الخميس، 9 يناير 2020

المبنى المُحتجزّ

تأليف : امل شانوحة


جريمة رأس السنة 

في اوائل التسعينات القرن الماضي , وفي وقت العشاء .. تفاجأ سكّان المبنى المكوّن من ثلاث طوابق (الوحيد الذي بيعت شققه الستة , من بين المباني الفارغة في المجمّع السكني الفاخر) بصوت طلقةٍ نارية دوّت في ارجاء المكان قيد الإنشاء ..

فتساءلت الزوجة بقلق : 
- الصوت يبدو قريباً من هنا !
فقال زوجها أحمد وهو يُكمل عشاءه : ربما أطلقوها إحتفالاً برأس السنة
فنظرت زوجته الى ساعة الحائط : مازالت الساعة الثامنة مساءً !
أحمد : هي طلقةٌ عشوائية , إكملي طعامك 

وهنا خرج ابنهما من الحمام وهو يقول : الماء مقطوعة 
الأم باستغراب : كان يتدفّق جيداً قبل قليل ! .. إتصل بغرفة البوّاب لمعرفة السبب
الإبن وهو يغلق سمّاعة الهاتف : لا توجد حرارة في الهاتف الأرضيّ 
وفجأة إنقطعت الكهرباء !

فحاول الأب تلمّس طريقه الى ان وصل للشرفة , وهناك رفع صوته قائلاً:
- غريب ! الكهرباء لم تنقطع الا على مبنانا فقط 
الزوجة بتهكّمٍ وضيق : يا سلام ! لا هاتف ولا ماء ولا كهرباء , تبدو بداية سنةٍ جميلة 
الزوج : سأنزل الى البوّاب لمعرفة المشكلة 
زوجته : خذّ المصباح معك , ستجده في درج المطبخ
***

وحين نزل احمد الى الطابق الأرضيّ , تفاجأ بجيرانه يقفون قرب الباب الخارجي .. فسألهم باستغراب :
- ماذا تنتظرون ؟ إفتحوا الباب 
فردّ جاره مروان : الا ترى السلاسل والقفل الكبير الذي يُغلق البوّابة من الخارج ؟ 
احمد بدهشة : من فعل ذلك ! واين سمير ؟
الجار سعيد : ناديناه كثيراً ولم يجيب , لا هو ولا ابنه !
فناداه احمد بدوره , وهو يخرج رأسه من بين القضبان الحديدية للبوّابة المغلقة ..

بعد قليل.. تفاجؤوا بالبوّاب وهو يحمل ابنه (12 سنة) المُضرّج بالدماء ! 
فصرخوا الجيران بفزع : ماذا حصل لإبنك ؟!
فوضع سمير جثة ابنه امام البوّابة (من الخارج) وجلس قربه مذهولاً 

وبعد لحظاتٍ من الصمتٍ المُقلق .. أخرج سمير مسدساً من جيبه ووجّهه نحوهم , وهو يسألهم بغضب :
- من منكم ايها الملاعيين أطلق النار على ابني ؟!!
فقال له سعيد : ماذا تقول يا رجل ؟! كنّا جميعاً في بيوتنا 
أحمد : نعم كنت أتعشّى مع عائلتي حين سمعت الطلقة النارية
الشيخ : وانا وقتها كنت اشاهد الأخبار مع خادمي .. ولربما أُصيب ابنك برصاصةٍ طائشة من محتفلي السنة الجديدة.. او إن احد اللصوص..
البوّاب مقاطعاً : مبنانا في آخر المجمّع السكني , فلما يُجازف الحرامي بالتعمّق كل هذه المسافة ليقتل ولداً صغيراً , دون ان يسرق شيئاً ؟ لابد ان أحدكم أقدم على هذا الفعل الشنيع , وسأحلّ اللغز بنفسي

وعاد ووجّه سلاحه نحو الرجال المتجمّعين خلف البوّابة .. 
مروان : اهدأ يا سمير ولا تتهوّر .. فربما الرصاصة إنطلقت بالخطأ من بندقية الحارس وهو يلعب بها .. الم تقل انه يُخبأها ببيتك في يوم إجازته ؟
البوّاب بغضب : ابني قُتل اثناء غسله سيارتك اللعينة !!
مروان بدهشة : أمات في كراج المبنى ؟!

البوّاب بعصبية : نعم !! وكنت أخبرتك عصر اليوم بأن الإضاءة هناك معطّلة .. لكنك أصّريت بأن يغسلها لك , لتذهب مع خطيبتك الى حفلة رأس السنة .. واثناء تنظيفه السيارة من الداخل على نور المصباح , أُصيب بطلقٍ ناريّ في ظهره 
احمد : اذاً إتصل بالشرطة للتحقيق في الجريمة
البوّاب : لا !! فالأمر واضحٌ بالنسبة لي .. هناك ستة شقق مسكونة فقط في كل المجمّع , اذاً القاتل هو واحداً منكم .. وسأعرفه بنفسي  

فقال له الجار العجوز : اذاً اسأل الحارس , لربما شاهد الفاعل
البوّاب : الحارس في عطلة منذ البارحة 
مروان : وما يدريك انه لم يأتي الى هنا للإنتقام منك .. الم تتشاجر معه الأسبوع الفائت ؟ 
البوّاب : وما دخل ابني في الموضوع !
مروان : ربما الإضاءة الخافتة في الكراج جعلته يتوّهم انه انت 
العجوز : او ربما كان احد اقاربك , الم تخبرني سابقاً بأنك هربت الى المدينة بسبب تار والدك القديم ؟
البوّاب : لا , فأقاربي يظنون انني مُتّ بحادثة القطار السنة الفائتة  

مروان : عليك التفكير بجميع الإحتمالات يا سمير
البوّاب بعصبية : اذاً دعوني أخبركم بشكوكي .. أنت مثلاً ..(وأشار الى مروان) .. محامي مشهور .. وبسبب مرافعاتك القوية أدخلت عشرات المتهمين الى السجن .. فما يدريني ان احدهم بعد إطلاق سراحه قدم الى هنا للإنتقام منك .. خاصة انه قتل ابني اثناء تنظيفه سيارتك 
مروان : لا أظن ذلك ! فلا احد يعرف عنوان سكني الجديد , ولا حتى زملائي في المحكمة
البوّاب بلؤم : لكنه يبقى إحتمالٌ وارد , اليس كذلك ؟ 
فالتزم مروان الصمت ! 

وأكمل البوّاب إتهاماته : 
- وماذا عنك ؟ .. (وأشار الى سعيد) .. الم تحصل على حضانة اولادك من طليقتك التي تتعالج نفسياً ؟ .. فربما حاولت قتلك , لأنها لا تعلم بأنك بعت سيارتك البيضاء لجارك مروان 
سعيد : اذاً أعدّ توصيل اسلاك الهواتف الأرضية , لكيّ أتصل بها واتأكّد من الأمر
العجوز : وأصلح لنا الكهرباء والماء ايضاً
البوّاب بلؤم : ليس الآن.. وانت ؟!!
نجيب : ماذا عني ؟!

البوّاب : كنت سمعت عروستك قبل ايام وهي تتحدّث مع صديقتها اثناء خروجهما من المصعد , وكانت تخبرها عن قساوة طليقها .. فما يدريني بأنه لم يأتي الى هنا لقتلك بعد زواجك منها , او قتلها هي ..فالكراج كان معتماً تقريباً  
- لا اظن ذلك , لأني تزوجتها بعد طلاقهما بسنة
البوّاب بعصبية : انا اسألك !! هل هو قادر على ارتكاب جريمة ام لا ؟
نجيب : هو رجلٌ مجنون , لكن ..

فقاطعه البوّاب ليُكمل فرضياته , وهو يشير هذه المرة الى احمد :
- وانت !! ماذا عن ابنك البكر ؟ الا يتعالج حالياً من ادمانه على الحشيش ؟
أحمد : هو في مركزٍ طبّي خارج المدينة , ولن يطلقوا سراحه قبل شهرين
- وماذا لو افترضنا انه هرب من هناك , ليتهيأ له بأن ابني هو والده الذي إقتاده قسراً الى مركز علاج المدمنين
فسكت احمد بامتعاض .. 

وهنا قال مروان للبوّاب : 
- توقف يا سمير !! انك تؤذي الجميع بشكوكك التي .. 
البوّاب مقاطعاً بغضب : انت بالذات لا تسمعني صوتك !! فأبني لم يكن ليُقتل لوّ لم تصرّ على تنظيفه لسيارتك في عتمة الليل 
نجيب : انت لست محققاً بوليسياً , إتصل بالشرطة ودعها تقرّر من الفاعل
البوّاب بلؤم : آه صحيح .. ربما انت الفاعل , وليس طليق زوجتك 
- ماذا تقصد ؟! 

البوّاب : الست موظف تأمين ؟ ولهذا أردّت حرق سيارتك ليلة رأس السنة لتحصل على التعويض الماليّ , لكنك تفاجأت بإبني هناك والذي رآك تسكب البنزين فوق سيارتك
نجيب بعصبية : ماذا تهذي يا رجل ؟!
البوّاب : رائحة البنزين تفوح بقوة من الكراج 
نجيب : لست غبياً لدرجة ان أحرق سيارتي داخل مجمًعٍ مغلق !! 

الشيخ : يا بنيّ ! لا تظلمنا هكذا
البوّاب : وما يدريني يا شيخ ان الفاعل ليس أحد تلاميذك
الشيخ : انت تعرف جيداً انني لم أستقبل طلاّباً منذ ايام بسبب وعكتي الصحية .. ثم ما تفعله الآن مخالفٌ للدين , فإكرام الميت دفنه
البوّاب : سأدفن ابني بعد الإنتقام له 
وعاد ووجّه سلاحه نحوهم..

الجار العجوز بضيق : لا تهدّدنا بالسلاح , فأنت لا تخيفنا !!
البوّاب : آه نسيت انك صيادٌ محترف .. وربما حفيدك لعب بسلاحك , فقتل ابني خطأً
العجوز : حفيدي كان نائماً في غرفته , لحظة سماعي للطلقة الناريّة

وفجأة ! انهار سمير بالبكاء وهو يحمل جثمان ابنه :
- كيف طاوعكم قلبكم ان تقتلوا طفلاً يتيم الأم .. أحلف بالله إن الفاعل سينال جزاءه !!

وقبل ان يُدخل جثة ابنه الى غرفته , هدّدهم قائلاً : 
- سيعترف الفاعل بفعلته قبل نهاية العام , والا سأقتلكم الواحد تلوّ الآخر .. هل سمعتم !!
وبعد ذهابه , عاد الجيران الى شققهم وهم قلقين مما حصل
***

قبيل منتصف الليل , والجيران جلوس في بيوتهم على ضوء الشموع .. إذّ بهم يسمعون شجاراً عنيفاً في الخارج ! 
وحين أطلّوا من شرفاتهم , وجدوا البوّاب يتشاجر مع الحارس الذي عاد فجأة الى المجمّع رغم إجازته ! 
وسمعوا مقتطفات من حوارهما وهما يتعاركان بالأيدي , حيث كان سمير يتهمه بقتل ابنه .. 

وقبل ان يستوعبوا الموقف ! ضربه بقبضة المسدس على رأسه , ليسقط الحارس على الأرض ! ومن ثم أطلق الرصاص على ظهره .. 
فشهق الجميع برعب بعد تأكّدهم بأن تهديدات البوّاب حقيقية ! 

وبعد موت الحارس , صرخ سمير عالياً : 
- لقد نفذ صبري !! وطالما انه لم يعترف احد بقتله إبني , ولا حتى هذا الحارس اللعين .. فأريدكم ان تدفعوا ديّة الصبي .. والآن حالاً !! إبدأوا برميّ المال وحُليّ نسائكم الى الأسفل

فأطلّ مروان من الشرفة وهو يقول : وما دخلنا نحن ؟
- انت بالذات إيّاك ان تعترض !!.. ولأنك محامي مشهور , وابني مات في سيارتك .. فستدفع ضعف ما سيدفعه جيرانك
ووجّه سلاحه نحو الشرفات وهو يقول :
- احلف ان لم تبدأوا برميّ المال , سأدخل المبنى لقتلكم جميعاً.. وسأبدأ بأطفالكم !!

فأسرعت الأمهات برميّ عقدهنّ واساورهنّ اليه .. وخضع الرجال مجبرين لتوسّلات نسائهم , ليقوموا برميّ المال من حافظاتهم نحوه 

وبعد ان قام البوّاب بجمع الحليّ والمال , جرّ جثة الحارس الى سيارته القديمة التي كان وضع فيها جثمان ابنه .. قائلاً لهم :
- سأرمي جثة اللعين في أقرب مزبلة , ثم أدفن ابني في قريتي ..ولن تروني ثانية !!
العجوز : وماذا عن باب العمارة ؟ متى ستفتحه ؟!!
لكن سمير لم يجيبه ..وخرج بسيارته (التي فيها الجثتين) الى خارج المجمّع  

وهنا قال الشيخ لبقية الجيران :
- أحد تلاميذي قادمٌ غداً بعد الظهر , وحينها سأطلب منه إحضار الحدّاد لخلع القفل .. ومن بعدها نصلح اعطال الهاتف والكهرباء والماء.. فحاولوا ان تهدأوا قليلاً
فعادوا الى بيوتهم وهم يتنفسون الصعداء بعد رحيل البوّاب المجنون عن مجمّعهم السكني الفاخر ..
***

وفي الوقت الذي كانت فيه سماء المدينة تُضيء بمفرقعات العام الجديد , كان سمير متوجهاً نحو قريته .. 

وفي الطريق .. إستيقظ الحارس (في المقعد الأمامي) وهو يمسك رأسه بألم:
- ما كان عليك ان تضربني بهذه القوة يا سمير 
البوّاب : آسف , إندمجت قليلاً بالتمثيل .. المهم اننا حصلنا على المال والذهب , واريدك ان تسرع في بيع الحليّ بالسوق سوداء قبل ان يبلغوا الشرطة عن سرقتها
- حسنا سأفعل , لكن النصف بالنصف ..فأنا ايضاً خسرت عملي 
- لا تقلق .. المهم , ماذا عن المهمة الجديدة ؟

الحارس : هناك رجلٌ ثريّ يعيش وحيداً في فلّة بعيدة عن الناس  
سمير : اريدك ان تسأله ان كان يريد حارساً او بوّاباً او حتى خادم , لأعمل في منزله لفترة قبل تنفيذ خطتنا القادمة 
الحارس : لكن لا أظنه سيقبل ان يسكن ابنك الكبير معك
- لا تقلق , فلديّ آلاف الخطط غير التي نفذناها اليوم

وهنا نهض ابنه من المقاعد الخلفية ..
- أهذا يعني انني لن اعمل معكما بالخطة الجديدة ؟
والده سمير : ليس هذه المرة .. والآن غيّر ملابسك قبل وصولنا الى المنزل , كيّ لا تفزع امك واخوتك الصغار من الصبغة الحمراء 

واثناء تغير ملابسه , سأل والده :
- كنت وعدّتني بدراجة إن أجدّت دور الميت
ابوه بابتسامة : دراجةٌ جميلة , وحلويات لك ولأخوتك
الولد بسعادة : يا سلام !! 

الحارس : وانا سأهدي اختي غسالة بحوضين كما وعدتها 
الولد : ممتاز !! هكذا لن تضربني امي لإفساد ثوبي بالدماء المزيفة 
الحارس : محتالٌ كأبيه
الأب : وخاله ايضاً 
وضحكوا سوياً بخبثٍ ومكر !

هناك 7 تعليقات:

  1. قصة رائعة
    شكرآ أستاذة أمل

    ردحذف
  2. استمري بنششر هكذا قصص نحن ندعمك يا بطلة

    ردحذف
  3. قصة جميلة استاذة امل لماذا لم تعودي تكتبين في موقع كابوس

    ردحذف
    الردود
    1. حين اكتب قصة مميزة وتستحق النشر , ارسلها لكابوس .. اما هنا فأضع القصص التي لا بأس بها

      حذف
  4. لا قصصكي كلها جميلة ليست مجاملة بل الحقيقة على كل شكراا ننتظر جديدكي.

    ردحذف
  5. رائعة واختيار موفق للأستاذ احمد .وفقك الله ياكنز الابداع واتمنا لك النجاح الدائم

    ردحذف

الحب السرّي

كتابة : امل شانوحة  رئيس الخدم والخانم   شاهدت بالصدفة الخادمة وهي تخرج مُرتبكة من غرفة كبير الخدم بعد تنظيفها..  فسألتها حِراء (زوجة مالك ا...