اعدك بذلك حبيبي
*** 

يُعدّ جورج من أمهر السبّاحين , والمؤهّل الأول للذهاب للأولمبياد الدولية .. لكن غروره ازداد بعد احتلاله المراكز الأولى في جميع المنافسات الوطنية .. وكثرة الإحتفالات والمديح جعلته يتقاعس عن تمريناته اليومية 

لذلك أحسّ باليأس والإحباط بعد انخفاض تصنيفه للمركز العاشر لسبّاحي العالم .. والسبب الأول كان لعدم قدرته على حبس انفاسه مدة طويلة بعد تعوّده على التدخين

ولشدّة غضب مدرّبه من تقاعسه المستمرّ , أمره بإجراء تمرينات اضافية في النادي ولوحده 

وبعد ذهاب المدرّب , لم يردّ جورج إجهاد نفسه .. فوضع السمّاعات في اذنه وأخذ يردّد كلمات الأغنية , وهو يسبح بهدوءٍ واستجمام دون الإكتراث لمستواه الرياضيّ الذي تدنّى كثيراً في الفترة الماضية 


فجأة ! سحب شيءٌ ما قدمه للأسفل 
وحين استقرّ بالقاع , وجد شابان مقنّعان يتنفّسان عبر أنبوبة الأكسجين ببذلتا الغوص .. حيث شدّ أحدهم ذراعيه خلف ظهره بإحكام , بينما قاس الثاني مُدّة حبس انفاسه مستخدماً ساعة التوقيت!

ولم يستطع جورج الإفلات من قبضة الشاب مفتول العضلات , وظنّ أنهما يقتلانه !
لكن هدأ روعه قليلاً , حين رأى من يقيس الزمن يشير له بأصبعيه.. 

ففهم جورج ان عليه البقاء لدقيقتين تحت الماء ..
وأغمض عيناه مُستسلماً لمصيره , وهو يدعو ربه ان لا يموت قبل انتهاء المدة ..

فجأة ! أفلته الشاب .. ليُسرع جورج الى السطح وهو يتنفّس الصعداء بعد اقترابه من الإختناق المميت 

وهناك رأى شاباً ثالثاً مقنّعاً يقف عند حافة المسبح , ويصفّق له ويقول :
- ثلاثة دقائق , أحسنت !!
جورج بدهشة : هذا مستحيل ! انا لا استطيع كتم انفاسي اكثر من دقيقتين وعشر ثواني
- اذاً هو رقمك القياسي الجديد .. يبدو ستعود للوطن ومعك ميدالية اولمبية ذهبية

وهنا خرج الشابان من تحت الماء للإنضمام لرفيقهم الثالث , قبل خروجهم سويّاً من النادي .. تاركين جورج سعيداً بانتصاره الجديد الذي اعطاه دفعة من النشاط لإكمال تمريناته , وهو مصمّم على الفوز بلقبٍ عالميّ لجعل مدرّبه فخوراً به
*** 

كان آدم (البطل السابق لرفع الأثقال) يتدرّب وحده في الجيم دون أدنى حماسة , فاقترابه من سن الأربعين جعله لا يزيد الأوزان خوفاً على صحته 



واثناء استلقائه على ظهره لتمارين البنش وهو يرفع وزنه المعتاد السهل , تفاجأ بالشباب الثلاثة المقنّعين يقفون خلفه .. حيث قام أحدهم بتصفيد يديه بالبار الحديدي (حامل الأوزان) ! 
بينما قام الآخران بإضافة الأوزان على كلتا الجهتين

فصرخ آدم بخوف : ماذا تفعلون ؟!! ستحطّم الأثقال صدري ..ارجوكم لا تقتلوني !!! 
فردّ احدهم بتهكّم : لن يحصل شيء , فقط ارفع البار الى مكانه
آدم بفزع : لا استطيع !! اكاد اختنق

فهمس الشاب المقنّع مفتول العضلات في اذنه : 
- إسمعني جيداً !! منزلك في الشارع المقابل للنادي حيث تسكن زوجتك الجميلة .. وإن لم ترفعها خلال عشر دقائق , نذهب الى هناك للتعرّف عليها عن قرّب

وتسبّب هذا التهديد برفع الأدرينالين في دمه , مما جعله يرفع الأثقال بكل ما أوتيّ من قوة , ويثبّتها أخيراً في مكانها 
وحين التفت لم يرهم خلفه , فظن انهم في طريقهم الى بيته 

فأسرع نحو بوّابة الجيم , ليرى لافتة كبيرة مكتوباً عليها :
((احسنت يا آدم !! يمكنك العودة الى المسابقات الدولية بعد تحطيمك الرقم القياسيّ لبطل العام الماضي))

وهنا انتبه آدم على الأوزان التي حملها , وهي ضعف ما حمله في ذرّوة قوته وشبابه !

فعلم انهم استفزّوه لإعطائه دافعاً لإكمال مسيرته الرياضية .. 
لهذا عاد الى الماكينات الرياضية للتدرّب من جديد , وكله تصميم على الفوز بالمسابقة القادمة
*** 

يُعدّ اريك من ابطال صعود الجدار الذي يحاكي تسلّق الجبال.. 
ورغم فوزه بالعديد من المسابقات في الصالات المغلقة , الا انه فشل بتسلّق قمّة اعلى جدران النادي الذي افتتح حديثاً 

ولهذا استغلّ اغلاق جزءٌ من النادي لتصليحات , للتدرّب وحده بعيداً عن منافسيه .. 
وبعد عدّة محاولاتٍ فاشلة , قرّر عدم المشاركة بمسابقة الغد 



وقبل خروجه من هناك , سمع صرخة ابنه (4 سنوات) من اعلى القمّة ! ليجده بين ذراعيّ شاب مقنّع (يبدو انه دخل مع الصبي من النافذة العلوية الموجودة فوق الجدار) 

وقبل ان يفهم اريك ما حصل , وكيف خطفه من المدرسة ؟!
قام الشاب المجهول بإدلاء الصبي للأسفل بعد ربطه بحبلٍ قصير .. ثم اخرج سكيناً من جيبه وصرخ مهدّداً :
- اريك !! معك خمس دقائق لإنقاذ ابنك , والا سأقطع الحبل

فلم يجد الأب نفسه الا وهو ينطلق بكل قوته للوصول للقمّة , دون ربطه حبل الأمان حول نفسه !

ولأول مرة وصل لأعلى نقطة في الجدار , ليكتشف هروب الشاب من النافذة.. 
فأسرع برفع ابنه الذي كان يضحك بسعادة , ظاناً بأن والده يلاعبه.. فحضنه وجسده مازال يرتجف بقوة من شدة الخوف 

وهنا أُضيئت الشاشةٌ العملاقة لعرض تصوير تسلّقه السريع نحو القمّة , مع ظهور التوقيت اسفل الشاشة .. 
ثم ظهرت العبارة :
((ستكون حتماً الفائز في مسابقة الغد , وبرقمٍ قياسيّ))

ومشاهدة اريك لسرعته الخيالية في الفيديو صدمته كثيراً ! وفي نفس الوقت رفعت ثقته بنفسه .. فابتسم لإبنه قائلاً : 
- غداً أُهديك ميداليتي الذهبية  
***

في إحدى الشقق الرخيصة المتواجدة بأطراف المدينة .. جلس الشباب الثلاثة على الكنبة لمشاهدة الألعاب الأولمبية وهم يتناولون البيتزا .. 
حيث قال أحدهم :
- أرأيتما كيف يتلفّتون حولهم بخوف ؟ يبدو ان خطتنا ارعبتهم بحقّ 
- سيشكرونا لاحقاً .. فنحن لم نجد من يشجّعنا لإكمال حلمنا , اما هم وبفضلنا حصلوا على الميداليات الذهبية
- وهل سنتابع خطتنا مع بقية ابطالنا المحلّيين ؟ 
- فقط المتخاذلين منهم .. (ثم تنهّد بحزن) .. مازلت لليوم الوم نفسي على ترك المنحة الرياضية كأفضل لاعب بيسبول على مستوى الجامعات
- وانا بسبب حماقتي وتسرّعي بالزواج , خرجت من قائمة المرشحين للاعبيّ الجمباز الوطنية
- وانا لولا اصابة ذراعي اثناء التخييم الصيفي لكنت لاعب تنس محترف أقبض ملايين الدولارات , بدل عملي في المصنع براتبٍ زهيد
- نحن اصدقاء جمعنا القدر لقلّة حظنا وخيبات املنا المتكررة  
- بل قلّ : ضعف حماسنا ومجهودنا , أضاع مستقبلنا 
- صحيح .. توقفنا قبل وصولنا لأفضل نسخة منا بسبب إنشغالنا بالمقارنة بيننا وبين اللاعبين المميزين , مما احبط عزيمتنا .. ولهذا لن نسمح لأبطالنا بأن يخذلونا ..وسندفعهم ولوّ بأنذل الطرق  للوصول الى ..
وأكملوا الجملة سوياً : مستواهم التالي !!

ثم ضحكوا وهم يتابعون مشاهدة المسابقات الرياضية باهتمامٍ وتركيز , كاتمين الحسرة والخذلان في قلوبهم المحطّمة ! 

هناك 6 تعليقات:

  1. أكرّر شكري للأستاذ اياد على نشره قبل ايام قصتي السابقة (كورونا) في كابوس .. وأتمنى ان تعجبكم هذه القصة .. تحياتي للجميع

    ردحذف
  2. امل امل امل
    قصة يعجز القلم عن وصفها و اعطائها حقها فعلا ما قصة من قصصك ما شاء الله تنسيك في التي قبلها ❤

    ردحذف
  3. انا حمادي الترهوني من موقع كابوس

    القصة جميلة و مستفزة في ان واحد ههههه طرقهم بشعة و تحاكي اشياء مثل بعض المغنيين والرياضين حيث يعاملون كانهم عبيد عبر كثرة العقود و البنود المذلة ، اما عن اسلوب الكتابة فانا حسيت اني نحضر فيلم مش قصة لسلاستها

    ردحذف
    الردود
    1. فعلاً معظم قصصي اكتبها وكأنها فيلم عربي او اجنبي لكي يتخيلها القارئ بسهولة .. سعيدة انها اعجبتك .. تحياتي لك

      حذف
  4. أول مرة أزور مدونتك ،أعجبت ببعض القصص التي طالتها عيناي ،أنا أيضا لدي شغف الكتابة ،أتمنى منكم التشجيع .

    ردحذف
    الردود
    1. نصيحتي لك ان ترسلي اول قصصك الى موقع كابوس , فهم ينشرون القصص ذات الأفكار الفريدة من نوعها , حتى لو كتبتها بطريقة بسيطة .. كما ان نقد القرّاء هناك بنّاء وسيساعدك في تطوير موهبتك كما حصل معي .. واكتبي القصة باسمك الحقيقي كي يعرفك الناس .. وحاولي في كل قصة ترسلينها ان تكون افضل من سابقتها ليصبح القرّاء متشوقين لكتاباتك .. ودائماً ردي بدبلوماسية وذوق على النقد المستفزّ لبعض الأشخاص , فحسن الأخلاق والتعامل مع الآخرين هو السبب الرئيسي لنجاح اي كاتب .. بالتوفيق لك

      حذف

المحطّة الأخيرة

كتابة : امل شانوحة    المصيّدة الدمويّة ركبت الصبيّة الحافلة بعد انتهاء عملها الليليّ في إحدى المطاعم ، وهي تشعر بالإنهاك والتعب الشديد.. وم...