الأحد، 9 أكتوبر 2022

مواجهة الماضي

كتابة : امل شانوحة 

المتنمّر والضحيّة


في بداية العام الدراسيّ ، نادى المعلّم (مروان) بأسماء طلاّبه للصفّ الثاني الإبتدائي .. ليتوقف عند الطالب الأخير بين ثلاثين تلميذاً ، بعد قراءة إسمه :  

((وليد سمير النمر))

ليلاحظ تشابه التلميذ الجديد مع والده الذي عرفه سابقاً ! 

فتذكّر ماضيه مع المتنمّر سمير الذي حوّل حياته لجحيم من المرحلة الإبتدائيّة حتى الثانويّة ! فليس في قريتهم الصغيرة سوى ثلاثة مدارس للأولاد ، لهذا تجمّع الأصدقاء في كل المراحل الدراسيّة ..


فشعر مروان بالضيق لأنه مُجبر على تعليم ابن المتنمّر الذي أساء لزملائه ، خاصّة هو لكونه فتى هزيلاً ويتيماً .. بينما سمير أضخم الأولاد وأكثرهم ثراءً ! 

لهذا تجنّب الأساتذة معاقبته رغم مشاغبته الدائمة ، بسبب تبرّعات والده (التاجر) لتحسين المدارس التي تعلّم فيها ابنه المدلّل !


ولم يتخلّصوا من أذاه إلاّ بعد انتقاله للمدينة لدخول جامعةٍ مهمّة ، بعكس زملائه الذين عملوا فور تخرّجهم الثانويّ لمساعدة اهاليهم بمصروف المنزل .. بينما أكمل مروان دراسته في جامعةٍ حكوميّة ، قبل عودته لتعليم اولاد قريته


وهاهو المتنمّر يعود من جديد من خلال ابنه (ذوّ الثماني سنوات) الذي يأمل أن لا يكون سيئاً كوالده ، بعد انتقاله حديثاً لمدرسته المتواضعة


فحاول الأستاذ تجاهل الوضع المزعج ، وبدأ بشرح الدرس الأول لمادة الرياضيات ..


وبعد دقائق ، طلب من التلاميذ حلّ المسألة الرياضيّة .. ليكون وليد الوحيد الذي رفع يده بينهم !

فسمح له بالكتابة على السبّورة ، ليفاجأ بحلّه المسألة خلال ثواني !

فقال مروان بنفسه ، باستغراب :

((يبدو انه ورث الذكاء عن امه المسكينة التي تزوّجت ذلك الحقير))


وتابع شرح الدرس ، ليجد وليد أكثرهم مشاركة .. كما لاحظ سلوكه الجيد بردّه على الأسئلة ، وحديثه مع زملائه ! 

فهل هو ابن سمير بالفعل ، ام مجرّد تشابه اسماء ؟!

***


بعد انتهاء الحصّة ، نزل الأولاد لتبديل ملابسهم للرياضة البدنيّة .. ولأن الأستاذ مروان مُتفرّغ للحصّة التالية ، راقب وليد وهو يلعب في ساحة المدرسة .. حيث كان لاعباً جيداً ، وبارعاً بتمرير الكرة لفريقه.. بعكس والده الذي كان يستحوذّ على الكرة ، بحجّة والده الذي دفع ثمنها ..ودائماً ما يُفسد اللعبة على الجميع !

***


ظلّ الصغير يشغل بال الأستاذ مروان الذي راقبه ايضاً في فرصة الطعام ، ليشاهده وهو يشارك حلوياته مع اصدقائه الجدّد الذين تجمّعوا حوله لسماع نكاته ، حيث تميّز بخفّة الدم .. بعكس والده الذي كان يرمي وجبات التلاميذ الضعفاء في سلّة النفايات ، ويسكب عصيره فوق حقائبهم المدرسيّة .. عدا عن إستفزازهم بألقابٍ مسيئة ، تدمّر نفسيّاتهم لسنواتٍ طويلة !

***


قبل نهاية الدوام ، دخل الأستاذ مروان الى مكتب المدير .. واستأذنه بقراءة ملفّ وليد ، الذي كان مُرفقاً معه طلباً مقدّماً من الأم : بمراعاة ظروفه ، لعدم رؤيته اباه الذي سُجن قبل ولادته


فسأل المدير عن الموضوع ! فأخبره إن سمير سُجن عشر سنوات بسبب طلبه الرشوى من المراجعين اثناء عمله بمؤسسة الضمان الإجتماعيّ ، وانه سيُطلق سراحه بعد شهرين..


الأستاذ مروان بضيق : أتمنى ان لا يفسد اخلاق ابنه بعد عودته لحياته

المدير : لا تستعجل الأمور ، ربما انصلح حاله في السجن ..خاصة انه سيُسرّح قبل سنته الأخيرة ، لحسن سلوكه

- هذا مُحال !! فهو فاسدٌ حتى النخاع .. كم أشفق على الصغير الذي سيُصدم بأخلاق والده السيئة 

- المهم أن لا يؤثّر ذلك على مستواه الدراسيّ

مروان : بالتاكيد سيؤثّر !! وربما يعلّمه اساليبه الملتويّة بالتعامل مع الطلاّب والأساتذة .. ويحوّله من طالبٍ محبوب ، لمتنمّرٍ مكروهٍ مثله

- المهم أن ننتبه على وليد ، فوالدته تعبت كثيراً بتربيته وحدها

مروان بعصبية : سأحاول .. لكن إن ساءت اخلاقه بعد عودة والده ، سأطلب نقله لصفٍّ آخر .. فأنا لا اريد التصادم مع سمير الذي نغّص طفولتي ومراهقتي

المدير : حسناً كما تشاء

***


مرّ شهران ، أصبح فيهما وليد من المتفوّقين بالمدرسة .. 

وذات يوم ، وبعد خروج الطلاّب لفرصة الغداء .. إقترب وليد من الأستاذ وهو يقول :

- هل يمكنني إخبارك بشيءٍ خاصّ ؟

الأستاذ مروان : ماذا تريد ؟

وليد بقلق : غداً يعود ابي للمنزل

الأستاذ بضيق : هل سُرّح سمير من سجنه ؟!

وليد بدهشة : من أخبرك بذلك ؟!

- لا تقلق ، لن يعرف أحد بالموضوع 

وليد : انا خائف ، لأني لم اقابله بحياتي 

- الم تزره من قبل ؟!

- رفضت امي ذهابي معها بأوقات الزيارة

الأستاذ : لا تلومها ، فهو أفضل لنفسيّتك

- وماذا عليّ فعله حينما اراه ؟

- أحضنه ، فهو سيكون مشتاقاً لك

وليد : وعليّ إطاعة اوامره ، اليس كذلك ؟


فتنهّد الأستاذ بغيظ : فقط الجيدة منها 

- ماذا تقصد ؟!

الأستاذ بتردّد : لم أكن اريد اخبارك .. لكني كنت مع والدك من الإبتدائي حتى الثانويّة 

وليد بدهشة وفرح : انتما اصدقاء ؟!

- لم نكن مقرّبين من بعضنا ، فقط تعلّمنا معاً 

وليد باهتمام : وكيف كان ابي ؟ هل كان متفوّقاً مثلي ؟ وهل لديه الكثير من الأصدقاء ؟ أكان طالباً مثاليّاً ؟


فلم يرغب مروان بكسر خاطره ، فكذب قائلاً :

- نعم .. كان رائعاً مثلك

وليد بحماس : ممتاز !! يعني سنتفاهم معاً .. شكراً استاذ ، كنت خائفاً من مقابلته .. لكن طالما أشبهه ، سيكون لقائنا ممتعاً


وخرج سعيداً من الصفّ ، تاركاً استاذه بحيرةٍ وقلق :

((ترى هل اخطأت ! هل كان عليّ تحذيره من طباع والده الشريرة ؟! ...كان الله في عونك يا صغيري)) 

***


في اليوم التالي .. تفاجأ مروان بدخول سمير مع ابنه الى غرفة الأساتذة (التي كانت خالية ، فمروان الوحيد الذي لم يكن لديه حصةً اولى) حيث ظهر سمير مختلفاً تماماً عن طفولته ! فهو بدى هزيلاً وكبيراً بالسن ، كأنه جدّ وليد وليس والده !  


واقترب من مكتبه ، رافعاً يديه .. 

سمير بحماس : مرحباً مروان !! لم أصدّق حين أخبرني ابني انك استاذه المفضّل .. تعال بالأحضان يا صديقي الوفيّ 

وحضنه بقوة !


فقال مروان للصغير وهو يكتم غيظه : 

- إذهب لصفّك ، فعليّ التحدّث مع والدك قليلاً

وليد : حاضر استاذ !!


وبعد ذهابه ، وجلوس سمير امام مكتب مروان :

- كيف حالك يا صديقي ؟

مروان بعصبية : توقف يا سمير !! انت تعلم أننا لسنا اصدقاء

فطأطأ سمير رأسه بحزن :

- معك حق ، كنت ولداً سيئاً للغاية

مروان بقهر : كنت متنمّراً على الجميع ، خاصّة عليّ !!

- لهذا تفاجأت حين أخبرني ابني بأنك مدحتني امامه !

- لأنه ولدٌ صالحٌ وذكيّ ، ومتعاون مع زملائه .. بعكسك انت!!

سمير : لاحظت ذلك ، فوالدته أحسنت تربيته بالفعل.. وربما أبعدني الله عن حياته ، كيّ لا أفسده بطباعي السيئة .. لكن أحلف لك إن السجن غيّرني تماماً

- هذا واضح ! فماذا حصل لك ؟


فتنهّد سمير بألم : 

- تنمّر عليّ المساجين والحرس ، فشعرت بألمك انت وبقيّة الطلاّب الذين أتعبتهم بتصرّفاتي المستهترة.. وأدركت انني أفسدت مستقبلي بعدم اهتمامي بإكمال دراستي الجامعيّة.. ولولا وساطة ابي ، لما توظّفت بالضمان الإجتماعيّ التي أفسدتها ايضاً بأخذ الرشاوي من المراجعين

مروان : لم يكن خطؤك وحدك ، فوالدك أفسدك بدلاله الزائد

سمير : كنت ابنه الوحيد .. وهو تساهل بعدم عقابي على أخطائي المتكرّرة ، مما دمّر مستقبلي ! رحمه الله .. (ثم تنهّد بضيق).. ما يهمّني أن لا يقلّدني وليد ، فأنا أخجل كثيراً من ماضيّ القذر  


مروان : لا تقلق ، ابنك تربّى على الأخلاق الحسنة.. وكل الأساتذة معجبين بذكائه وسلوكه المُشرّف 

- جيد ان امي أجبرتني على الزواج من قريبتها المتديّنة ، بعد أن كنت مُغرما براقصةٍ فاسدة ! وهاهي زوجتي الصالحة تحمّلت غيابي لسنوات ، وربّت ابني أحسن تربية.. انا حقاً فخوراً بعائلتي ، وبك ايضاً .. يا صاحب العيون الأربعة

مروان باستغراب : أمازلت تسخر من نظّاراتي ؟!


سمير مبتسماً : أمزح معك ، فأنا اتيت لأشكرك على اهتمامك بإبني

- هذا واجبي .. ماذا عنك ؟ ماذا ستعمل بعد طردك من وظيفتك السابقة ؟ 

سمير : سأدير مستودع الخردوات الذي ورثته عن والدي ..وسيساعدني موظفوه القدامى على فهم العمل الذي رفضّته سابقاً ! سأبدأ غداً

- وفّقك الله

- شكراً يا صديقي... أقصد استاذ مروان

مروان : لا بأس ، فنحن مازلنا زملاء قدامى

وسلّما على بعضهما


بعد ذهاب سمير ، قال مروان بنفسه بدهشة :

((سبحان مُغيّر الأحوال ! جيد اني لم أنتقم من ابنه .. بل فزت بتلميذٍ مجتهد ، مع احترام والده .. بالنهاية جميعنا خطّاؤون ، وعفا الله عمّا سلف))


ثم توجّه مروان لصفّه وهو يشعر بالرضا ، بعد أن ساهمت مقابلته لعدوّه اللّدود بمحوّ ذكرياته السيئة التي نغّصت حياته لسنواتٍ طويلة !


هناك 6 تعليقات:

  1. قصه تبعث الامل والرفق بالانسان سبحان مغير الاحوال ابدعتي استاذه امل وفقي الله الاستاذ جيد انه لم ينتقم وهكذا الاصل تكون الحياه لاتعامل احد على حساب احد اخر
    نتمى الامل لك استاذه امل fo

    ردحذف
  2. قصه مفيده وذات هدف وان كانت مروانيه

    ولكن في الواقع لسوء الحظ فان تقويم

    السلوك والطبع شبه مستحيل فخبث النفس

    لا علاج لها كما قرر اطباء النفس وعلماء

    التربيه والسلوك والاجتماع وحتى الفلاسفه

    وعلماء الدين اذ ان اعوجاج الضلع

    المنحرف او الفرع المائل هو اصلا فيه

    وكما قالت الشاعره
    اذا كان الطباع طباع سوء
    فلا ادبا يفيد ولا اديب

    ردحذف
  3. ولكن طبعا شكرا للنهايه المتفاءله والسعيده
    في ظل هذا المرار الذي نعيشه

    ردحذف
    الردود
    1. عرفت المشكلة بالملفات الطويلة .. لكن ستقطع الكهرباء بعد قليل .. سأحلّها غداً ان شاء الله ، وأخبرك .. عذراً ، فالأمر معقّد .. وانا خبرتي بالحاسوب قليلة .. لكني عرفت الحل .. وسأعود لنشر الصفحة غداً ان شاء الله..

      حذف
  4. حسنا ولكن لا تعتمدي على كلامي فقط لان هاتفي قديم ولا احسن التعامل مع جوجل درايف ودروبوكس

    ردحذف
  5. لافيكيا سنيورا

    لمدة يومين وانا اقرأ القصه ثلثها الاول وتختلطـعليا الاحداث لدرجة راسي يوجعني ثم اتركها ..ولكني اليوم قرات القصه من نصفها عشان اتفادا وجع راسي هههههههههههههه الخلل مني هههههه

    لافيكيا سنيورا

    ردحذف

التوأمتان المتعاكستان

تأليف : امل شانوحة  الطيّبة والشريرة دخلت السكرتيرة الى مكتب مديرها (جاك) لتجده يفكّر مهموماً :   - إن كنت ما تزال متعباً ، فعدّ الى قصرك ...