تأليف : امل شانوحة
رُبّ صدفةٍ خيرٌ من الفِ ميعاد
اثناء جلوس سيدة ثلاثينيّة بقاعة الإنتظار المُكتظّة بالمطار .. تفاجأت بولد (بالثالثة من عمره ، يحمل رضّاعة الحليب) يضع رأسه فوق قدميها ، كأنه يبحث عن حضنٍ يعرفه ! لتجد والده يهروّل نحوها ، والجوّال بيده .. مُعتذراً بارتباك :
- آسف ! هو تعوّد على الحمل اثناء شربه الحليب
وعندما حاول إبعاد طفله .. صرخ الصغير ، وهو يرفع نفسه للجلوس في حضنها !
فحملته برفق ، وهي تقول للأب :
- لا بأس ، ستأخذه بعد إنهاء حليبه
وعلى الفور !! هدأ بحضنها ، وهي تُهدّهده .. فسألت والده :
- اين امه ؟!
فردّ بقهر : إنفصلنا قبل عام
- الا تزور طفلها ؟!
- تزوّجت غيري ، وسافرت معه للخارج
- المسكين ! مُشتاقٌ لأمه.. حسناً ، يمكنك تركه معي
فجلس الأب على المقعد المقابل وهو يشاهدها تُدنّدن للصغير بلحنٍ خافت ، لتشجيعه على انهاء رضّاعته.. وتبتسم له ، كأنها تعرفه منذ ولادته .. ربما رأت بعينيه الصغيرتيّن ، أمومتها المُؤجّلة !
واثناء شربه الحليب ، اشار الطفل الى حذائه..
الآنسة : هل هو ضيّق ؟
وأزالت الحذاء والجوارب ، لتلاحظ إحمراراً بقدميه !
فقالت للوالد :
- يجب ان تنتبه على المقاس
الأب : لا افهم بهذه الأمور
- لا الومك .. ستتعلّم مع الوقت
وأخرجت مُرطّباً من حقيبتها اليدويّة ، ودهنت قدما الصغير لتخفيف المه.. بينما يراقبها الرجل من بعيد ، كأنها لامست (بحنانها على ابنه) قلبه المكسور !
وظلّت تعتني بالصغير ، حتى غفى بين يديها .. ثم اعادته للأب
وكانت لحظةٌ مُحرجة ، عندما اقترب منها كثيراً لحمل طفله .. مما اربكها ، فهي لم ترتبط من قبل ! وهو شعر بذلك ، واعتذر بلطف
^^^
ثم انفصلا بعد صعودهما الى الطائرة ، بعد جلوسها في مقصورة الدرجة الإقتصاديّة بينما هو وابنه في درجة رجال الأعمال..
وما ان اقلعت الطائرة ، حتى سمع الجميع بكاء الطفل ! لتنتبه على الصغير يلوّح لها من بعيد .. لكنه غير مسموح لها الذهاب اليه..
فتحدّث الأب مع المضيفة التي اقتربت منها :
- يمكنك الإنتقال الى هناك ، فالسيد دفع فرق التذكرة .. يبدو ان ابنه يريدك
وذهبت اليهما .. ليُسارع الطفل بسحب يدها ، لإجلاسها قربه !
الآنسة بارتباك : لحظة حبيبي ! .. (ثم قالت للأب).. إجلس انت بجانبه ، وانا أجلس جهة الممرّ
الأب : العنيد يريد جلوسك بجانبه
الآنسة : اذاً نُجلسه بالوسط
الأب : لكنه يريد رؤية البحر من النافذة
فاضطّرت الجلوس في الوسط ، وهي تُخفي ارتباكها :
- رجاءً إخبرني بفارق سعر التذكرة ، لأدفعه لك
الرجل : الا يكفي ازعاج ابني بعد تعلّقه بك ، إعتبريها هديّة شكرٍ مني
ثم قدّمت المضيفة طعام الأطفال اولاً.. فأخذ يراقبها وهي تُطعم ابنه بهدوءٍ وتأنّي.. كأنه يرى مشهداً يُعيد بناء قلبه المُحطّم !
وبعد انهاء اكله ، جاء طعامهما..
فأخذ الولد الشطيرة من صينيّة والده ، لإطعام الآنسة بنفسه (كما فعلت معه)
الآنسة بإحراج : أنظر حبيبي ، لديّ شطيرتي
لكن الصغير أصرّ على إطعامها بيده ! فأكلت قضمةً صغيرة ، قبل اعادته الشطيرة لأبيه..
فقالت للأب : رجاءً دعني أقتطع الجزء الذي أكلته بالسكين
لكنه فاجأها بأكل الشطيرة من بعدها ! مما أخجلها ، فهي غير متعوّدة على تودّد الرجال
وبعد انشغال الطفل بالرسوم المتحرّكة على الشاشة امامه ، سألت والده :
- سمعتك تتحدّث بالجوال عن امورٍ تجاريّة ؟
الرجل : لديّ شركة للأدوات الكهربائيّة ، وأسافر كثيراً لجلب البضاعة
- وكيف ستهتم بإبنك ؟
- لهذا أعود للوطن ، لوضعه عند امي
الآنسة بقلق : وهل تستطيع جدته الإهتمام به ؟
- امي صحتها ضعيفة .. خادمتها ستهتم به
- الخادمة ! الا يكفيه غياب امه ، ليفتقد والده ايضاً !
الرجل بحزن : لا حلّ آخر امامي ، سوى..
ثم نظر اليها مطوّلاً ، قبل ان يسألها :
- أعتذر عن تطفّلي ، لكن لما لم تتزوجي حتى الآن ؟
الآنسة : أنا فتاةٌ انطوائيّة ، ولا احب المناسبات .. والقلّة من اقاربي يعرفونني
الرجل : بصراحة لا يوجد اجمل من سيدة المنزل (المرأة البيتوتيّة)
- أحقاً !
- اساساً هذا سبب طلاقي من زوجتي التي تقضي جُلّ وقتها بالخارج .. وبالنهاية اتهمتني بالعقليّة المُتخلّفة .. وانفصلت عني للزواج بعجوزٍ ثريّ ، غير آبهة بطفلها !
الآنسة : لا حاجة لخروجي كثيراً .. فعملي على الإنترنت ، لأني مُدقّقة لغويّة
- ممتاز !! هذا ما ابحث عنه
- ماذا تقصد ؟
الرجل بتردّد : لا ادري ان كنت ستوافقين على رجلٍ مُطلّق لديه طفل ؟
فمسّدت شعر ابنه (المنشغل بالتلفاز) وهي تقول بابتسامةٍ حنونة :
- إن كان جميلاً وهادئاً هكذا ، فلا مانع عندي
وهنا ظهر صوت الطيّار ، طالباً وضع الأحزمة للهبوط ..
لتتلامس يدها مع اصابع الأب اثناء مساعدتها بربط حزامها ، والذي ابتسم بعد احمرار وجهها خجلاً
***
لم يبقوا في الوطن الا اسبوعين ، قبل عودتهم كعائلةٍ مُحبّة..
وبينما هم في الطائرة .. سأل الولد اباه ، وهو يشير اليها :
- هل ستبقى معنا ؟
ابوه : نعم ، من اليوم ستعيش معنا.. (ثم قبّل وجنته).. أشكرك على اختيارك الرائع ، يا بنيّ
زوجته بدلال : إبنك ذوّاق
الأب ممازحاً : مثلي تماماً
وبطريق العودة ، لم ينمّ الطفل وحده مُطمئناً .. بل نام العريسان بعد ان وجدا حضناً دافئاً ، خلال صدفةٍ جمعتهما دون موعدٍ سابق !