الاثنين، 20 يوليو 2020

فتنة الطائفيّة

تأليف : امل شانوحة


التاريخ يُعيد نفسه !

عادت منال الى لبنان بعد ثلاثين سنة من الغربة .. وبعد وصولها تجوّلت بالأماكن السياحية والأثريّة .. وزارت منطقتها لاستعادة ذكريات طفولتها .. وكان من ضمن احلامها زيارة منزل الصحفي مروان الذي قُتل ايام الحرب الأهلية اللبنانية , والذي تعدّه مثلها الأعلى والسبب في إمتهانها الصحافة ..

ورغم شهرته الواسعة ايام الحرب , وشجاعته النادرة في تصوير اهم احداث المعارك , الا أن عائلته تعيش على حافة الفقر ! 

واثناء حديثها مع ابنته الكبرى أخبرتها عن يوم وفاته بطلقةٍ ناريّة في رأسه , من قنّاص تربّص بالمارّة من اعلى برج المرّ في المنطقة الشرقيّة .. وأن كل ما تبقى من أثره هي كاميرته القديمة ..

فرغبت منال برؤيتها , فاقترحت ابنته بيعها لها بسعرٍ مقبول لتسديد أجار البيت .. 
فدفعت منال ثمنها , وأخذتها لمنزلها .. 

وهناك تأمّلت الكاميرا قديمة الصنع .. ووضعتها على كتفها لتقليد استاذها مروان .. 
- يا الهي ! كم هي ثقيلة .. كيف تنقّل بها اثناء القصف العشوائي ؟
ثم وضعت عينها في منظار الكاميرا , ليحصل شيءٌ مخيفٌ للغاية!

حين فتحت عيناها .. وجدت نفسها في منطقةٍ فقيرة , قبيل الفجر .. والناس تركض من حولها بفزعٍ شديد !
وطلقات النار تدويّ في ارجاء المكان المحاصر من الخارج بالدبابات ..
فنظرت الى لافتة معلّقة على الجدار المتهالك , مكتوباً عليها :
((منطقة صبرا))
فقالت بخوف : يا الهي ! هل عُدت ليوم مذبحة صبرا وشاتيلا ؟!

ووقفت هناك دون حراك , وهي تشاهد الجنود يوقفون الرجال امام الجدار لتصفيتهم جميعاً.. 

فراعها المنظر ! وركضت مع بقية النسوة هرباً من العساكر الذين ارادوا الإعتداء عليهنّ , دون الإكتراث بأعمارهنّ سواءً كنّ اطفالاً او عجائز .. لكنها انتبهت إن لا احد يراها رغم كاميرتها الضخمة ! فهدأ خوفها وأخذت تراقبهم عن بعد وهم يشوّهون الجثث ويحرقون المنازل , وهم في قمّة السعادة والإعتزاز بالنفس !  

فلم يعد باستطاعة منال تحمّل كل هذه الوحشية , فضغطت على زرٍّ موجود في الكاميرا لإعادتها الى المستقبل .. لكن الأحداث توقفت فجأة ! حيث تجمّد الجميع امامها .. 
فأتتها فكرة غريبة : لما لا تتعرّف على المجرمين الذين لم يحاكموا عن فظائعهم ليومنا الحالي !

واقتربت منهم لتصوير وجوههم عن قرب , واستغلّت تجمّدهم لأخذ هويّاتهم من جيوبهم وتصوير اسمائهم بكاميرتها .. 
وبعد انتهاء عملها , وخروجها من هناك .. ضغطت زرّ الكاميرا لمتابعة الأحداث , ليرتفع معها أصوات الصراخ وطلقات النار من داخل المخيّم المُحاصر .. 

وقبل إبتعادها عن دبّابات العدو , سمعت أحدهم يناديها من الخلف :
- هاى انت !! توقفي والا أطلقت الرصاص عليك
فأصابها الهلع : (هل رآني ؟!)

واستدارت ببطأ .. لترى الجندي يوقف امرأة تحمل جالون ماء على رأسها , عبّأته من ماسورة مُنفجرة لإحدى المباني .. 
فقام بإطلاق النار على الجالون مُهدراً الماء في الشارع , قبل رمي السيدة الى داخل المخيّم لتلقى مصير النّسوة هناك ..

فعادت منال لضغط مراراً على زرّ الكاميرا للعودة الى المستقبل , لكن الكاميرا العجيبة نقلتها لحدثٍ آخر .. وكأن روح المصوّر مروان يريدها توثيق ما رآه سابقاً , قبل إتلاف الأعداء فيديوهاته بعد مقتله

لتنتقل هذه المرة الى قسم الطوارئ لإحدى المستشفيات .. حيث وقفت في الممرّ المُضاء بالشموع , والملوّث بدماء الجرحى الملقين على جوانبه وهم يصرخون من الألم بعد تقطّع اطرافهم من القنابل التي دمّرت بيوتهم .. 

فدخلت غرفة الجراحة لترى الطبيب يحاول بشتّى الطرق علاج حروق طفلٍ أصيب بقنبلةٍ فسفورية , لكنه عجز عن تخفيف آلامه .. فطلب من ممرّضته إنزاله الى القبو لحين موته .. ثم دفنه بالتراب لإطفاء النار التي أبت ان تنطفأ بالوسائل العادية !

وكانت رائحة المستشفى تثير الغثيان , فضغطت منال على زرّ الكاميرا التي نقلتها الى شارعٍ مظلم بعد انقطاعٍ تام للكهرباء , والذي خلا من السيارات , فيما عدا الدبابات والجنود وهدير الطائرات الحربية تشقّ عنان السماء .. فرأت هناك مخبزاً مفتوحاً , يعمل عمّاله على ضوء البطارية لتوفير الخبز للناس في الصباح الباكر .. 

حينها لاحظت رجلاً يوقف سيارته قرب المخبز .. والتي انفجرت بعد هروبه , مودية بحياة الخبّاز وعمّاله وبعض المارّة الأبرياء !  
فضغطت منال زرّ التقديم بالكاميرا لرؤية المشهد من جديد .. حيث استطاعت هذه المرة تصوير وجه المجرم فور خروجه من السيارة , وتصوير هويّته بعد تجميده بزرّ التوقف .. قائلةً بحزم : 
- سأحرص على نيلك العقاب مع بقية المجرمين , إن كنت مازلت حياً في المستقبل

ثم تتابعت الأحداث .. لتقوم بتصوير العائلات المكدّسة في الملاجىء , وانهيار المباني بالقنابل الصوتية ..وحصار المناطق والمجاعات .. كما معتقلات التعذيب ومراكز التفتيش بالطرقات , وسرقة الصيدليات.. الى ان وصلت لبرج المرّ .. فقامت بتصوير القنّاص اثناء صعوده لطوابق العليا .. ووثّقت لحظة مقتل المصوّر مروان اثناء البثّ المباشر لأخبار المحطة الوطنية ..

وكاد الشريط الموجود في الكاميرا ان يمتلأ بالأحداث , فخطرت ببالها فكرة العودة لأول حادثة تسبّبت باندلاع الحرب الأهلية .. وبعد ضغطٍ مطوّل على زرّ التقديم في الكاميرا .. رأت نفسها تجلس في حافلة صغيرة اثناء مرورها من منطقة عين رمّانة .. فصرخت منال بعلوّ صوتها لإيقاف السائق قبل وصوله للكمين , لكن لا احد من الركّاب رآها او سمعها ! 

فجلست بحزن امام سيدة عجوز تعلم قريباً انها ستكون من ضمن الضحايا 
ولم يكن امامها سوى تصوير المجرمين الذين اقتحموا الحافلة لقتل الركّاب بناءً على جنسيتهم , والذي بسببه عانى اللبنانيون من حربٍ اهلية دامت 15 عاماً ..
***

بعد امتلاء الشريط بأهم المعارك والأحداث الماضية , أعادها زرّ الكاميرا اخيراً الى المستقبل .. حيث وجدت نفسها تقف امام سينما في إحدى المولات .. 

فخطرت ببالها فكرة عرض الشريط على المشاهدين القادمين لمشاهدة فيلم أكشن , رغم ان معظمهم مراهقين لم يعاصروا الحرب الأهلية 

وطرقت باب غرفة التحكّم .. ليعاتبها المسؤول : 
- يا آنسة , ممنوع الدخول الى هنا
فأرته بطاقة عملها :
- انا صحفية , وأتيت في مهمّةٍ رسمية
- وما المطلوب مني ؟
- عرض هذا الشريط الوثائقي دون إيقافه 

ثم توجهت لقاعة السينما لتصوير ردّة فعل الجمهور , لكن الحارس أوقفها بعد رؤيته لكاميرتها الضخمة :
- هل أتيت لسرقة الفيلم ؟
فأرته بطاقتها , وأخبرته عن مهمّتها الرسمية ..

فأدخلها الى هناك .. لتلاحظ نظرات اليافعين الساخرة من كاميرتها الضخمة , دون إكتراثها لهم .. وجلست خلف رجلين في الأربعينات من العمر , هم الأكبر سناً بين الحضور..

ثم اطفأت الأنوار , لعرض الفيلم الوثائقي المُتضمّن صوراً واسماء مجرمي الحرب .. 
فشعر المشاهدون بالغثيان , وبعضهم بالغضب لأنه ليس الفيلم الذي دفعوا تذكرته .. 

الا ان عرض فضائح الحرب آثارت أحد الرجلين الذي قال لصديقه بعصبية : 
- اليس هذا والدك ؟! 
- لم اكن اعلم انه اشترك بالمعارك ؟!
- يا لعين !! أخوالي قتلوا في تلك المذبحة .. والله سأقتل اباك بيديّ هاتين !!
- اساساً الحرب لم تكن لتحدث لولا لجوئكم لبلدنا ..
- بل انتم بدأتم الحرب حين قتلتمونا بحافلة عين الرمّانة , ومن دون سبب!!

وتشابكت ايديهما .. وعلا السباب والشتائم بين الشباب الذين انقسموا الى فريقين , كلاً يدافع عن طائفته .. 

ولم يتوقف العراك حتى بعد إيقاف الفيلم , وأسرع الحرس لإبعاد المتشاجرين .. 
لكن الأمور تأزّمت بعد ان رمى أحدهم الكرسي على رأس الآخر , فقتله !

فحاولت منال الهرب , الا ان كاميرتها سقطت من يدها بعد تدافع الناس الى خارج السينما.. فلمّلمت اجزائها المنكسرة على عجل .. 

وبعد خروجها , وجدت الفوضى والرعب إنتقلت لبقية المتسوقين الذين فرّوا من المول بعد سماعهم للنزاع الحاصل في السينما 

ولم تنتهي الكارثة هنا , بعد قيام أحد المراهقين بنشر الفيلم الذي صوّره على جواله بالإنترنت , مُحدثاً ضجّة اعلامية كبيرة .. تسبّب بمظاهراتٍ عنيفة تطالب بمعاقبة المجرمين القدامى ..

فحاولت منال تصليح الكاميرا المحطّمة للعودة الى الماضي ومحوّ الفيلم بأكمله .. لكن البائع أخبرها ان كاميرتها قديمة الصنع , ولا قطع غيار لها 
***

بعد أشهر .. راقبت منال لبنان من نافذة طائرتها بعد عودتها للغربة , مُثقلةً بتأنيب الضمير لفشلها في محاسبة مجرمين القدامى .. حيث أدّى تصويرها للجناة لنتيجةٍ عكسية , تسبّب باندلاع حربٍ اهلية أعنف بكثير من سابقتها , أدّت لتقسيم لبنان لعدة مناطق .. دون وجود بوادر أمل هذه المرة لإخماد فتنة الطائفية التي دمّرت البلاد بإكملها ! 

******
ملاحظة :
كتبت سابقاً عن احداث مذبحة صبرا وشاتيلا في قصة بعنوان :
1- شاهدة على المجّزرة :

كما كتبت قصة عن برج المرّ بعنوان : 
2- القنّاص والأشباح :

وقصة اخرى عن حرب لبنان بعنوان :
3- آلام الحرب :

والقصة الرابعة بعنوان : 
4- ملجأ الحرب :

أتمنى ان تنال إعجابكم ..

هناك 6 تعليقات:

  1. قد قرأته كلهاا أنتيي مبدعةة حقاا...أحب قراءة قصصک ربي يحفظک أستاذة أمل..متابعتک منن ليبيا⁦��

    ردحذف
  2. مذابح صبرا و شاتيلا موثقة تاريخيا و لا احد يستطيع نكرانها و هي مرفوضة و مشينة لكن انا هنا لست للدفاع عن احد ابدا و احترم القضية الفلسطينية و الاخوة الفلسطينيين ولكن يجب علينا عرض كل الحقائق انه ايضا الفلسطينيين في لبنان اكرر و اقول فقط في لبنان ارتكبوا مجازر كبيرة ايضا بحق اللبنانيين و انا احببت عرض الحقيقة كاملة و لا ادري لماذا دائما اخت امل تصورين انه فقط الفسلطينيين هم دائما مظلومين بكل شيء و شكرا اتمنى نشر تعليقي

    ردحذف
    الردود
    1. كما تلاحظين بالقصة لم اذكر كلمة فلسطيني او مسيحي او مسلم .. انا فقط اتمنى كما تمنت منال ان يعاقب كل مجرم حرب عن فظائعه , ومن اي طائفة كان .. لكن المضحك في لبنان اننا بدل ان نعاقبهم , إنتخبناهم ليقودوا البلاد للهاوية .. على كلٍ , ان لم يحاكموا في الدنيا , فحتماً تنتظرهم محاكمة الآخرة العادلة .. كان الله في عوننا جميعاً

      حذف
    2. مع ذلك الفلسطينين لم يرتكبو مجازر وحشية مثلما فعل اللبنانيين فيهم بصبرا وشاتيلا وتل الزعتر والكرنتينا وجسر الباشا حتى ضحايا مجزرة الدامور بضعة عشرات وليس آلاف مثل صبرا وشاتيلا وتل الزعتر

      حذف
  3. نعم انا ضد كل هذه الطبقة السياسية الفاسدة جميعها و كما ذكرت لا ادافع عن احد و انني من اشد معاقبة هذه السلطة و احزابها اجمعين لولا وجودهم لما وصلنا لهذا الانهيار و المضحك انه رغم ذلك مازالو متمسكين باحزابهم

    ردحذف

التوأمتان المتعاكستان

تأليف : امل شانوحة  الطيّبة والشريرة دخلت السكرتيرة الى مكتب مديرها (جاك) لتجده يفكّر مهموماً :   - إن كنت ما تزال متعباً ، فعدّ الى قصرك ...