الجمعة، 11 أبريل 2025

الإنتقام الطفولي

تأليف : امل شانوحة 

عقدة الماضي


فور خروج العجوز من منزله (للذهاب لصلاة العصر في الجامع) وجد ظرفاً على عتبة شقته ! وفي داخله ، صورةً له مع حفيده المُفضّل (ذوّ السبع سنوات) ..مكتوباً خلف الصورة :

((توجّه حالاً الى مدرستك القديمة .. ستجد تعليماتٌ اخرى هناك.. وفي حال رفضّت تنفيذ طلبي ، سأخطف حفيدك .. إيّاك إبلاغ الشرطة ، فأنا اراقبك بدقّة))

فشعر العجوز بالارتباك ! ولم يكن امامه إلاّ تنفيذ الأمر الغامض 

***


حين وصل لمدرسته المهجورة ، وجد ورقة مُلصقة على بابها الخارجيّ الصدىء.. وفيها أمرٌ ثاني من الشخص المجهول : بالتوجّه لحمام الخدم بالطابق السفليّ !


وبعد دخوله هناك.. دخل شخصٌ مُلثّمٌ خلفه ، وهو يقول :

- هل يُذكّرك المكان بحادثةٍ قديمة ؟

العجوز بقلق : من انت ؟!

فأزال لثام غترته ، ليظهر شابٌ يافع ..

العجوز : لم أعرفك !

فقال الشاب بحنق ، وبكلامٍ مُتلعثم : 

- انا الطالب الذي عاقبته على مشاغبته ، بالحبس في حمام الخدم المُعطّل طوال يوميّ العطلة !!


فارتجف العجوز رعباً ، محاولاً تبرير خطئه :

- كنت مشغولاً بترتيب حفلةٍ مدرسيّة .. ورأيتك تفقع البالونات التي علّقتها في الملعب .. فأثرت غضبي

الشاب : كنت بعمر حفيدك ، وأعاني من فرط الحركة.. وبدل ان تُفهمني خطئي بلطف ، قمت بحبسي هنا ! ولم تكتفي بذلك ، بل تركتني ليومين كاملين !!

- لم أتعمّد ذلك.. فبعد انتهاء اليوم الدراسيّ ، وجدّتُ صديقي بانتظاري خارج المدرسة .. والذي أصرّ على أخذني بنزهةٍ بريّة في عطلة الإسبوع .. ولم يكن هناك جوالات في ذاك الزمان.. وعندما عدّت مساءً الى بيتي .. علمت بأن اهلك مازالوا يبحثون عنك مع الشرطة ! حينها تذكّرتك.. وأسرعت الى هنا مع سيارة الإسعاف .. ووضع الممرّض المصل لك ، بعد جفاف جسمك من حرارة المكان


الشاب بعصبيّة : كانت دوّرة المياه مُعطّلة ، دون كهرباءٍ او ماء .. عدا عن الجن والعفاريت التي رأيت ظلالها ، وسمعت همّهماتها في الليلتين المظلمتيّن .. وربما مازلت ممسوساً حتى الآن ، لذلك حياتي مُعسّرة بالكامل !!

- عندما رأيتك شبه ميت ، عرفت عظم ذنبي .. واستقلت من وظيفتي كناظر ، رغم كوني في مثل عمرك الحاليّ.. كما دفعت عائلتي مبلغ تعويضٍ كبير لأهلك


فضرب الشاب بقبضته بعنف على باب الحمام ، أفزعت كيان العجوز :

- وما فائدة المال بعد ان عطبتني نفسيّاً ودمرّت مستقبلي !! فبعد الذي حصل ، رفضّت العودة للمدرسة .. ولم أكمل تعليمي.. وكما لاحظت ، لديّ مشاكل في النطق بسبّب حبسي في الظلام ، أصابتني بالتأتأة والتلعثم المزعجيّن .. مع رجفةٍ دائمة بيديّ ، منعتني تعلّم مهنةً حرفيّة .. عدا عن الكوابيس والأرق الدائميّن .. كما شاب شعر رأسي باكراً .. بالإضافة لرهابي من الظلام والأماكن الضيّقة.. والتبوّل اللّا إرادي الذي حرمني الزواج.. فبعد ان كنت ولداً مليئاً بالحياة ، أصبحت اعاني من الوحدة والإنطوائيّة.. ورغم كل معاناتي ، إلاّ انني نسيت امرك تماماً ! لحين رؤيتك بالصدفة وانت تُلاعب حفيدك الذي يُشبهني بحيويّتي القديمة..


العجوز باستغراب : وكيف عرفتني بعد عشرين سنة ؟!

- بالتأكيد سأعرفك !! فأنا من أطلقت عليك قديماً لقب الهندي ، بسبب الوحمة الحمراء المميّزة وسط جبينك

- كنت مشاغباً بالفعل !

الشاب : لكني مع هذا لم استحق عقابك الّلا إنساني !! لهذا خطّطت اولاً للإنتقام من حفيدك ، لأُشعرك بعذاب اهلي بعد ضياع مستقبل ابنهم الذي دمّرته نفسيّاً.. لكني شعرت بأن حفيدك لا ذنب له ، بما فعلته بي.. والأفضل ان تعيش تجربتي المريرة بنفسك !!


العجوز بقلق : ماذا ستفعل ؟!

- سأحبسك هنا ، طوال يوميّ العطلة

- لكن لديّ ادوية مهمّة عليّ تناولها

الشاب غاضباً : لا تهمّني صحتك !! .. (ومدّ يده) .. والآن هات جوالك

- لا ، لن افعل

فرفع المسدس في وجهه :

- إعطني ايّاه وإلاّ قتلتك ببطء !!


فأعطاه الجوال مُرغماً .. ثم أقفل الشاب الباب من الخارج بسلسلةٍ حديديّة ، وهو يقول بصوتٍ عالي :

- لا تحاول الصراخ او طرق الباب بقوّة .. فهذه المدرسة الكئيبة ، مهجورة منذ سنواتٍ طويلة.. ومن النادر مرور السيارات في زقاقها الضيّق .. فلا تُرهق قلبك المريض ، حسب معلوماتي الصحيّة عنك

وتركه وحده هناك !

***


في اليوم التالي .. عاد الشاب الى المدرسة ، للتأكّد بأن العجوز مازال هناك.. ووضع اذنه على باب الحمام ، دون سماعه شيء ! 

فطرق بكل قوته ، وهو يصرخ غاضباً :

- هيا استيقظ ايها العجوز !! فمازال امامك يومٌ آخر طويل.. هل ستقضي الوقت بالنوم ، ايها الكسول ؟!!


لكنه لم يسمع جواباً من الداخل ! فشعر بالقلق ، وفتح القفل .. ليجد العجوز ميتاً على الأرض بعد إصابته بسكتةٍ قلبيّة

الشاب بضيق : ايها اللعين ! لم تتحمّل ليلةً واحدة ، بينما تركت طفلاً يعاني وحده ليومين طويليّن ! .. والآن ماذا سأفعل بك ؟!

^^^


وانتظر حتى المساء ، لوضع جثته قرب الجامع قبل صلاة العشاء.. فتجمّع الناس حوله ، بعد اتصالهم بالشرطة

***


في يوم الدفن ، إقترب الشاب من الناس الذين أحاطوا قبره .. وسمعهم يعزّون ابناء الفقيد :

- مات وهو في طريقه للصلاة ، يالها من خاتمةٍ حسنة


فأغاظه كلامهم ! وخرج من المقبرة وهو يتمّتم غاضباً :

- بل مات في حمامٍ مهجور ، وهذه حتماً سوء الخاتمة .. (ثم تنهّد بضيق).. لكنه بالنهاية أصبح عند ربه العادل ، ولن يعاقبه على ذنبه مرتيّن (دنيا وآخرة).. ترى ماذا بشأني ؟ فأنا لم انوي قتله ، فقط عقابه على تدميره حياتي.. فهل سيسامحني الله على ذلك ؟!


ورغم حصوله على الإنتقام الذي خطّط له مُطوّلاً .. الا انه يعلم جيداً بأن تأنيب الضمير سيرهقه لما تبقّى من حياته البائسة !


هناك 13 تعليقًا:

  1. هذه قصة مستوحاة من احداث حقيقية حصلت في السعودية بزمن الثمانينات ، بعد حبس طالب ابتدائي ليومين في المدرسة .. هو لم يمت ، لكن لا ادري ما مصيره .. لهذا تخيّلت بهذه القصة نفسيّته المحطّمة .. كان الله في عونه ، فهي تجربة مرعبة بحق !

    ردحذف
  2. aوهناك اشد. جراحات السنان لها التءام ولا يلتءم ماجرح اللسان.بل قد تقتل النظرة الناطقه اشمءزازا او نفورا .برافو امل.

    ردحذف
  3. اطفال فرط لحركه او ذوي القدرات
    يعانون بالعصر الحالي
    من الاقارب والغرباء وحت اهل لا يعرفون كيف التعامل معهم قبل قليل احداهن منزله منشور عن تاخر ابنها بالكلام واعراضه ذوي قدرات
    اللي بقلها عالجيه بديل واللي بقلعا حطيه بروضه
    علاج هيك حالات الصبر مش نتيجه فوريه
    اام احتارت وكل طفل له حالته
    ابدعتي امل تخيلت القصه في بلاد موسم الرياض
    ققل ان اعرف عنها انها عندهم
    نتظر جديدك مع جاكلين

    ردحذف
    الردود
    1. التوحّد وفرط النشاط كانا متواجدان قديماً ، لكن ليس بالكثرة التي نراها حالياً .. يعني حالات نادرة ، ومع ذلك لم يكون الأهل او المدرسة قادريّن على التعامل معهم .. اعان الله الأهل على هذا البلاء الذي يتزايد كل يوم !

      حذف
    2. صحيح كلامك استاذه امل
      الاهل في منهم مابرضى يتعامل انو ابنو فيه خلل
      الثقافه المرضيه قليله
      بدهم نتائج سربعه

      حذف
    3. ربما في الماضي .. حالياً اصبح الأهل اكثر وعياً لهذه الأمراض المتزايدة

      حذف
  4. عدنان كردستان12 أبريل 2025 في 12:49 ص

    عندما يكون القانون ضعيف يتولد الانتقام
    فلو كان تم اتخاذ الاجراء القانوني بحق الناظر بالشروع بالقتل لكان نال سجن مع سحب المهنه منه لكن استقال لكي يغلق الموضوع ودفع المال لاهل الطفل يعني مثل الصلح مع اهل الطفل الذي لم يعجب الطفل عندما كبر

    ردحذف
    الردود
    1. وهذا رأي ايضاً : كان يجب سجن الناظر ، لأن جريمته لا تغتفر ..وضررها مستمرّ في حياة الشاب البائس

      حذف
  5. حائكة الأحلام
    السلام عليكم أختي أمل موضوع مهم حقا وأنا أقرأ ذكرتيني في الأحداث التي تحصل عندنا بسبب إنتقام التلميذ للمعلم حتى وصل بهم الأمر إلى قتل المعلم وكذلك الظاهرة الخطيرة وهي ظاهرة الإختطاف فهم قلوب لارحمة فيهم ولا شفقة حقا كانت قصةجيدة حقا كما قلت سيكمل حياته مأنبا للضمير شكرا بوركت يداك

    ردحذف
    الردود
    1. لم يعد هناك احترام بين الطالب والمعلّم كزمن الماضي ، بسبب وقوف الأهل بصف ابنائهم حتى لو تطاولوا على معلّميهم !
      برأي يجب ان تكون جميع المدارس حكوميّة ، لأن المدارس الخاصة جعلت الأدارة والمعلّمين في خدمة الطلاّب ، وليس العكس !

      حذف
  6. عندما قرات القصه تذكرت اطفال غزه كيف هم وكيف صدمتهم من فقد اهليهم وكم هي معاناتهم فلقد مرو بحداث امر وافضع بكثير حسبنا الله ونعم الوكيل.
    استاذه امل انتي حقا مبدعه اتمني لك ابتوفيق

    ردحذف

جندي الحدود

تأليف : امل شانوحة    المهمّة الصعبة اثناء وقوف الجندي (الثلاثيني) بجانب كوخه الحديديّ على الحدود الفاصلة بين الدولتيّن ، مسح فمه الملي بالد...