الجمعة، 13 سبتمبر 2019

رسومات طفوليّة

تأليف : امل شانوحة


خيالٌ يغيّر الواقع !

طلبت معلمة الصفّ الثالث الإبتدائي من الطلاّب رسم طقسهم الحارّ .. فرسم الجميع شمساً ساطعة .. ما عدا جيم (8 سنوات) فضّل رسم المطر .. وما ان انتهى من تلوين لوحته , حتى هطلت امطارٌ غزيرة ! .. فأسرع الطلبة الى خارج الفصل , بعد ان سمحت لهم المعلمة بذلك .. 

بينما اقترب جيم منها وهو يحمل رسمته , قائلاً بفخر :
- انا من جعلتها تُمطر , أنظري الى رسمتي ..
فابتسمت المعلمة : يالها من صدفةٌ جميلة يا جيم , والآن إنزل الى الساحة للعب مع اصدقائك
فنزل مغتاظاً لأنها لم تصدّقه ..
*** 

في المنزل .. وبينما كان جيم يدرس في غرفته , سمع نقاشاً حادّاً بين والديه .. فتذكّر ما حصل معه في الفصل .. فأخرج كرّاسته ليرسمهما متعانقين , وقلباً كبيراً فوقهما .. 

وفجأة ! إختفى صوت الشجار .. وحين تلصّص من شقّ الباب , رآهما يضحكان بسعادة في الصالة ! 
فابتسم قائلاً في نفسه :
((فعلتها ثانيةً ! يبدو ان رسوماتي تغيّر كل شيء .. لكني لن أخبر أحداً , كيّ لا يسخروا مني))
***

في يوم العطلة , ذهب مع والده الى السوق .. وحين مرّا بجانب محل لبيع الحيوانات , أعجبته قطة صغيرة .. لكنه رفض شرائها له ! 

واثناء إنشغال والده بوضع الأغراض في صندوق السيارة .. اسرع جيم بإخراج كرّاسته الجديدة التي اشتراها للمدرسة ..ورسم نفسه وهو يحتضن القطة .. 

فإذّ بوالده يتجه نحو المحل (وكأنه منوّم مغناطيسياً) .. ليعود الى السيارة , حاملاً القطة ذاتها التي أعجبته ! .. فعاد جيم الى بيته سعيداً بهديته 
*** 

ومرّت الأيام .. إستطاع جيم من خلال رسوماته : جعل امه تطبخ له الطعام الذي يحبه , مع السماح له بتناول الكثير من الحلويات (على غير عاداتها الصحيّة) .. كما قبل والده مضاعفة مصروفه المدرسيّ , دون أدنى إعتراض ! 

وكذلك استخدم قدرته الخارقة لإجبار طالبة جميلة على تغير مقعدها والجلوس بجانبه , لتصبح بعد فترة صديقته المقرّبة .. دون أن يُخبرها بسرّ رسماته التي تغيّر الواقع دون سببٍ واضح ! 
*** 

وذات يوم , طلبت المعلمة من الصفّ رسم إعصارٍ قويّ .. فرفض جيم القيام بالواجب , معللاً خوفه من أن تتسبّب رسمته في تدمير المدرسة والمنازل التي حولها .. فسخر الطلاب منه , وعاقبته المعلمة بالطرد من الفصل

واثناء وقوفه هناك , رسم غاضباً في كرّاسته : موت المعلمة بحادث سير , لإحراجه امام اصدقائه 
***  

في صباح اليوم التالي , واثناء إستعداده للذهاب للمدرسة .. أخبرته امه بأن المديرة ارسلت إعلاناً على جوّالات الأهالي : بأن اليوم عطلة 
جيم بدهشة : كيف ! فنحن لدينا امتحانٌ مهم 
فأجابته امه بتردّد : معلمة الرسم .. ماتت البارحة بحادث سيارة 

فتراجع جيم للخلف بدهشة ! .. ثم انهار باكياً بين احضان امه :
- لم اقصد قتلها !!
- لم أفهم !
فأخبرها بشأن رسمته .. فربتتّ على ظهره بحنان :
- جيم , لا شأن لك بالحادث .. وإن كان ما تمنّيته شيئاً سيئاً , الا انه قدرها .. فقمّ بتبديل ملابسك كيّ نذهب للعزاء .. فبيتها لا يبعد كثيراً عن هنا , وزوجها صديق والدك
***

في العزاء .. رأى جيم ابنة المعلمة الصغيرة وهي تبكي لفراق امها , فأحسّ بذنبٍ كبير .. وأخرج كرّاسته (التي أصرّ على جلبها معه) وبدأ برسم معلمته وهي تحتضن ابنتها .. 

وانتظر طويلاً , لكنها لم تعدّ الى بيتها !.. فاقترب من والده الذي كان يقدّم التعازي لصديقه (زوج المعلمة) وهمس له : 
- رسمت المعلمة حيّة , لكنها لم تعدّ الى الآن .. لماذا ! 
فأجابه والده بصوتٍ منخفض : الأموات لا يعودون الى الحياة يا جيم ..(ثم اعطاه مفاتيح السيارة) .. قلّ لأمك ان تعيدك الى المنزل , لأني سأبقى قليلاً مع صديقي 
***

بعد خروجهما من منزل العزاء .. طلب جيم من والدته ان تأخذه الى قبر معلمته ..

وفي السيارة .. رسم جيم معلمته في الجنة , قائلاً في نفسه بحزن : 
((طالما انني لم أستطع إعادتها الى الدنيا , سأتمنى لها السعادة في السماء))
***

حين تركته امه بجانب القبر (بناءً على طلبه) وضع رسمته امام الشاهد , وهو يمسح دموعه :
- رجاءً سامحيني يا معلمتي , أعدك ان لا ارسم شيئاً سيئاً بعد اليوم 

وقد أثّرت الحادثة كثيراً على جيم الذي بدأ يحرص على إنتقاء رسماته , آخذاً عهداً على نفسه بأن لا يستخدم موهبته للإنتقام من الأشخاص الذي يكرههم  
***

وفي إحدى الأيام ..أخذته امه الى عيادة جارهم طبيب الأسنان لقلع سنّه .. وبعد عودته , دخل غرفته وهو يقول :
- ليس عدلاً ان يعاني الأطفال من هكذا اوجاع !

وأخرج كرّاسته ليرسم طفلاً بأسنانٍ بيضاء سليمة , كاتباً فوقها :
((اسنان صحيّة لكل اطفال العالم)) 
***

بعد شهرين , زارهم جارهم  .. فسمعه جيم وهو يشتكي من قلّة العمل (لأنه مختصّ فقط بأسنان الأولاد) حتى بات يُفكّر بالإنتقال من المنطقة , لعلّه يجد عملاً في مكانٍ آخر .. 

فأسرع جيم الى غرفته ومزّق تلك الرسمة .. ثم ذهب الى جاره (الذي يحبه) وألحّ عليه بفتح عيادته لاستقبال المرضى من جديد ..
والده معاتباً : جيم !! جارنا يعلم ما عليه فعله , فلا تتدخّل في شؤون الكبار
جيم : رجاءً ابي , انا متأكّد ان اموره ستتحسّن غداً
الطبيب : ولما تعتقد ذلك يا جيم ؟
فاضطّر جيم للكذب :  شاهدت ذلك في المنام , واحلامي لا تكذب ابداً
فابتسم الطبيب بحنان : حسناً , لأجلك فقط سأأجّل فكرة السفر قليلاً 

وبالفعل لم تمضي ايام الاّ وامتلأت عيادته بالأولاد الذين قدموا مع اهاليهم لإصلاح اسنانهم المسوّسة .. 

ممّا أراح جيم من تأنيب الضمير .. فهو وان كان يتمنى الصحّة للجميع , الا انه لا يرضى بتوقف آلاف الأطبّة والممرّضين عن مزاولة عملهم الإنسانيّ ! 
*** 

وفي أحد الأيام  .. رأى امه تبكي اثناء محادثتها لأخيها الأكبر المُنخرط في الجيش .. وبعد إغلاقها الهاتف , إقترب منها جيم قائلاً:
- هل تريدينني ان أُحضر خالي عن طريق رسمه عائداً الينا بالطائرة؟
فابتسمت امه بحزن : ليت الأمر بهذه السهولة يا جيم , لكنه يُحارب على الجبهة , وأخاف ان يُقتل هناك 

ثم دخلت غرفتها باكية .. فذهب الى غرفة اخته الكبرى وسألها عن الحرب الذي يُشارك خالهما فيها .. فأخبرته بأن الوضع خطير ومعقّد , وربما تستمر الحرب لسنواتٍ طويلة .. فسألها : 
- لوّ افترضنا انك تملكين موهبةً سحريّة , فماذا ستطلبين ؟ 
فكّرت قليلاً , ثم قالت : السلام العالميّ 
جيم : وماذا يعني ذلك ؟!
اخته : يعني لا حروب على وجه الأرض 

وبعد دخول غرفته , قال في نفسه : ((الآن عرفت ما عليّ رسمه)) 
وأخرج كرّاسته وألوانه , ورسم كرةً أرضيّة بابتسامةٍ عريضة !
***

في اليوم التالي .. ضجّت الصحافة والعالم بخبر المصالحة الفجائية بين الدولتين المتخاصمتين ! حيث ظهر الرئيسان في مقابلةٍ على الهواء مباشرةً يسلّمان على بعضهما , بعد ان وقّعا معاهدة سلام بينهما .. 

ومع ذلك لم يعدّ خال جيم الى الوطن , رغم مرور اسبوعان على انتهاء الحرب ! ..فسأل اخته عن السبب 
فأجابته : حتى لو انتهت الحرب يا جيم , فسيبقى خالي مُرابطاً مع فرقته على الحدود لفترة من الزمن , لحين تأكّد الطرفان من نواياهما السليمة بعد المعاهدة المريبة التي حصلت بينهما !

جيم : ومتى ستنتهي الحروب نهائياً ؟
- الأمر مستحيل يا اخي ! فمصانع الأسلحة في الدول العظمى ستُشعل المعارك من جديد لأهدافٍ مالية , ممّا سيؤدي يوماً لدمار العالم
جيم : أتقصدين مصانع القنابل ؟! 
- نعم , والآليات الحربيّة من طيران ودبّبابات وغيرها .. (ثم نظرت اليه) .. لما انت مُهتم بهذه الأمور ؟! فحينما كنت في عمرك لم يهمّني سوى اللعب مع اصدقائي 
جيم : هذا لأنك لا تملكين موهبتي 
فسألته بسخرية : وماهي موهبتك ايها العبقريّ ؟ 
- ستعرفونها لاحقاً 
وخرج من غرفتها , وهو يفكّر بطريقة لإحلال السلام العالميّ 
***

وفي غرفته .. رسم إنفجاراً لمصنعٍ كبير , وتدمّر طائرة ودبّابة حربيّة .. ثم كتب فوقها : السلام العالميّ.. (مُتضمناً أخطاءً إملائية) 

وماهي الا ايام .. حتى أذاعت قنوات الأخبار : إنفجار مئات المصانع الضخمة للإسلحة حول العالم ! مُرجّحين بأنها اعمال ارهابية , أدّت لاختفاء قرى بكاملها عن الخريطة بعد إنفجار القنابل النوويّة للمصانع القريبة منها .. وأُعلنت حالة الإستنفار في الدول القريبة , خوفاً من خطر وصول الإشعاعات النوويّة اليها .. 

وشاهد جيم مع اهله في التلفاز : خطابات رئيس دولته وهو ينصح السكّان بضرورة شراء الأقنعة الواقية , والإستعداد للعيش شهوراً في ملاجىءٍ مُخصصّة ضدّ الإشعاعات , والتي تقوم الحكومة ببنائها على قدمٍ وساق ..

ورغم حالة الفزع التي اصابت العالم , الا ان جيم وحده كان يعلم بأن حلّ أزمة التلوّث النوويّ ليس بهذه الصعوبة .. 

وداخل غرفته .. قام برسم الكرة الأرضية وهي تسعل بقوة , لتُخرج دخّاناً ساماً , أطلقته نحو الفضاء .. 

وهذا ما حصل بالفعل خلال شهرٍ واحد , حيث أكّد علماء الطبيعة إختفاء آثار الغازات السامة بعد ارتفاعها بعيداً عن غلاف الكرة الأرضية , خلافاً لخصائصها الكيميائية التي من الصعب تبديدها بهذه السهولة !  

وعمّت الإحتفالات ارجاء العالم لانتهاء هذه الأزمة العصيبة .. ومن بعدها عُقدت إتفاقيات بين رؤساء الدول بعدم فتح مصانع الأسلحة من جديد , حمايةً لكوكب الأرض ..

ورغم هذا الإنجاز الكبير , الا انه لم ينتهي القتل بين الناس ! حيث تفاجأ جيم بمقتل صاحب البقالة القريبة من بيته , بعد سطوٍّ مسلّح حصل ليلة البارحة .. 
فسأل والده محتاراً :
- ابي , لما نقتل بعضنا البعض ؟! الا يوجد حلّ ليعمّ السلام والمحبة بين البشر ؟
- هذا مستحيل يا جيم , فالشيطان لن يسمح بذلك .. فعمله هو التفريق بيننا الى يوم القيامة 
فقال جيم بنفسه بدهشة : ((آه ابليس ! كيف لم أفكّر به من قبل)) 

وأسرع الى غرفته , ليرسم ابليس ميتاً .. 
وبعد ان أنهى رسمته , قال بارتياح : 
- أعتقد بموته سيختلف ابنائه الشياطين فيما بينهم , ويتركونا وشأننا ليعمّ السلام في كل الدنيا

وفجأة ! ظهر له ابليس في الغرفة , وهو يقول غاضباً :
- لقد تجاوزت حدودك يا جيم !! فأنا منعت ابنائي من عقابك لصغر سنك , على أمل ان تنتهي موهبتك الغريبة قريباً .. لكن بعد تجرّأك عليّ , قرّرت عقابك بنفسي

وعجز جيم عن الصراخ لفزعه الشديد من منظر ابليس المرعب , الذي سحبه من ذراعه بقوة .. واختفيا سويّاً من الغرفة !

ليظهر لاحقاً في كرّاسة الصبي : رسمةً جديدة لجيم وهو مسجون داخل قفصٍ مُعلّق فوق فوهة نارٍ ضخمة , بجانب عرش ابليس السعيد بانتصاره على الولد المشاغب 
وفي اسفل الرسمة , كُتبت عبارة : 
((THE END))

هناك 3 تعليقات:

  1. لم افهم هل الشياطين هم من يحققون امنيات جيم؟

    ردحذف
    الردود
    1. لا بل رسوماته تحققّ الأماني , لكنه اراد إحلال السلام والمحبة بين الناس , لهذا رسم موت ابليس الذي عاقبه لتجاوز احلامه حدّ المسموح

      حذف
  2. تحية استاذة امل لقد خطرت على بالي فكرة ما رأيك ان تكتبي قصتك الاتية عن مظاهرات لبنان باسلوبك انها فكرة جديدة ما رايك

    ردحذف

التوأمتان المتعاكستان

تأليف : امل شانوحة  الطيّبة والشريرة دخلت السكرتيرة الى مكتب مديرها (جاك) لتجده يفكّر مهموماً :   - إن كنت ما تزال متعباً ، فعدّ الى قصرك ...