الخميس، 9 سبتمبر 2021

مُذكّرة الموت

كتابة : امل شانوحة 

تواريخ القدر  


بعد دفن كبير العائلة .. دعى المحامي سامي (الثلاثيني) الى مكتبه ، ليخبره أن جده سجّل كوخ الغابة بإسمه .. 

سامي باستغراب : ولما انا بالذات ، وليس أعمامي ؟!

المحامي : جدك كان غريب الأطوار قبل وفاته ، وأصرّ أن لا يدخل الكوخ أحداً سواك ! 

سامي : إذاً ليبقى سرّه بيننا

*** 


في الصباح التالي .. ذهب سامي وحده الى كوخ الغابة المكوّن من غرفة نومٍ وصالة.. إستخدمه جده في هواية الصيد ، وأهمله في سنواته الأخيرة لتغزو الحشرات والغبار الكثيف زوايا المنزل وأثاثه !


فبحث سامي في خزانة المطبخ وغرفة النوم ، دون عثوره على شيءٍ ذوّ قيمة .. 

وعندما نظر اسفل السرير ، وجد صندوقاً حديدياً صدِئاً .. وتذكّر المفتاح الصغير الموجود في درج المطبخ.. وبواسطته تمكّن من فتح الصندوق الذي وجد بداخله دفتراً جلديّاً ، بعنوان :(مذكّرة الموت)!


وكان مضمون الدفتر عبارة عن جداول مقسّمة لثلاث خانات : 

1- اسماء أقارب الجد الأحياء والأموات 

2- تواريخ مجهولة : أكثريتها في زمن الماضي ، وبعضها في المستقبل !

3- طريقة الوفاة : كتب فيها الجد كيفية موت اقاربه القدامى مثل : كبر السن ، مرض ، صعقة كهربائية ، حادث سير وغيرها .. اما الأحياء فخانتهم فارغة .. وهذا طبيعي ، لأن الجد لن يعرف طُرق وفاتهم قبل حدوثها  


واثناء قراءته أسماء أقاربه ، لاحظ إسم : (زهرة بنت سمر) 

فاستغرب سامي من معرفة جده بحمل أخته سمر بفتاة ، وقرار زوجها تسميتها زهرة .. رغم علمها بحملها (في الشهر الثاني) بعد وفاة جدها بإسبوع ! 


وكان التاريخ المكتوب في خانة زهرة : 9 أشهر من هذا اليوم .. 

فلم يهتم للأمر ، ووضع الدفتر في حقيبة ظهره .. وخرج من الكوخ بعد إقفاله جيداً

*** 


تناسى سامي موضوع الدفتر لشهور .. إلى أن تلقّى إتصالاً من أخته الكبرى تخبره باكية : أن طفلتها زهرة (بعمر الشهرين) اثناء نومها في مهدها ، إنقلبت على وجهها طوال الليل ، فماتت لنقص أكسجين


حينها تذكّر دفتر جده ، وأسرع بالبحث فيه .. ليجد أن اليوم يصادف التاريخ المكتوب في خانة زهرة .. وهذا يعني إن جده عرف تاريخ وفاة حفيدته التي لا يعلم أصلاً بوجودها ! 


وبعد مراجعة سريعة للتواريخ المكتوبة بجانب الأقارب القدامى ، وجد جميعها توافق يوم وفاتهم ، وهو أمر سهل على جده معرفته .. لكن كيف عرف التواريخ المستقبليّة للأحياء منهم ! 

 

والأغرب من ذلك : إن خانة (طريقة الوفاة) لزهرة لم تعد فارغة ، بل كُتب فيها : الموت إختناقاً ! 

ولم يعرف سامي إن كانت الكلمات ظهرت مباشرةً بعد وفاة الطفلة .. ام إن روح جده نبّتهه للأمر قبل فترة ، دون ملاحظته ذلك ! 


ولام نفسه لعدم مراجعته المذكّرة قبل التاريخ المدوّن فيها ، لكان نصح اخته بتفادي موت ابنتها بالإهمال 

وقرّر تسجيل بقية تواريخ أقاربه الأحياء (المكتوبة بالدفتر) في جواله ، قبل اسبوع من وفاتهم .. لربما أنقذهم من الموت !


وقبل إغلاقه الدرج ، خرج نور من داخل الدفتر ! 

فبحث بداخله عن معلومات جديدة ، أضافتها روح جده للمذكّرة .. 

ليجد إسمه مُضافاً للجدول (لم يكن موجود سابقاً) .. 

ويدلّ تاريخه على أنه سيتوفّى بعمر 80 عاماً .. ومكتوب في خانة طريقة الوفاة : كبر السن


فتنفّس سامي الصعداء لأنه مازال امامه سنوات طويلة .. وحمد ربه أن طريقة موته طبيعية وسهلة 

***


بعد شهرين .. وأثناء وجوده في العمل ، رنّ جواله لتنبيهه على موعد إحدى التواريخ المسجّلة فيه ، لكنه نسيّ تسجيل الأسماء بجانب الأرقام !

فأخذ ينظر الى ساعته من وقتٍ لآخر بقلقٍ شديد ، بانتظار إنتهاء العمل 


وبنهاية الدوام ، أسرع الى شقته (التي يعيش فيها وحيداً) .. وبحث في الدفتر عن أقرب موعد وفاة : ليجد اسم عمه الكبير الذي سيموت بعد اسبوع .. وقد ظهرت طريقة وفاته (بالخانة التي كانت فارغة من قبل) : حادث سيارة 

***


عصراً .. ذهب سامي الى أصغر أعمامه الذي كان على خلاف مع أخيه الكبير ، وحاول إقناعه بمصالحته .. 

فردّ بعصبية :

- انا أصالحه ! هو من سرق نصيبي من ارض جدك 

سامي : لا بأس عمي ، يبقى الكبير..

العم مقاطعاً : إذاً الأجدر أن يكون حنوناً على إخوته الصغار ، بدلاً من سرقة حقوقهم 

- ربما فعل ذلك لأن لديه الكثير من الأولاد ، وأنت ترفض الزواج ..

العم مقاطعاً بغضب : هذا ليس من شأنكم !!

- لم أقصد عمي ..

- مستحيل أن أصالحه ، حتى لوّ توفيّ غداً

سامي بتردّد : بالحقيقة ...سيتوفّى بعد اسبوع بحادث سيارة ، لذا أردّتك أن تصالحه قبل فوات الآوان

- إن كان ما تقوله مناماً ، فلا أؤمن به .. ولن أصالحه مطلقاً !! رجاءً عدّ الى شقتك بعد أن رفعت ضغطي بكلامك المستفزّ

- لكن عمي !

العم بلؤم : مع السلامة سامي !!


فخرج من منزل عمه وهو يشعر بخيبة الأمل

***


فور عودته الى شقته .. إتصل سامي بعمه الكبير ، لنصحه بإعادة نصيب أخيه الصغير قبل نهاية الإسبوع .. فأغلق العم المكالمة في وجهه ، قبل إفهامه ما يقصده !

***


في المساء ، تصفّح سامي الدفتر من جديد .. ليتفاجأ بأن تاريخ وفاته نقص 10 سنوات !

فصرخ بصدمة : ماذا ! سأموت في سن 70 .. لما تغير الموعد ؟! 

ليلاحظ بأن طريقة وفاته (كبر السن) مُسحت ايضاً !

سامي : لما لم يكتب جدي طريقة موتي الجديدة ؟! 


وصار يتصفّح الدفتر ورقةً ورقة ليفهم ما حصل ، ليجد ملاحظة مكتوبة آخر الدفتر : (لا تتلاعب بالقدر) 

ففهم إنه عُوقب لمحاولته تنبيه عمه بتاريخ وفاته القريبة 


فقال سامي بصوتٍ مسموع : آسف !! لن أعيدها ثانيةً .. سأخبّىء الدفتر في خزانتي ، كيّ لا أتدخل فيما لا يعنيني ..


وبعد إبعاده الدفتر ، نام حزيناً على سنواته العشر التي نُقصت من عمره !

*** 


بعد اسبوع .. علم سامي بوفاة عمه الكبير ، فذهب للعزاء .. 

وفور دخوله الصالة ، إلتفت الأقارب اليه وهم متوجّسين خيفة منه !

سامي باستغراب : لما تنظرون إليّ هكذا ؟! 

فسألته عمته بتهكّم : هل استعرت سيارة عمك المرحوم ، وعطّلت شيئاً فيها ؟

سامي : لا طبعاً ، انتم تعرفون بخله وكرهه إعارة ممتلكاته ل.. 

فنظروا اليه شزراً..

سامي : آسف لم أقصد .. رحمه الله .. كنت أفهمكم انه لا دخل لي بالحادث

العم الآخر : اذاً كيف عرفت تاريخ وطريقة وفاته ؟!


فتذكّر سامي العقاب الذي أضاع عشر سنوات من حياته ، فقال لهم :

- منام .. مجرّد منام


فانهار العم الصغير باكياً : ليتني سمعت كلامك وصالحته ، فأموال الدنيا لن تغنيني عن أخي الكبير 

فربت سامي على كتفه مُهدّئاً ، وسط حزن الجميع

***


بعد سنة .. رنّ جوال سامي ، لتذكيره بقرب موت أحد الأقارب  

- اللعنة ! نسيت حذف التواريخ من جوّالي .. ترى من اقترب موته هذه المرة ؟


وفور إنتهاء الدوام ، سارع الى منزله لقراءة الدفتر .. ليكتشف أن إبن اخيه الكبير سيموت بعد ثلاثة ايام .. وطريقة الوفاة : الغرق في السيل


فاتصل سريعاً بمنزل اخيه ، لتردّ زوجته .. فسألها عن ابنها 

- هو بخير .. وكافأته المدرسة لتفوقه في الإمتحانات الشهرية برحلةٍ الى مطعم الوادي

سامي بخوف : لا تدعيه يذهب لخطورة السيول !! 

- نحن في فصل الربيع والجوّ صافي ! ولا اظنها ستمطر في عطلة الإسبوع

سامي : ارجوكِ إمنعيه ، فحياته في خطر


وهنا سمع صوت إبن اخيه يسأل امه :

- امي !! هل البس هذه الثياب للرحلة ، ام هذه ؟

فأجابت ابنها : إلبس ما تريده يا عزيزي 


فصرخ سامي غاضباً : الا تفهمين يا امرأة !! ابنك سيموت في الرحلة

فعاتبته بعصبية : إن أعدّت هذا الكلام ثانيةً ، سأشكيك لأخيك

وأغلقت المكالمة في وجهه ..


فبحث سامي عن رقم عمل أخيه ، لإقناعه بعدم إرسال ابنه للرحلة .. واثناء بحثه في الجوال ، خرج نور من المذكّرة المرمية على السرير !


فتصفّحها بخوف ، ليفاجأ بأن تاريخ وفاته نقص عشر سنوات أخرى ! إيّ سيموت في عمر 60 ! 

وملاحظة في الأسفل : ((إن تدخلت في القدر ، سنختار لك موتة شنيعة))


فانهار سامي باكياً ، لعجزه عن إنقاذ إبن أخيه

***  


وبعد ايام .. ذهب سامي الى العزاء ، لتهجم ام الولد عليه غاضبة :

- لما لم تمنعني بالقوة من إرساله الى الرحلة التي دمّرتنا جميعاً؟!! 

وصفعته بقوة ، وهي منهارة بالبكاء .. 


فأبعدها أخوه جانباً ، وهو يسأله :

- حذّرت زوجتي من السيل ، فكيف عرفت ؟

سامي بحزن : منام اخي ، مجرّد منام 

وحضن أخاه باكياً 

***


قرّر سامي بعدها حذف التواريخ من جواله ..وشطب جميع الجداول الموجودة في الدفتر ، ماعدا ارقام عائلته (امه وأخوته).. 

***


مرّت الشهور ، وتناسى سامي التواريخ المشؤومة ..

الى أن جاء يوم شعر فيه بمللٍ شديد ، فأخذّ يتصفّح الدفتر .. ليقفز فزعاً من سريره ، بعد قراءته تاريخ وفاة امه القريب جداً ! 

فاتصل بأخته الصغرى التي أخبرته : أن امه ليست بخير ، وتفكّر بنقلها الى المستشفى


واثناء حديثه معها ، خرج نور من الدفتر الموجود فوق السرير 

ففتحه على عجل ، لتظهر طريقة وفاة امه : (خطأ طبّي)


فقال لأخته : إيّاك أخذها الى المستشفى ، غداً أكون في القرية ..إنتظراني!!

وأقفل الخط ، وهو يدعو الله أن يطيل عمر امه 

***


وصل الى منزل والدته في الليلة التالية ، بعد قيادة سيارته أربع ساعات متواصلة من المدينة الى القرية .. 

ليجد المنزل فارغاً ، وجوّال اخته مقفلاً ! فسأل الجارة عنهما .. فأخبرته أن الإسعاف نقلت امه الى المستشفى ، بعد أن ساءت حالتها عصراً.. 


فأسرع سامي الى المستشفى ، ليخبروه أنها بحاجةٍ ماسة الى عمليةٍ جراحية لفتح صمّام قلبها المغلق .. 

لكنه رفض اجراء العملية ، وأصرّ على إعادتها الى المنزل .. فرفض الطبيب لأنها بحاجة للعناية المركّزة .. 

***


ومرّت الأيام ببطء على سامي واخته ، اللذان سُمح لهما بدخول غرفة العناية لنصف ساعة كل يوم ! 


وبعد خروجهما من الغرفة ، قالت أخته :

- ارجوك اخي ، وقّع على ورقة العملية

سامي بحزم : لن أفعل !! سيقتلونها بخطأً طبّي ، الا تفهمين ؟!! 

- لا تتشاءم يا سامي 

- عليك الوثوق بقراري 

اخته بعصبية : وهل انت سعيد برؤيتها تتعذّب هكذا ؟! هي لا تستطيع التنفّس دون الجهاز المزعج .. ارجوك ساعدها

- لن أوقّع على شيء !! الا يكفي إن والدنا توفيّ ونحن صغار .. لا اريدها أن تموت دون رؤية أحفادها .. وإيّاك مجادلتي بهذا الموضوع !! .. سأذهب للبيت للإستراحة قليلاً ، إبقي معها


وبعد خروجه من المستشفى ، إقتربت الممرّضة من أخته ومعها ورقة العملية :

- الدكتور يسألكم إن كنتم موافقين على اجراء العملية لأمكم ام لا ؟ فوضعها يزداد سوءاً كل يوم

الإبنة بقلق : وهل طبيبكم بارعاً بهذه العمليات ؟

الممرّضة : هو خرّيج أهم جامعة في اميركا 

- وهل أجرى عملية كهذه من قبل ؟

- هو توظّف حديثاً في مستشفانا ، لكن شهادته تؤكّد براعته الطبّية  

- المشكلة إن اخي غير موافق

فقالت لها الممرضة بصوتٍ منخفض :

- اذاً لا داعي أن تخبريه 

- ماذا تقصدين ؟! 

- وقّعي عنه 

وبترددٍ وارتباك ، وقعت اخته على الموافقة !

***


وفي الوقت الذي كان فيه سامي نائماً في منزل العائلة ، كان الطبيب يُجري عمليةً خطيرة لأمه ..


وبعد ساعة .. إستفاق على رنين جواله ، ليسمع اخته تبكي وتنوح :

- امي ماتت في العملية يا سامي 

سامي بصدمة : ماذا ! كيف أدخلوها العمليات دون إذن ابنها !!

- أردّت علاجها ، لم أعلم انني .. 

فقاطعها غاضباً : سعاد !! ماذا فعلتي ؟

- ارجوك سامحني


وانهارت باكية ، ليسرع سامي الى المستشفى وهو مُنصدم مما حصل !

***


بعد العزاء .. دخلت اخته الى غرفته ، لتجده يرتّب ملابسه 

- الن تتكلّم معي ؟

سامي بقهر : أخرجي يا سعاد !!

- صدّقني لم أردّ تزوير توقيعك ، لكن لم أعد أحتمل عذابها  

- وهآ انت أرحتها من الدنيا كلّها

- ارجوك لا تزدّ همومي

- دعيني وشأني !! 

- أسترحل وتتركني وحدي ؟

سامي : إتصلت بخالتي ، وهي قادمة للعيش معك 

- لا احبها !! هي قاسية القلب

- لا حلّ آخر .. فأخوتنا لم يتمكّنوا حضور العزاء لوجودهم في العاصمة ، ولن أرسلكِ وحدك بالطائرة للعيش معهم .. كما إن مناهج مدارسهم صعبة عليك  

سعاد : إذاً سجّلني في ثانوية مدينتك  

سامي بغيظ : لا املك الوقت للإهتمام بمراهقةٍ عنيدة ..

وأخذ حقيبته ، وهو يقول :

- وداعاً يا سعاد


قالها دون النظر لها ، لغضبه من مخالفتها كلامه الذي أنهى حياة امه 

***  


قبل إبتعاده عن القرية ، إتصلت خالته لتخبره بهروب اخته من المنزل  

سامي بعصبية : والى اين ذهبت الغبية في هذا الوقت المتأخر ؟!!

- لا ادري ، تعال وابحث عنها بنفسك

فعاد مسرعاً الى القرية .. 

***


بحث سامي في منازل أقاربه وبيوت صديقات أخته ، دون إيجادها! 

إلى أن أوقفه عجوز في الشارع الرمليّ ..

سامي بعصبية : يا عم !! إبتعد عن الطريق

- إن كنت تبحث عن اختك ، رأيتها تصعد الجسر النهريّ قبل قليل وهي منهارة بالبكاء ..


فأسرع سامي الى هناك ، ليجدها واقفة على حافّة الجسر .. فاقترب منها بحذر :

- سعاد ، لا تتهوّري رجاءً

فنظرت اليه بعيونٍ دامعة : معك حق ، انا قتلت امي

- لا ، لم تفعلي ..قلت ذلك من قهري عليها .. ارجوك إنزلي ، فالنهر هائج في هذا الفصل من السنة

اخته : لن أنزل قبل أن تخبرني الحقيقة 

- أيّةِ حقيقة ؟!

- كيف عرفت أن امي ستموت أثناء العملية ؟ 

سامي : كان مناماً

- لا أصدّق هذه الخزعبلات ، قلّ الحقيقة وإلاّ رميت نفسي !!

سامي : حسناً سأخبرك كل شيء ، بعد أن تمسكي يدي 

 

وما أن نزلت عن السور ، حتى شدّها من يدها بعصبية ، وأدخلها بعنف الى سيارته التي قادها مسرعاً باتجاه الطريق العام .. 

***


بعد ساعة من الصمت المتوتّر ، قال لها وهو يكتم غيظه :

- سآخذك الى المدينة ، ولن أدعك تبعدين عن نظري ، ايتها المجنونة

اخته : أنت وعدّتني أن تخبرني الحقيقة 

- لا اريد سماع صوتك حتى نصل الى شقتي .. إستلقي بالمقاعد الخلفيّة ، وحاولي النوم لتهدئة اعصابك المتوتّرة 

فاستلقت في الخلف ، وعقلها مازال مشتّتاً .. 


وبينما كان سامي غارقاً بذكرياته القديمة مع امه ، إنتبهت سعاد على نورٍ يخرج من حقيبته الصغيرة الموجودة بأرضيّة السيارة .. ففتحتها ، لتجد الدفتر الجلديّ.. 

فأخذت تتصفّحه ، لتقرأ ملاحظة مكتوبة بجانب إسمها :(تموت الليلة ، بإلقاء نفسها من سيارةٍ مسرعة)


وبعد لحظات ، إنفتح الباب الخلفيّ ! 

فأدار سامي رأسه .. ليرى سعاد تقفز من سيارته ، وتتدحرج بعنف فوق الطريق العام ! 


فأوقف سيارته جانباً ، وهو يسمع صراخها وهي تتلوّى ألماً وسط الشارع! 

وقبل قطعه الطريق ، دهستها شاحنة نثرت اشلائها في كل مكان ! 


فجنّ جنون سامي ، وأخذ يصرخ بهستيريا .. لتصفّ السيارت بجانبه ، في محاولة سائقيها لتهدأته ..الى أن إنهار مغشيّاً عليه

 

وحين استفاق ، كان في غرفة الطوارىء بالمستشفى بعد إرتفاعٍ حادّ في ضغط دمه من شدّة الصدمة !

***


بعد انتهاء العزاء في قريته ، عاد للمدينة .. وحين فتح حقيبته ، وجد المذكّرة مضاءة .. ليفاجأ بأن موته نقص لعمر 40 ! 

وقرأ الملاحظة : (تدخلك بقدر امك واختك ، أخسرك عشرين سنة من عمرك)

 

فبعثر سامي اغراضه في انحاء الغرفة ، وهو يصرخ بعصبية :

- من انت يا جدي ؟ هل انت شيطان ؟!! .. كيف عرفت تواريخ وفاتنا ؟!! ولما أرسلتني الى كوخك ، لتدلّني على دفترك اللعين ؟!! ولما تخبرني بمواعيد موت أحبابي ، وتمنعني حمايتهم ؟!! .. أتدري مالذي سأفعله ، سأحرق مذكّرتك الشيطانيّة !!! 


وأضاء القدّاحة في طرف الدفتر ، لكن الشعلة انطفأت في كل مرة !

فحاول تمزيق اوراقها التي جرحت كل اصابعه ، دون إقتطاع قصاصة منها ! 

فأخذ يشطب بالقلم كل التواريخ ، وهو يصرخ غاضباً :

- لا اريد معرفة مواعيد موت أقاربي بعد اليوم !!  


ورمى الدفتر اسفل الخزانة .. وخرج من شقته ، ليقود سيارته دون وجهةٍ محدّدة

***  


وبمرور الشهور ، نسيّ سامي أمر الدفتر .. وبدأت حياته تتغيّر ، بعد توظّف آنسة جميلة في الشركة التي يعمل فيها .. 

وحين تأكّد من مشاعره نحوها ، خطبها من اهلها.. 

ليعيش معها أجمل لحظات عمره ، في خطبةٍ إمتدّت لشهرين .. 

***


في تلك الليلة .. أنهى مكالمته سريعاً ، بعد أن أخبرته إنها مشغولة في حفلة صديقتها 


وقبل نومه ، خرج نور من اسفل الخزانة ! فعلم إن الدفتر يحاول إنذاره بقرب وفاة عزيزٍ لديه 

فحاول تجاهل الأمر ، لكنه أصيب بالأرق .. 


وبالنهاية قرّر معرفة الضحية التالية .. 

وفتح الدفتر وقلبه ينبض بقوة ، ليجد إن الجداول مازالت مشطوبة .. ما عدا الصفحة الأخيرة التي ظهر فيها اسم خطيبته (التي لم تُذكر سابقاً) .. وتاريخ وفاتها الذي يصادف الليلة !.. وسبب الوفاة : (خطف – إغتصاب – قتل)

فأصيب بصدمةٍ قوية ، لأنها أسوء موتة على الإطلاق !

 

فعاود الإتصال بها أكثر من مرة ، لكنها لم تجيب ! 

فاتصل بأهلها ، ليخبروه أنها لم تعدّ بعد من حفلة صديقتها  


سامي : كلّمتها قبل ساعة ، وأخبرتني انها تودّع صديقاتها قبل خروجها من الحفلة

الأب : هي اتصلت بنا لتخبرنا إن زوج صديقتها سيوصلها الى المنزل

- لا !!! هو سيخطفها ويقتلها 

- ماذا قلت ؟!

- أعطني رقم صديقتها 

- لا تخيفني يا سامي ، ما الأمر ؟

- عمي لا وقت للشرح ، إعطني رقم صديقتها الآن !!


ثم اتصل بصديقتها :

- اين زوجك ؟

- من انت ؟

سامي بعصبية : خطيب هند ، اين زوجك ؟

- ذهب قبل ساعة لإيصال هند 

- لم تصل بعد الى منزلها !!

الزوجة : أخبرني انه أوصلها ، وأكمل طريقه الى منزل صديقه 

- بل اللعين خطفها !!

- لا أسمح لك باتهام زوجي زوراً !! 

سامي غاضباً : سأعاقبكما أنتما الإثنين إن حصل لها مكروه !!

وأغلق الهاتف للإتصال بالشرطة ، وإبلاغهم بشكوكه عن إختفاء خطيبته

***


لاحقاً بالتحقيقات الجنائية .. أصرّ زوج صديقة هند أنه أوصلها الى باب العمارة ، قبل ذهابه الى صديقه الذي أكّد إنهما سهرا معاً تلك الليلة


فقامت الشرطة بمراجعة كاميرات الطرق وتتبّع سيارة المشتبه به ، الذي تبين أنه قادها في الطريق الموصل الى منزل هند ، مما يؤكّد صدق كلامه 


خاصة إن الكاميرا الملعلّقة على إشارة المرور قرب منزل صديقه ، تبين انه وصل هناك بغضون دقائق .. وهو وقت غير كافي للإعتداء على المفقودة وقتلها وإخفاء الجثة 


وحين أصرّ سامي بأن اختفاء حبيبته الغامض حصل بسبب جريمةٍ مروّعة ، سأله المحقق : 

- ولما انت متأكّد من ذلك ؟ لربما هربت مع حبيبها مثلاً ؟

سامي بعصبية : انا حبيبها وخطيبها ، وكنّا سنتزوج قريباً 

المحقق : ثقتك بمقتل هند ، يجعلني أشكّ بك 


وبدأ يحاصره بالأسئلة ، فلم يعد باستطاعة سامي إخفاء موضوع دفتر جده.. 

وبعد إطلاع المحقق على ملخّص ما حصل له بسبب المذكّرة الشيطانية .. 

طلب المحقق من مساعده دخول شقة سامي ، وإحضار الدفتر الجلديّ الى المخفر 

***


بعد تصفّح المحقق الدفتر ، وجد جميع الأسماء المكتوبة في الجداول مشطوبة بالقلم ، وكذلك اسم هند في آخر الصفحة .. رغم إن سامي لم يتسنّى له الوقت لفعل ذلك ! 


ولغموض القضية ، قرّر المحقق إيقاف سامي لحين توصّله الى معلومات عن إختفاء هند .. مع شكّه أن سامي هو خاطف خطيبته ، وإن حزنه وخرافة الدفتر مجرّد تمثليّة فاشلة 


وبعد وضعه في السجن ، قال له :

- سأحقّق بموضوع جدك ، رغم انني لم أصدّق حرفاً مما قلته

سامي : سيدي ، انت تسجن الشخص الخطأ .. ارجوك تابع قضية خطيبتي ، اريد معرفة مكان جثتها 

المحقق : سأتابع قضية إختفائها ، بسؤال الشهود والأقارب .. وحين أعرف الحقيقة ، أخبرك بها


فانهار سامي باكياً بعد تأكّده بصحة المكتوب في الدفتر ، والذي لم يظهر للعلن الا بعد شهر على إختفاء هند : عندما اعترف سكران بالبار بخطفه سيدة جميلة اثناء صعودها الى شقتها .. بوضعه قماشة مبلولة بالمخدّر على انفها ، وسحبها من الباب الخلفيّ للعمارة نحو سيارته .. ثم الإعتداء عليها وقتلها ، ودفنها في الحديقة العامة ! 


فأبلغ نادل البار الشرطة بما سمعه ، ليضغط المحقق على المجرم الذي إعترف لاحقاً بمكان جثتها المشوّهة والمدفونة تحت الشجرة  


وتلقّى سامي الخبر الصادم وهو في سجن التوقيف ، ليسمع الجميع صراخه وبكائه المرير.. 


وبعد ساعات من البكاء المتواصل ، هدأ قليلاً .. فزاره المحقق : 

- على فكرة يا سامي .. ذهبت الى مصنع جدّك ، وسألت العمّال عنه .. فأخبروني إنه كان غريب الأطوار بالفترة التي سبقت وفاته .. وحين التقيت بصديقه المقرّب ، أخبرني أن جدك قال له : إنه سقط بإحدى رحلات صيده في حفرةٍ بالغابة ، أوصلته الى العالم الموازي

سامي باهتمام : ماذا يعني ذلك ؟!

المحقق : حسب ما أخبر صديقه ، انه انتقل الى المستقبل ..وعرف من هناك تواريخ وفاة اقاربه ، وأحفاده الغير مولودين بعد ! ولكيّ لا ينسى تلك المعلومات ، دوّنها في مذكّرته فور عودته الى عالمنا .. وقبل موته ، أخبر صديقه انه نادم على فعل ذلك ، لأنه لم يستطع التخلّص من دفتره المشؤوم 

سامي : ليته اختار كتابة تواريخ احداثنا السعيدة ، بدل الموت في دفتره الذي بلاني فيه

- مع اني لم أصدّق ما قاله صديقه العجوز ، لكن الدنيا مليئة بالألغاز .. المهم !! لا يوجد سبب لبقائك هنا بعد إعتراف الجاني .. (وفتح قفل الزنزانة) .. عدّ الى شقتك ، وخذّ دفتر جدك معك .. أعانك الله على مصيبتك

فعاد سامي حزيناً الى بيته 

***


في منتصف الليل .. إستيقظ بعد سطوع النور في وجهه ، والخارج من الدرج .. 

ليجد الدفتر مضاءً :

- ليس ثانيةً !.. من بقيّ يا جدي ؟!! ماتت امي واختي وعمي وابن اخي وخطيبتي ، من ستقتل ايضاً ؟!!


وتصفّح الدفتر ، ليجد اوراقه بيضاء ! 

ماعدا اسمه في آخر الصفحة ، والمكتوب بجانبه موعد الوفاة : الليلة ! 

وملاحظة :

((ما كان عليك إخبار الشرطة بسرّنا))

 

فنهض سامي فزعاً من سريره ، بعد خسارته آخر 10 سنوات من عمره! 

وصرخ مرتعباً : لن اموت الليلة يا جدي !! القرار ليس بيدك 


وأسرع بإطفاء قارورة الغاز بالمطبخ ، وإزالة المقابس الكهربائية ، وإخفاء الأدوات الحادّة داخل الأدراج  .. 


ثم ملأ حوض الإستحمام بالوسادات ، واستلقى فيه 

- سأبقى هنا حتى شروق الشمس ، وانتهاء الكابوس


ورغم أرقه ، إلاّ أنه غفى من شدّة تعبه .. 

واثناء تقلّبه فوق الوسادات ، سقطت الصابونة في الحوض .. 

***


قبيل الفجر .. شعر ببرودةٍ شديدة ، رغم انه في فصل الصيف  

وحين فتح عيناه ، شاهد خيال جده يطفو في سقف الحمام ! 

فأصابه الرعب ، وحاول الخروج سريعاً من الحوض .. فتعثّر بالصابونة ، ليرتطم رأسه بالمغسلة بقوة .. جعلته يسقط على أرض الحمام ، وتسيل الدماء على وجهه ، وهو يشعر بدوارٍ شديد .. 


وسمع جده يقول من فوقه :

- ما كان عليك التدخل بالقدر يا سامي .. هآ انت ستموت وحيداً .. ولن يعثر الجيران عليك ، قبل أن تفوح رائحة تحلّل جثتك .. يعني ستُدفن بعد تسعة ايام من وفاتك ، يالها من موتةٍ شنيعة

ثم اختفى الطيف ! 


فتمّتم سامي بألم : لن اموت في الحمام .. كانت نيتي إنقاذ احبابي ، ولا أستحق سوء الخاتمة !


وزحف للخارج بصعوبة ، مُخلّفاً خطاً طويلاً من الدماء  

الى أن وصل الى غرفته ، ومدّ يده لإخراج الدفتر من الدرج .. ليحاول من جديد تمزيقه بكل ما تبقّى من قوته ، والتي انهارت بعد عدّة محاولاتٍ فاشلة .. 

ليفقد وعيه بعد خسارته الكثير من دمائه 

***


أقام اعمامه العزاء ، وهم حزينين على وفاته وحيداً بشقته ..


وكان من بين المعزّيين : المحقق الذي تواجد لحظة إخراج جثة سامي من الشقة ، والذي قال للعم الأصغر :

- وجدنا الدفتر في يده ، هي مذكّرة والدك .. الغريب إن صفحاته فارغة !

العم : ومالغريب في الموضوع ؟

المحقق : أثناء تحقيقي مع سامي بقضية خطيبته ، أراني دفتر جده ..وكان مليئاً بالجداول المشطوبة ، لكنها اختفت الآن !

- وماذا كتب ابي في الجداول ؟

المحقق : قصّة خرافية ، الأفضل أن لا تعرفها .. المهم أوصلت الأمانة ، وانتهى عملي هنا .. عظّم الله أجركم

العم : شكر الله سعيكم

***


بعد انتهاء العزاء .. عثر ابن العم الصغير على الدفتر فوق الطاولة ، وحين فتحه : وجد اسمه بتاريخ الغد ، مكتوباً امامه : 

(مفاجأة في ساحة الملعب)


فهللّ الولد فرحاً ، لظنه إن المدرسة أخبرت والده (الذي كتب الملاحظة بالدفتر) بتكريمه غداً لتفوقه الدراسيّ .. دون علمه أن متنمّر صفه الحقود سيطعنه اثناء استلامه الهدية !

 

وذهب الولد الى غرفته لتجهيز نفسه لمفاجأة الغد التي حتماً لن تكون سارّة ، وستصدم القريب والبعيد معاً !


*******

ملاحظة :

كنت شاهدت تريلر فيلم (ِDeath Note) وفهمت من الملخّص : إن البطل بإمكانه قتل من يشاء بكتابة طريقة موته في المذكّرة ، بمساعدة الشيطان

##

اما فكرة قصتي : حتى لوّ كنّا نعلم القدر ، لما تمكّنا من تغيره او التلاعب به.. وأن معرفة الجد لمعلوماتٍ مستقبليّة ، أشعرته بالندم والعجز .. وبدل دفن السرّ معه ، أعطى الدفتر المشؤوم لحفيده الحنون ، لعلمه بمحاولته إنقاذ احبّائه على حساب نفسه .. وبذلك تستمرّ اللعنة في العائلة إلى أبد الآبدين ! 


هناك 7 تعليقات:

  1. فكره جميله وجديده وغريبه أيضا ... و تفاصيل الأرقام دقيقه خاصة أول حادثه زهره بنت سمر ...علم بعض الغيب قد يمنح لرسول أو نبي أو ولي وكما جاء في الحديث لم يبقى من النبوة سوى المبشرات . قالوا وما هي يارسول الله ؟ قال الرؤيا الصادقه يراها المؤمن أو ترى له . وأيضا النبوة ستا أربعين جزء منها الرؤيا الصادقه . وفي كل عائله تقريبا تجد من أبتلي بفراسة الموت أو الحوادث والمصائب .. يمحو الله مايشاء ويثبت وعنده أم الكتاب .. كل التحيه والشكر

    ردحذف
  2. مبدعة كالعادة شكرا لك على قصصك الشيقة جدا تحياتي استاذة امل

    ردحذف
  3. اسلوبك رائع جدا
    اعجبتني القصة ..
    في البداية شعرت انها كوبي بيست من مسلسل الانمي الشهير ديث نوت والذي انصح بمشاهدته بشده
    لكن بعدها علمت ان المذكرتان مختلفتان في العمل
    كان عليك اختيار عنوان آخر للمذكرة بما انها تتعلق بالمستقبل ..

    ردحذف
    الردود
    1. كنت أسميتها (دفتر التواريخ) لكن لأني استوحيتها من تريلر فيلم ، لهذا لم أغيّر عنوانها.. سعيدة إنها أعجبتك

      حذف
  4. جوهرة ثمينة من كنز ابداعك يا كنز الابداع

    ردحذف
  5. تحيه لك استاذه امل حاولت بما مضى من ايام ان ارسل تعليقات ولكن لم تصل لك شكلها
    ****
    القصص الاخيره معبره عن واع نعيشه وهاي القصه رعب حقيق
    ان تعرف بالمستقبل فيه السيء
    والحسن
    مثلا لو انت واهل شاهدتو المستقبل ان والدك رحمه الله انه راح يتوفى بسنة2020
    على مدار هذه السنوات راح تعيشو برعب حقيقي
    او انا لو عرفت تاريخ وفاة ابي اللي توفى ب2018
    نفس الرعب
    رغم انو الموت مصيرنا جميعا
    ****
    عدم معرفة المستقبل نعمه من الله
    *****
    اتمنى ان تكون فكرتي اللي اخبرتك

    ردحذف

التوأمتان المتعاكستان

تأليف : امل شانوحة  الطيّبة والشريرة دخلت السكرتيرة الى مكتب مديرها (جاك) لتجده يفكّر مهموماً :   - إن كنت ما تزال متعباً ، فعدّ الى قصرك ...