الثلاثاء، 4 أكتوبر 2022

بيت الشجرة

كتابة : امل شانوحة 

 

المشرّد والأطفال


في قريةٍ صغيرة يسكنها عمّال السكّة الحديديّة مع عائلاتهم .. قام الآباء ببناء كوخٍ صغير فوق الشجرة ، لإبعاد اطفالهم عن محطّة القطار (قيد الإنشاء).. حيث تعوّد الصغار على اللعب فيها ، بعد خروجهم من المدرسة الوحيدة المتواجدة هناك..


وفي يوم قرّر الأولاد الأربعة (من عمر 9 الى 12) التجمّع فوق الشجرة لتناول الحلويات ، ليتفاجؤا برجلٍ مُشرّد (ستينيّ) نائماً هناك!

فاغتاظ كبيرهم ، وأيقظه قائلاً :

- ماذا تفعل هنا ؟! هذه شجرتنا


ليلاحظ المشرّد كيس الحلويات الذي معهم ! فسألهم :

- أيمكنني مشاركتكم الطعام ؟ فأنا لم آكل شيئاً منذ البارحة

فنظروا لبعضهم بضيق ، قائلاً اوسطهم :

- ونحن لم نشتري شيئاً من مقصف المدرسة طوال إسبوع ، لكيّ نحتفل سوياً.. رجاءً أترك شجرتنا ، وإلاّ نادينا آبائنا


المشرّد وهو ينظر للأولاد الأربعة ، ويكشف اسرار آبائهم : 

- أتقصد والدك الذي يقضي لياليه في البارّ ، ويعود سكراناً الى منزله ؟ ام والدك انت ، الهائم بعشيقته ؟ .. ام والدك الذي ينهال ضرباً عليك وعلى والدتك دون سبب ؟ ..اما انت !! فيتيم على ما أعتقد

فنظروا لبعضهم باستغراب : 

- كيف عرفت ؟!

المشرّد : راقبت منازل القرية لشهور ، دون أن يلاحظني احد 

- نحن لم نرك من قبل !

المشرّد : ولما تكترثوا لعجوزٍ بائسٍ مثلي ؟

- وكيف أصبحت مشرّداً ؟


المشرّد : دعوني اتناول الطعام اولاً ، ثم أجيبكم على اسئلتكم 

- ولما نهبك طعامنا ؟

المشرّد : لن يكون مجّاناً ، بل سأروي قصة حياتي والتجارب السيئة التي مرّرت بها ، كيّ لا تصبحوا بائسين مثلي في المستقبل 

- يعني قصة مقابل الطعام ؟ .. أظنها قسمة عادلة  

ووضعوا الحلويات امامه ، وأكلوها معه.. 


من بعدها سأله كبيرهم :

- الآن إخبرنا كيف كانت طفولتك ؟

المشرّد : كنت مثلكم مُفعماً بالحياة والنشاط .. إلاّ أن والدي كان عصبياً جداً .. ويجبرني على التفوّق بدراستي ، وإلاّ نلت أقسى العقوبات.. حيث منعني من اللعب ومشاهدة التلفاز حتى نهاية السنة الدراسيّة .. وحين أصبحت مراهقاً ، توفيّ والدي بحادث سير ..وتزوجت امي من رجلٍ آخر ، سافرت معه للخارج ..

- الم ترها ثانيةً ؟

المشرّد : لا ، اكيد توفيّت منذ وقتٍ طويل

- إكمل قصة


المشرّد : عشت بعدها عند جدتي البخيلة التي رفضت دفع اقساط مدرستي رغم تفوّقي على زملائي ! حتى انني ترّجيتها لنقلي الى مدرسةٍ حكوميّة لإكمال المرحلة المتوسطة .. لكنها رفضت ، وأجبرتني على العمل في السوبرماركت للحصول على مصروفي .. وعملت هناك سنتين ، قبل أن يطردوني بعد اتهامي ظلماً بالسرقة! 

- ولما لم يراجعوا كاميرات المراقبة ؟

المشرّد : كانت الكاميرات في زماني مُقتصرة على البنوك والدوائر الرسميّة المهمة ، فتكاليفها باهظة 

- وماذا حصل بعدها ؟


المشرّد : أصرّت جدتي على إيجادي عملاً آخر ، كيّ أدفع لها ثمن السرير الصدىء الذي انام عليه في مرآبها ! لهذا تطوّعت في الجيش الأمريكي ، وعشت في المعسكر اجمل سنوات حياتي .. الى ان التحقت بأخر سنة لحربنا مع الفيتنام ، وكنت بالعشرينات من عمري .. وقد صدمني ظلمنا للشعب المسكين !

- نحن ظلمناهم ؟! 

المشرّد : لا تصدّقوا الأفلام ، فجيشنا أفنى قرى بحالها مليئة بالنساء والأطفال والعجائز دون ذنبٍ يُذكر ! 

- وكم بقيت هناك ؟

المشرّد : ثلاثة اشهر ، قبل عودتي للوطن بعد بتر ساقي

فنظروا جميعاً لقدمه .. فرفع بنطاله ، لتظهر قدمه الخشبيّة !


المشرّد : وبعد أن أصبحت معاقاً ، صار من الصعب إيجاد عملٍ لائق.. فتنقّلت ببعض الوظائف : كعامل في محطّة بنزين ، ومصلّح احذية ، وبائع آيس كريم ، وعامل نظافة .. الى جمع العلب البلاستيكيّة من الشوارع ومكبّ النفايات ..هكذا حتى مرّ العمر.. وقبل شهور اتيت الى قريتكم ، وساعدتني بعض النسوة ببقايا الطعام .. واليوم وجدت شجرتكم , وقرّرت النوم في بيتكم الصغير إحتماءً من حرارة الشمس

- واين عشت سابقاً ؟

المشرّد : في بداية سكنت في منزل جدتي بعد وفاتها ، فأنا وريثها الوحيد ..إلاّ أن منزلها المتهالك تتطاير مع اول إعصار .. فعشت بغرفةٍ مشتركة مع العمّال .. ثم أصبحت مشرّداً تحت الجسور ، وفي الأزقّة الفقيرة

- وما أصعب شيءٍ مرّرت به ؟


المشرّد : عندما مرضّت بشدةّ في الشتاء الماضي .. وكنت مستسلماً تماماً لفكرة الموت .. ولوّ يرضى الربّ بقتل أنفسنا ، لانتحرت منذ مدةٍ طويلة 

- وكيف تخيّلت حياتك حين كنت بعمرنا ؟ 

المشرّد : لوّ بقيّ والدي حياً ، لأصبحت طبيباً كما أراد ، ولكانت حياتي افضل بكثير من الآن

- ولما لا تعمل مع آبائنا في بناء سكّة الحديد ؟

المشرّد : هذا عملٌ شاقّ ، يحتاج لشباب ورجال اقوياء لحمل القضبان الحديديّة .. وانا عجوز بقدمٍ خشبيّة

- ماذا عن طبخك ؟


المشرّد : عملت مرة في مطعمٍ للوجبات السريعة .. وحسب آراء الزبائن ، أعجبوا كثيراً بشطائري .. لما تسأل ؟

- لأن طبّاخ العمّال ، سافر قبل اسابيع للمدينة المجاورة .. وابي وزملائه يبحثون عن غيره ..ولليوم لم يجدوا بديلاً .. فما رأيك أن تعمل في مطبخهم .. فهو مجهّزٌ بالكامل ، ومخزنه مليء بالمؤونة.. كما يوجد غرفة مخصّصة للطبّاخ ، يمكنك النوم فيها بدل الشوارع

- او في منزل شجرتنا 

المشرّد : وكم عامل في محطّتكم قيد الإنشاء ؟

- قرابة الخمسين عاملاً

المشرّد : صعبٌ عليّ إطعامهم جميعاً .. ما رأيكم لوّ تساعدوني مقابل أجرة يوميّة ، حسب تعبكم

فنظروا لبعضهم بارتباك !


المشرّد : يعني بدل تضيّع وقتكم باللعب بعد المدرسة ، تحصلون على راتبٍ تشترون به ما تشاؤون من الحلوى .. وبنفس الوقت يفتخر بكم آبائكم لتحمّلكم المسؤولية واعتمادكم على انفسكم 

- سنسألهم إن كانوا يوافقون على ذلك ام لا

- إنتظروا يا اصدقاء ، فكل هذا متوقف على نوعيّة طعامه إن كان جيداً ام لا

المشرّد : وانا مستعدّ لأيّ إمتحان

- المشكلة إن اخذناك لمدير العمّال بهذا المنظر ، لن يوافق عليك

- نعم ، انت تحتاج للإستحمام وملابس جديدة

- وقصّ ذقنك وشعرك الطويل

- وصبغةٌ سوداء ، لتبدو رجلاً نشيطاً 

- ولا تخبرهم عن إعاقتك .. على الأقل في الوقت الراهن


المشرّد : وانا لا امانع من تغيّر مظهري 

- اذاً سنأخذك عند رئيس بلديتنا ، فهو يحب الخير .. وربما يعطيك ملابسه القديمة

المشرّد بحماس بعد إعجابه بالفكرة : اذاً !! هيا بنا

***


في البداية تردّد رئيس البلديّة بمساعدة الغريب الذي وصل الى قريتهم قبل شهور ! لهذا أجرى مكالمة مع شرطة المدينة المجاورة التي عاش فيها المشرّد (جاك) طوال حياته .. فأخبروه بعد ساعة : إنه لا يوجد ملفّ قضائي بإسمه ، وانه حاصل على وسام الشجاعة من الجيش .. 


فوافق الرئيس على استحمامه في منزله (الذي يسكنه وحده بعد وفاة زوجته) وأعطاه بعض ملابسه .. كما سمح له النوم تلك الليلة في غرفة الضيوف .. 

***


في الصباح الباكر ، قدّم جاك على الوظيفة .. وبدأ العمل فوراً في المطبخ 


وفي وقت الظهيرة .. إنضمّ اليه الأولاد الأربعة بعد خروجهم من المدرسة لمساعدته بتقديم الشطائر للعمّال الجائعين ، والذين أعجبوا كثيراً بمذاق طعامه 

***


بعد عيش جاك لسنوات في غرفة المطبخ ، إستطاع جمع المال لفتح مطعماً صغيراً امام المحطّة التي تمّ افتتاحها حديثاً .. وسرعان ما أُعجب المسافرون بوجباته الجديدة التي اخترعها بنفسه ، بمساعدة الأولاد الأربعة (بعد أن صاروا مراهقين) الذين استفادوا كثيراً من نصائحه الحكيمة التي ساعدت بنضوجهم واستقامتهم ، حيث عدّوه أباً وناصحاً لهم .. 


كما اعتادوا كل عام على الإحتقال مع جاك العجوز فوق الشجرة (بنفس اليوم الذي التقوه اول مرة) لتشارك الحلوى معه ..وهم يستذكرون ذكرياتهم جميلة ، بعد أن ساهم بيت الشجرة بتغيّر حياتهم نحو الأفضل ! 


هناك 7 تعليقات:

  1. قطه طريفه وظريفه ولطيفه
    وان كانت خفيفه
    ولا داعي لان انكد عليكم اليوم
    وسنكتفي بمحاكم التفتيش الخاصه بالاخت امل ههههه 👽👾👽👾👽👾👽👾👽👾

    ردحذف
  2. قصة جزيرة ابليس
    هل نشرت هنا من قبل ؟
    استطعت فقط ان اقرا جزء صغير منها في واجهة المستخدم بسبب المتصفح
    وعلى كابوس لا استطيع فتحها

    السؤال الاخر عن اللغه فيها
    لم هي مختلفه تماما عن القصص هنا ؟
    اقصد انها فصحى اصيله

    ردحذف
    الردود
    1. نعم منشورة هنا ..هذا هو الرابط
      https://www.lonlywriter.com/2017/04/blog-post.html

      كتبتها بعد إنتهائي من تلخيص القاموس العربي .. لهذا كتابتها بلغةٍ فصيحة ، وتم نشرها بالقسم الرئيسي لموقع كابوس.. لكني بصراحة لم أجد نفسي بهذا النوع من الكتابة ، فأنا هدفي إيصال فكرتي لأكبر عددٍ من القرّاء مهما كان مستوى تعليمهم .. لهذا أكملت قصصي بأسلوب السرد البسيط السلس ..وقصة جزيرة ابليس كان رداً على بعد منتقديّ من قرّاء كابوس الذين اتهموني بقلّة خبرتي اللغوية .. ورغم انني حفظت القاموس العربي (1000 صفحة) بسنة وشهرين .. الا انني اصرّ على بساطة السرد .. فأنا لست بمسابقة ادبية لأظهر خبرتي اللغوية .. شكراً للسؤال

      حذف
    2. بل كل الشكر لكي وجدتها وقراتها
      صراحة تحفه لغويه ادبيه ولم اكن اعلم مطلقا انك تكتبين بهذه اللغه المتينه حتى ان بعض المفردات لم اعلم معناها

      حذف
    3. شكراً لشاعرنا المتواضع

      حذف
  3. لافيكيا سنيورا

    قصه ظريفه ..
    عجبني المنزل حلو جدا


    لافيكيا سنيورا

    ردحذف

التوأمتان المتعاكستان

تأليف : امل شانوحة  الطيّبة والشريرة دخلت السكرتيرة الى مكتب مديرها (جاك) لتجده يفكّر مهموماً :   - إن كنت ما تزال متعباً ، فعدّ الى قصرك ...