تأليف : امل شانوحة
أمضيت العشر سنوات الأخيرة من عمري بين الواقع والخيال ! فآخر ما أتذكّره هو رحلتي وحدي بطائرتي الشراعية , ثم سماعي لصوت الإنذار يؤكّد حدوث خللٍ خطير في المحرّك , ثم سقوطٍ خطر ناحية البحر .. لكني لا أذكر ما حصل لي بعدها ؟!
- هل غفوت مجدّداً يا جيم ؟
صوت امرأة أيقظني من النوم !
فسألتها بتعب : اين انا ؟!
وفتحت عينايّ لأجدها بقربي .. آه الآن تذكّرت .. هذه زوجتي بابتسامتها الرقيقة تحاول ان تُخفي آلام حملها الأول , فهي بشهرها الأخير
- ديانا ! كيف حالك اليوم ؟
- بخير , مع ان ابنك يتعبني كثيراً
- هانت عزيزتي , كلّها ايام وتلدين بالسلامة
- نعم , أكاد لا اطيق الإنتظار لحمله بين ذراعيّ .. (ثم مشت ناحية باب الغرفة) .. ما رأيك لوّ نتجوّل قليلاً في الحقول ؟ فالمشي جيدٌ لي لتسهيل الولادة .. هيا قمّ يا كسول ..
***
في الخارج ..
جيم بدهشة : لحظة ! ما هذا ؟! لما حقول الذرة زرقاء اللون ؟!
ديانا : يا الهي ! أكلّ مرة تسألني السؤال ذاته ؟
ثم صرخ برعب حين شاهد شيئاً اسوداً يطير في السماء ..
- وما ذلك الشيء هناك ؟!!
فتنهّدت زوجته بضيق : يبدو انه عليّ تذكيرك كل مرة بما حصل لك ! ..تعال لنجلس على هذه الأحجار ..
وبدأت تخبره بقصته منذ بداية تعارفهما ..
ديانا : وهاهي كل القصة
فانتفض جيم فزعاً , مُبتعداً عنها :
- يا سلام ! أتريدينني أن أصدّق بهذه الخزعبلات ؟!!
- انا لا أكذب عليك , فأنت تسكن هنا منذ مدة طويلة .. ماذا حصل لعقلك اليوم ؟!
جيم بعصبية : يعني حسب كلامك الغير منطقي ! أنا شاب سقط من طائرته الى عالمكم الموجود أسفل البحر ..
زوجته مُقاطعة : عالمهم همّ !! فهم احتجزوني قبلك في عالم الجن .. لكني بشريّةٌ مثلك
- وهل المفترض ان يُريحني كلامك ؟!!
- كانوا يريدون تزويجك لفتاةٍ منهم لتحسين نسلهم , لأن الجني من والدٍ بشريّ يمتلك طاقاتٍ إضافية .. لكنك رفضت بقوّة , ولهذا زوجوني لك
جيم مستفسراً : ولما انت هنا من الأساس ؟!
ديانا : تقريباً نفس قصتك .. كنت يوماً أمارس هوايتي بالغطس حين وجدت بالصدفة كهفاً في أعماق البحر .. وحين دخلته , إنتقلت الى هنا !
فسكت وهو يتلفّت حوله بقلق , فقالت له :
- إسمع جيم .. دعني آخذك في جولة سريعة فعالمهم ليس مخيفاً كما تظن , بل هم يشبهوننا بنواحيٍ كثيرة وسأثبت لك ذلك .. تعال اولاً لنذهب الى سوقهم الكبير
وبتردّد قبل جيم الذهاب معها , وركب العربة التي يجرّها حصانٌ له قرنين ثور , وكانت سرعته أشبه بسيارةٍ رياضية !
وفي طريقهما , مرّا بجوار بحرٍ أحمر كلون الدماء ..
ثم وصلا أخيراً الى السوق الذي اكتظ بأنواعٍ مختلفة من الجن : فمنهم من يطير بجناحين او يزحف كالثعابين .. بعضهم أقزاماً والبعض الآخر عمالقة بطول العمارات الطويلة .. منهم من كان يملك عيناً واحدة كبيرة تتوسّط وجهه , بينما امتلأ وجه الآخر بعشرات العيون الصغيرة .. لكن جميع اطفالهم يتشابهون بلونهم الأخضر , قبل ان يكبروا ليصبحوا شفّافين او سوداً كالظلال !
وقد التفت الجن بمختلف أصنافهم لجيم حين قدومه , وكأنهم متحمّسون لرؤيته ! فهو وزوجته البشريّان الوحيدان في عالمهما , لهذا كان الجميع متلهّفاً لموعد ولادة طفلهما..
وقضى جيم الوقت مندهشاً وهو يمرّ على محلاّت سوقهم التي امتلأت بالفواكه والخضراوات المشابهة لطعام الإنسان , لكن لم يكن هناك أيّةِ لحوم لأنهم نباتيون !
***
وفي عصر ذلك اليوم .. عاد مع زوجته الى بيتهما المبني من الطين , وكان الطعام مجهّزاً على الطاولة
جيم باستغراب : من أعدّ الطعام ؟!
ديانا مُبتسمة : هناك جنيّة عجوزة تنتبه عليّ منذ دخولي الى عالمهم , وهي بالعادة من تحضّر لي الطعام
- وهل معها مفتاح بيتنا ؟!
- أيّ مفتاح يا رجل ! هم جنّ ويستطيعون خرق الحواجز
جيم بقلق وضيق : يا سلام ! وكيف سأهنأ بالنوم الآن , ان كان باستطاعتهم الدخول الى غرفتنا بأيّةِ لحظة
- لا تقلق , فالجن تحترم الخصوصيّة ..
جيم مُقاطعاً : عن أيّة خصوصية تتكلّمين ؟! اليس هناك بشراً يعانون بسببهم من المسّ الشيطاني ؟!
ديانا : ومن قال لك ان الجن تحب ذلك , بل السحرة البشريين هم من يرغمونهم على هذا العمل , تماماً كالرّقيق .. وعادة الجني الذي يُفَكّ قيده (من البشريّ الذي استطاع إنهاء سحره) يُعامل بعد عودته الى قومه كبطلٍّ شجاع , لتخلّصه من ذلّ العبوديّة للساحر
جيم باستغراب : هذه معلومةً جديدة ! (ثم سكت قليلاً).. عندي سؤال .. كم عشت في هذا العالم ؟
- سنة
جيم بدهشة : سنةٌ واحدة ؟!
ديانا : نعم , لكن سنة الجن تساوي عشر سنوات عندنا كبشر , فزمانهم بطيءٌ جداً .. المهم .. دعنا نأكل الآن قبل ان يبرد الطعام
وبعد ان أنهى صحنه ..
جيم : طعامهم لذيذ , لكن ليس فيه ملح !
- هم يكرهون الملح لأنه من البحر , مسكن الشياطين الذين يعتبرونهم اعدائهم
- وهل تأتي الشياطين الى هذه القرية ؟
ديانا : أخبرتني الجنيّة العجوز بأنه قديماً كانت هناك حروباً شديدة بين الطرفين .. لكن بعد تزوج ابليس من أميرتهم وأنجابها للجنّ المتشيّطنة , قلّت المشاكل بين الطرفين
جيم وهو يمسك رأسه بتعب : يا الهي ! عقلي لا يستوعب كل هذا الكلام
فتبتسم ديانا قائلة : وانا حصل معي الشيء ذاته في بادىء الأمر , لكن غداً تتعوّد على حياتهم .. إذهب الآن الى غرفتك وارتحّ قليلاً
***
حين نام جيم ذلك المساء , شاهد حلماً غريباً : حيث كان ينام في سرير المستشفى مُوصّلاً بأجهزة التنفّس , وهو لا يقوى على الحراك ! .. ثم سمع صوت طبيب بجانبه يكلّم الممرّضة :
- لا أمل من نجاته ! فله سنوات طويلة على هذه الحالة , لذلك علينا الإستفادة من أعضائه الغير متضرّرة
الممرضة : وهل تنوي فعلها هذا المساء ؟
الطبيب : نعم , لكن إيّاكِ ان يعرف أحد بخطتنا
- بالطبع لا , والاّ سنسجن معاً .. ولا تقلق , سأقوم بتحضير غرفة العمليات دون ان يلاحظني أحد كما كل مرة .. لكن ماذا تنوي الأخذ منه ؟
- انا لا اريد قتله , لهذا سأستأصل إحدى كليتيه وجزءاً من كبده ونسحب بعضاً من دمائه لأنها من فصيلةٍ نادرة , ثم نبيعها لثلاثة مرضى من الأغنياء
الممرضة : وهل لي نصيب من هذه العملية ؟
- طبعاً , فنحن شركاء بهذا الموضوع .. لكن لنتظر إنتهاء موعد الزيارات , ثم نقوم بهذه العملية السرّية في آخر الليل
الممرضة : إتفقنا دكتور
***
استيقظ جيم في اليوم التالي وهو يعاني من آلامٍ مبرحة ..
زوجته بعد ان أيقظها صراخه : جيم ! ماذا يحصل لك ؟!
جيم وهو يضع يده أسفل ظهره : أشعر بألمٍ شديد في كليتي !! ارجوك ساعديني
فأسرعت زوجته الى طبيب الجن الذي حضر بسرعة (فهو من الجن الطيّار) وكشف عليه , ليقول لزوجته على انفراد :
- الملاعيين !! لقد أخذوا كليته واشياءٍ أخرى من جسمه !
ديانا بدهشة وقهر : اللعنة ! وهل ستضرّر صحته ؟
طبيب الجن : في عالمنا لن يشعر باختلافٍ كبير , لكن ان عاد الى عالمه فحياته ستزداد بؤساً بشكلٍ ملحوظ
- لا تقلق , لن اسمح له بالعودة الى هناك مجدداً
***
ومرّ شهرٌ آخر.. كان فيه جيم يساعد زوجته بأعمال المنزل بعد ان ثقل حملها .. كما تعرّف على صديقٍ جديد من الجن الطيّار سمح له بركوب ظهره ليحلّق به في سمائهم , لكيّ يمارس هوايته بالطيران
ومع مرور الأيام بدأ يعتاد على حياته الجديدة , الى ان حان موعد الولادة
***
وقف جيم خارج بيت القابلة , في انتظار رؤية طفله بفارغ الصبر
..وفُتح الباب بعد ساعاتٍ طويلة من صراخ زوجته المتتابع .. وخرجت الجنية العجوز بأعينها الثلاثة الصفراء وقرنها الصغير الذي توسّط جبينها , وهي تحمل رضيعه داخل ملاءةٍ بيضاء ..
وكانت المفاجأة ! فطفله أخضر اللون
صرخ جيم بغضب (من الخارج) :
- ديانا !! أخنتيني مع جنيّ حقير ؟!
لكن العجوز لم تسمح له بدخول منزلها لمعاتبة زوجته بعد ان سمعها تبكي من الداخل , فعاد غاضباً الى بيته !!! رافضاً الإعتراف بولدٍ ليس من نسله
***
وفي اليوم التالي .. استيقظ جيم ليجد زوجته في غرفة نومه , فانتفض بعصبية :
- ألديكِ الجرأة لتعودي الي بيتي , ايتها الخائنة !!
وفجأة ! تحوّلت ديانا الى جنيّة بقرنين حمراوين !
فارتعب من منظرها الذي كان أبشع بكثير من الجنيّات ! فقالت له وهي تحمل رضيعه :
- انا لم أخنك يا جيم , فهذا ابنك بالفعل
جيم وهو يرتعش بخوف : من انت ؟!
- حين قدمت الى عالمنا , صدر حكماً عليك من قائد الجن باستنساخك او بالأصح الحصول على نسلك كما أخبرتك سابقاً .. وحين رفضت بقوّة الزواج من جنيّة , طلبوا مساعدتي .. فأنا جنية من والدةٍ شيطانية , لذلك لديّ القدرة على التحوّل الى أيّ شكلٍ أريده , فاخترت ان أكون بشريّة جميلة ..وألّفت قصة الغوص والكهف لتقبل الزواج مني .. اما طفلك هذا فسيكون سيد قومنا , لأنه سيمتلك بالمستقبل قدراتٍ خارقة تجعل في مقدوره التنقّل بين عالمك وعالمنا بكل سهولة
جيم : وماذا تتوقعين ان أردّ عليك بعد ان كذبتي عليّ ؟
ديانا : اريدك أن تبقى مع عائلتك , فأنا سأكون زوجة مثاليّة ...
مقاطعاً بغضب : مستحيل !! أريد العودة الى عالمي
- لكن يا جيم , انت لا تعرف ما حصل لك بالضبط .. وإن عدّت الى هناك , ستتألم كثيراً
صارخاً بغضب : لا دخل لك بي بعد اليوم !! الم تكونوا تريدون ولداً مني ؟ وهآقد حصلتم عليه .. فهيا أعيدوني الى عالمي !!!
ديانا وهي تبكي بقهر : لكني أحببتك حقاً !
جيم بحزم وقسوة : ديانا توقفي !! أريدك ان تعيديني حالاً الى حياتي السابقة .. قلت الآن !!!
***
وفجأة ! استيقظ جيم ليجد نفسه في ذات الغرفة بالمستشفى الذي كان يشاهدها دائماً في كوابيسه منذ سنين طويلة !
وما ان أزال بصعوبة قناع الأوكسجين عن وجهه , حتى انطلق صوت الإنذار من الجهاز الطبّي الموصول بقلبه ..
وعلى الفور !! حصلت ضجة داخل المستشفى , حيث أسرعت الممرضات والأطبة لرؤية المعجزة بعد إستيقاظه من غيبوبةٍ دامت عشر سنوات !
***
وبعد ان زاره الأصحاب والأقارب ليهنؤنه على السلامة , لاحظ
ألماً شديداً كلما تحرّك في سريره , وكأنه فجأة هرِمَ في العمر !
وبعد ان أصرّ على القيام بالمزيد من الفحوصات , إكتشف طبيبٌ آخر ان هناك أعضاء مهمة أُزيلت من جسمه , دون موافقة مدير المستشفى او عائلته على ذلك !
وحصل بعدها تحقيقٌ شامل مع موظفيّ المستشفى , ليتمّ لاحقاً القبض على الطبيب والممرضة اللذان قاما بعملياتٍ سرّية لسرقة أعضاء سبعة مرضى خلال عشرين سنة من عملهما , كان من ضمنهم جيم !
***
وعاد جيم الى فيلا اخيه الأكبر ليعيش في القبو , بغرفةٍ طبيّة جهزها له اخوه , فيها ماكينة غسيل الكلى بعد تعطّل كليته الأخرى عن العمل !
ومضت سنةٌ أليمة على جيم , عانى فيها من شتّى أنواع الألم .. وبدأت عائلة أخيه تنزعج من صوت أنينه المتواصل , ومن مرضه الذي إزداد مع الأيام , حتى بات التنفّس صعباً عليه دون جهاز الأوكسجين ! وقد شعر من نظراتهم له , وكأن لسان حالهم يقول:
((ليتك مُتّ , وأرحتنا من همّك))
وبدأ يُصاب جيم بالإكتئاب يوماً بعد يوم , ويتمنّى الموت ليرتاح من عذابه.. لكن الشيء الوحيد الذي يمنعه من إنهاء حياته هو تذكّره لحياته السعيدة التي أمضاها في عالم الجن , حيث كان يشعر هناك بالنشاط الدائم طوال الوقت .. كما رغب بالطيران مجدداً برفقة صديقه الجني في سماء الجن الملونة بألوان قوس قزح
لكن أكثر ما كان يشتاق اليه هو حنان زوجته .. فبدأ يتساءل في نفسه :
((يا ترى , كم أصبح عمر ابني الآن ؟!))
وفجأة ! سمع صوتاً من تحت غرفته , يقول :
- بدأ يمشي خطواته الأولى .. هيا يا جيم الصغير !! إذهب الى والدك
وهنا ! خرج جني صغير أخضر اللون من فتحةٍ مُضيئة في أرضيّة القبو , وبدأ يمشي مُتعثّراً باتجاه سرير والده
جيم بدهشة : إبني !
ثم خرجت زوجته من فتحة الأرض وهي تقول بعينين دامعتين :
- إشتقت اليك يا زوجي العزيز
لكنه فاجأها بردّة فعله , حين غطّى وجه بالملاءة ! قائلاً لها بجفاء:
- خذي الولد وعودي الى عالمك يا ديانا !! فأنا لا اريد رؤيتكما
فقالت وهي تحمل ابنها :
- ارجوك إسمعني يا جيم .. كنت أراقبك من بعيد طوال الفترة الماضية , وأشعر بالأسى كلما رأيتك تتألّم ..وأريدك ان تعود معي , فعالمنا ليس فيه امراض او تعب ..
فصرخ مقاطعاً , وهو مازال يُغطي وجهه بالملاءة : قلت اذهبي من هنا !!
فقالت ديانا بعصبية :
- على فكرة !! سمعت أخاك قبل قليل وهو يتكلّم بالهاتف مع دار للرعاية الصحيّة , فهو لا يريد رعايتك بعد اليوم
فأزال الملاءة عن وجهه , مُخفياً قلقه : ولما عليّ تصديقيك ؟ فأنت كذبتي عليّ سابقاً
فقالت بغضب : حسناً , كما تريد يا جيم .. لكن هذه آخر مرة تراني فيها
ونزلت مع ابنها في الفتحة , وكأنها تنزل الأدراج ..
وقبل ان تقفل البوّابة من جديد , تفاجأت بيدٍ تلمس شعرها .. لتنظر الى فوق وتراه , بعد ان زحف باتجاهها .. قائلاً لها وهو يلهث بتعب :
جيم : لا اريد ان أتألّم بعد اليوم .. خذيني معك , فأنا لا أتخيّل حياتي من دونكما ..
فابتسمت له , مُمسكةً يده ..
وما ان نزل جيم معهما حتى إنغلقت البوّابة السحريّة , تاركاً خلفه أدويته المبعثرة وجهاز غسل الكلاوي وقناع الأوكسجين !
******
ملاحظة :
هذه القصة كنت إستوحيتها سابقاً من كلمات أغنية (إحتمال وارد) لسميرة سعيد , وقمت الآن بتعديلها وتحسينها ..
فأشكر أستاذي الذي علّمني طريقة إستخراج أفكار للقصص من كلمات الأغاني والصور والفيديوهات القصيرة
تحياتي له وللجميع
اين سأعيش بقيّة عمري ؟!
أمضيت العشر سنوات الأخيرة من عمري بين الواقع والخيال ! فآخر ما أتذكّره هو رحلتي وحدي بطائرتي الشراعية , ثم سماعي لصوت الإنذار يؤكّد حدوث خللٍ خطير في المحرّك , ثم سقوطٍ خطر ناحية البحر .. لكني لا أذكر ما حصل لي بعدها ؟!
- هل غفوت مجدّداً يا جيم ؟
صوت امرأة أيقظني من النوم !
فسألتها بتعب : اين انا ؟!
وفتحت عينايّ لأجدها بقربي .. آه الآن تذكّرت .. هذه زوجتي بابتسامتها الرقيقة تحاول ان تُخفي آلام حملها الأول , فهي بشهرها الأخير
- ديانا ! كيف حالك اليوم ؟
- بخير , مع ان ابنك يتعبني كثيراً
- هانت عزيزتي , كلّها ايام وتلدين بالسلامة
- نعم , أكاد لا اطيق الإنتظار لحمله بين ذراعيّ .. (ثم مشت ناحية باب الغرفة) .. ما رأيك لوّ نتجوّل قليلاً في الحقول ؟ فالمشي جيدٌ لي لتسهيل الولادة .. هيا قمّ يا كسول ..
***
في الخارج ..
جيم بدهشة : لحظة ! ما هذا ؟! لما حقول الذرة زرقاء اللون ؟!
ديانا : يا الهي ! أكلّ مرة تسألني السؤال ذاته ؟
ثم صرخ برعب حين شاهد شيئاً اسوداً يطير في السماء ..
- وما ذلك الشيء هناك ؟!!
فتنهّدت زوجته بضيق : يبدو انه عليّ تذكيرك كل مرة بما حصل لك ! ..تعال لنجلس على هذه الأحجار ..
وبدأت تخبره بقصته منذ بداية تعارفهما ..
ديانا : وهاهي كل القصة
فانتفض جيم فزعاً , مُبتعداً عنها :
- يا سلام ! أتريدينني أن أصدّق بهذه الخزعبلات ؟!!
- انا لا أكذب عليك , فأنت تسكن هنا منذ مدة طويلة .. ماذا حصل لعقلك اليوم ؟!
جيم بعصبية : يعني حسب كلامك الغير منطقي ! أنا شاب سقط من طائرته الى عالمكم الموجود أسفل البحر ..
زوجته مُقاطعة : عالمهم همّ !! فهم احتجزوني قبلك في عالم الجن .. لكني بشريّةٌ مثلك
- وهل المفترض ان يُريحني كلامك ؟!!
- كانوا يريدون تزويجك لفتاةٍ منهم لتحسين نسلهم , لأن الجني من والدٍ بشريّ يمتلك طاقاتٍ إضافية .. لكنك رفضت بقوّة , ولهذا زوجوني لك
جيم مستفسراً : ولما انت هنا من الأساس ؟!
ديانا : تقريباً نفس قصتك .. كنت يوماً أمارس هوايتي بالغطس حين وجدت بالصدفة كهفاً في أعماق البحر .. وحين دخلته , إنتقلت الى هنا !
فسكت وهو يتلفّت حوله بقلق , فقالت له :
- إسمع جيم .. دعني آخذك في جولة سريعة فعالمهم ليس مخيفاً كما تظن , بل هم يشبهوننا بنواحيٍ كثيرة وسأثبت لك ذلك .. تعال اولاً لنذهب الى سوقهم الكبير
وبتردّد قبل جيم الذهاب معها , وركب العربة التي يجرّها حصانٌ له قرنين ثور , وكانت سرعته أشبه بسيارةٍ رياضية !
وفي طريقهما , مرّا بجوار بحرٍ أحمر كلون الدماء ..
ثم وصلا أخيراً الى السوق الذي اكتظ بأنواعٍ مختلفة من الجن : فمنهم من يطير بجناحين او يزحف كالثعابين .. بعضهم أقزاماً والبعض الآخر عمالقة بطول العمارات الطويلة .. منهم من كان يملك عيناً واحدة كبيرة تتوسّط وجهه , بينما امتلأ وجه الآخر بعشرات العيون الصغيرة .. لكن جميع اطفالهم يتشابهون بلونهم الأخضر , قبل ان يكبروا ليصبحوا شفّافين او سوداً كالظلال !
وقد التفت الجن بمختلف أصنافهم لجيم حين قدومه , وكأنهم متحمّسون لرؤيته ! فهو وزوجته البشريّان الوحيدان في عالمهما , لهذا كان الجميع متلهّفاً لموعد ولادة طفلهما..
وقضى جيم الوقت مندهشاً وهو يمرّ على محلاّت سوقهم التي امتلأت بالفواكه والخضراوات المشابهة لطعام الإنسان , لكن لم يكن هناك أيّةِ لحوم لأنهم نباتيون !
***
وفي عصر ذلك اليوم .. عاد مع زوجته الى بيتهما المبني من الطين , وكان الطعام مجهّزاً على الطاولة
جيم باستغراب : من أعدّ الطعام ؟!
ديانا مُبتسمة : هناك جنيّة عجوزة تنتبه عليّ منذ دخولي الى عالمهم , وهي بالعادة من تحضّر لي الطعام
- وهل معها مفتاح بيتنا ؟!
- أيّ مفتاح يا رجل ! هم جنّ ويستطيعون خرق الحواجز
جيم بقلق وضيق : يا سلام ! وكيف سأهنأ بالنوم الآن , ان كان باستطاعتهم الدخول الى غرفتنا بأيّةِ لحظة
- لا تقلق , فالجن تحترم الخصوصيّة ..
جيم مُقاطعاً : عن أيّة خصوصية تتكلّمين ؟! اليس هناك بشراً يعانون بسببهم من المسّ الشيطاني ؟!
ديانا : ومن قال لك ان الجن تحب ذلك , بل السحرة البشريين هم من يرغمونهم على هذا العمل , تماماً كالرّقيق .. وعادة الجني الذي يُفَكّ قيده (من البشريّ الذي استطاع إنهاء سحره) يُعامل بعد عودته الى قومه كبطلٍّ شجاع , لتخلّصه من ذلّ العبوديّة للساحر
جيم باستغراب : هذه معلومةً جديدة ! (ثم سكت قليلاً).. عندي سؤال .. كم عشت في هذا العالم ؟
- سنة
جيم بدهشة : سنةٌ واحدة ؟!
ديانا : نعم , لكن سنة الجن تساوي عشر سنوات عندنا كبشر , فزمانهم بطيءٌ جداً .. المهم .. دعنا نأكل الآن قبل ان يبرد الطعام
وبعد ان أنهى صحنه ..
جيم : طعامهم لذيذ , لكن ليس فيه ملح !
- هم يكرهون الملح لأنه من البحر , مسكن الشياطين الذين يعتبرونهم اعدائهم
- وهل تأتي الشياطين الى هذه القرية ؟
ديانا : أخبرتني الجنيّة العجوز بأنه قديماً كانت هناك حروباً شديدة بين الطرفين .. لكن بعد تزوج ابليس من أميرتهم وأنجابها للجنّ المتشيّطنة , قلّت المشاكل بين الطرفين
جيم وهو يمسك رأسه بتعب : يا الهي ! عقلي لا يستوعب كل هذا الكلام
فتبتسم ديانا قائلة : وانا حصل معي الشيء ذاته في بادىء الأمر , لكن غداً تتعوّد على حياتهم .. إذهب الآن الى غرفتك وارتحّ قليلاً
***
حين نام جيم ذلك المساء , شاهد حلماً غريباً : حيث كان ينام في سرير المستشفى مُوصّلاً بأجهزة التنفّس , وهو لا يقوى على الحراك ! .. ثم سمع صوت طبيب بجانبه يكلّم الممرّضة :
- لا أمل من نجاته ! فله سنوات طويلة على هذه الحالة , لذلك علينا الإستفادة من أعضائه الغير متضرّرة
الممرضة : وهل تنوي فعلها هذا المساء ؟
الطبيب : نعم , لكن إيّاكِ ان يعرف أحد بخطتنا
- بالطبع لا , والاّ سنسجن معاً .. ولا تقلق , سأقوم بتحضير غرفة العمليات دون ان يلاحظني أحد كما كل مرة .. لكن ماذا تنوي الأخذ منه ؟
- انا لا اريد قتله , لهذا سأستأصل إحدى كليتيه وجزءاً من كبده ونسحب بعضاً من دمائه لأنها من فصيلةٍ نادرة , ثم نبيعها لثلاثة مرضى من الأغنياء
الممرضة : وهل لي نصيب من هذه العملية ؟
- طبعاً , فنحن شركاء بهذا الموضوع .. لكن لنتظر إنتهاء موعد الزيارات , ثم نقوم بهذه العملية السرّية في آخر الليل
الممرضة : إتفقنا دكتور
***
استيقظ جيم في اليوم التالي وهو يعاني من آلامٍ مبرحة ..
زوجته بعد ان أيقظها صراخه : جيم ! ماذا يحصل لك ؟!
جيم وهو يضع يده أسفل ظهره : أشعر بألمٍ شديد في كليتي !! ارجوك ساعديني
فأسرعت زوجته الى طبيب الجن الذي حضر بسرعة (فهو من الجن الطيّار) وكشف عليه , ليقول لزوجته على انفراد :
- الملاعيين !! لقد أخذوا كليته واشياءٍ أخرى من جسمه !
ديانا بدهشة وقهر : اللعنة ! وهل ستضرّر صحته ؟
طبيب الجن : في عالمنا لن يشعر باختلافٍ كبير , لكن ان عاد الى عالمه فحياته ستزداد بؤساً بشكلٍ ملحوظ
- لا تقلق , لن اسمح له بالعودة الى هناك مجدداً
***
ومرّ شهرٌ آخر.. كان فيه جيم يساعد زوجته بأعمال المنزل بعد ان ثقل حملها .. كما تعرّف على صديقٍ جديد من الجن الطيّار سمح له بركوب ظهره ليحلّق به في سمائهم , لكيّ يمارس هوايته بالطيران
ومع مرور الأيام بدأ يعتاد على حياته الجديدة , الى ان حان موعد الولادة
***
وقف جيم خارج بيت القابلة , في انتظار رؤية طفله بفارغ الصبر
..وفُتح الباب بعد ساعاتٍ طويلة من صراخ زوجته المتتابع .. وخرجت الجنية العجوز بأعينها الثلاثة الصفراء وقرنها الصغير الذي توسّط جبينها , وهي تحمل رضيعه داخل ملاءةٍ بيضاء ..
وكانت المفاجأة ! فطفله أخضر اللون
صرخ جيم بغضب (من الخارج) :
- ديانا !! أخنتيني مع جنيّ حقير ؟!
لكن العجوز لم تسمح له بدخول منزلها لمعاتبة زوجته بعد ان سمعها تبكي من الداخل , فعاد غاضباً الى بيته !!! رافضاً الإعتراف بولدٍ ليس من نسله
***
وفي اليوم التالي .. استيقظ جيم ليجد زوجته في غرفة نومه , فانتفض بعصبية :
- ألديكِ الجرأة لتعودي الي بيتي , ايتها الخائنة !!
وفجأة ! تحوّلت ديانا الى جنيّة بقرنين حمراوين !
فارتعب من منظرها الذي كان أبشع بكثير من الجنيّات ! فقالت له وهي تحمل رضيعه :
- انا لم أخنك يا جيم , فهذا ابنك بالفعل
جيم وهو يرتعش بخوف : من انت ؟!
- حين قدمت الى عالمنا , صدر حكماً عليك من قائد الجن باستنساخك او بالأصح الحصول على نسلك كما أخبرتك سابقاً .. وحين رفضت بقوّة الزواج من جنيّة , طلبوا مساعدتي .. فأنا جنية من والدةٍ شيطانية , لذلك لديّ القدرة على التحوّل الى أيّ شكلٍ أريده , فاخترت ان أكون بشريّة جميلة ..وألّفت قصة الغوص والكهف لتقبل الزواج مني .. اما طفلك هذا فسيكون سيد قومنا , لأنه سيمتلك بالمستقبل قدراتٍ خارقة تجعل في مقدوره التنقّل بين عالمك وعالمنا بكل سهولة
جيم : وماذا تتوقعين ان أردّ عليك بعد ان كذبتي عليّ ؟
ديانا : اريدك أن تبقى مع عائلتك , فأنا سأكون زوجة مثاليّة ...
مقاطعاً بغضب : مستحيل !! أريد العودة الى عالمي
- لكن يا جيم , انت لا تعرف ما حصل لك بالضبط .. وإن عدّت الى هناك , ستتألم كثيراً
صارخاً بغضب : لا دخل لك بي بعد اليوم !! الم تكونوا تريدون ولداً مني ؟ وهآقد حصلتم عليه .. فهيا أعيدوني الى عالمي !!!
ديانا وهي تبكي بقهر : لكني أحببتك حقاً !
جيم بحزم وقسوة : ديانا توقفي !! أريدك ان تعيديني حالاً الى حياتي السابقة .. قلت الآن !!!
***
وفجأة ! استيقظ جيم ليجد نفسه في ذات الغرفة بالمستشفى الذي كان يشاهدها دائماً في كوابيسه منذ سنين طويلة !
وما ان أزال بصعوبة قناع الأوكسجين عن وجهه , حتى انطلق صوت الإنذار من الجهاز الطبّي الموصول بقلبه ..
وعلى الفور !! حصلت ضجة داخل المستشفى , حيث أسرعت الممرضات والأطبة لرؤية المعجزة بعد إستيقاظه من غيبوبةٍ دامت عشر سنوات !
***
وبعد ان زاره الأصحاب والأقارب ليهنؤنه على السلامة , لاحظ
ألماً شديداً كلما تحرّك في سريره , وكأنه فجأة هرِمَ في العمر !
وبعد ان أصرّ على القيام بالمزيد من الفحوصات , إكتشف طبيبٌ آخر ان هناك أعضاء مهمة أُزيلت من جسمه , دون موافقة مدير المستشفى او عائلته على ذلك !
وحصل بعدها تحقيقٌ شامل مع موظفيّ المستشفى , ليتمّ لاحقاً القبض على الطبيب والممرضة اللذان قاما بعملياتٍ سرّية لسرقة أعضاء سبعة مرضى خلال عشرين سنة من عملهما , كان من ضمنهم جيم !
***
وعاد جيم الى فيلا اخيه الأكبر ليعيش في القبو , بغرفةٍ طبيّة جهزها له اخوه , فيها ماكينة غسيل الكلى بعد تعطّل كليته الأخرى عن العمل !
ومضت سنةٌ أليمة على جيم , عانى فيها من شتّى أنواع الألم .. وبدأت عائلة أخيه تنزعج من صوت أنينه المتواصل , ومن مرضه الذي إزداد مع الأيام , حتى بات التنفّس صعباً عليه دون جهاز الأوكسجين ! وقد شعر من نظراتهم له , وكأن لسان حالهم يقول:
((ليتك مُتّ , وأرحتنا من همّك))
وبدأ يُصاب جيم بالإكتئاب يوماً بعد يوم , ويتمنّى الموت ليرتاح من عذابه.. لكن الشيء الوحيد الذي يمنعه من إنهاء حياته هو تذكّره لحياته السعيدة التي أمضاها في عالم الجن , حيث كان يشعر هناك بالنشاط الدائم طوال الوقت .. كما رغب بالطيران مجدداً برفقة صديقه الجني في سماء الجن الملونة بألوان قوس قزح
لكن أكثر ما كان يشتاق اليه هو حنان زوجته .. فبدأ يتساءل في نفسه :
((يا ترى , كم أصبح عمر ابني الآن ؟!))
وفجأة ! سمع صوتاً من تحت غرفته , يقول :
- بدأ يمشي خطواته الأولى .. هيا يا جيم الصغير !! إذهب الى والدك
وهنا ! خرج جني صغير أخضر اللون من فتحةٍ مُضيئة في أرضيّة القبو , وبدأ يمشي مُتعثّراً باتجاه سرير والده
جيم بدهشة : إبني !
ثم خرجت زوجته من فتحة الأرض وهي تقول بعينين دامعتين :
- إشتقت اليك يا زوجي العزيز
لكنه فاجأها بردّة فعله , حين غطّى وجه بالملاءة ! قائلاً لها بجفاء:
- خذي الولد وعودي الى عالمك يا ديانا !! فأنا لا اريد رؤيتكما
فقالت وهي تحمل ابنها :
- ارجوك إسمعني يا جيم .. كنت أراقبك من بعيد طوال الفترة الماضية , وأشعر بالأسى كلما رأيتك تتألّم ..وأريدك ان تعود معي , فعالمنا ليس فيه امراض او تعب ..
فصرخ مقاطعاً , وهو مازال يُغطي وجهه بالملاءة : قلت اذهبي من هنا !!
فقالت ديانا بعصبية :
- على فكرة !! سمعت أخاك قبل قليل وهو يتكلّم بالهاتف مع دار للرعاية الصحيّة , فهو لا يريد رعايتك بعد اليوم
فأزال الملاءة عن وجهه , مُخفياً قلقه : ولما عليّ تصديقيك ؟ فأنت كذبتي عليّ سابقاً
فقالت بغضب : حسناً , كما تريد يا جيم .. لكن هذه آخر مرة تراني فيها
ونزلت مع ابنها في الفتحة , وكأنها تنزل الأدراج ..
وقبل ان تقفل البوّابة من جديد , تفاجأت بيدٍ تلمس شعرها .. لتنظر الى فوق وتراه , بعد ان زحف باتجاهها .. قائلاً لها وهو يلهث بتعب :
جيم : لا اريد ان أتألّم بعد اليوم .. خذيني معك , فأنا لا أتخيّل حياتي من دونكما ..
فابتسمت له , مُمسكةً يده ..
وما ان نزل جيم معهما حتى إنغلقت البوّابة السحريّة , تاركاً خلفه أدويته المبعثرة وجهاز غسل الكلاوي وقناع الأوكسجين !
******
ملاحظة :
هذه القصة كنت إستوحيتها سابقاً من كلمات أغنية (إحتمال وارد) لسميرة سعيد , وقمت الآن بتعديلها وتحسينها ..
فأشكر أستاذي الذي علّمني طريقة إستخراج أفكار للقصص من كلمات الأغاني والصور والفيديوهات القصيرة
تحياتي له وللجميع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق