الأحد، 11 مارس 2018

الطفلة والفيضان

تأليف امل شانوحة


سأنقذها مهما كلّف الأمر 

صوت المطر الغزير أيقظ آدم (22عام) من نومه عصر ذلك اليوم .. وما ان فتح عيناه حتى تذكّر آخر نقاشٍ حاد حصل بينه وبين والديه قبل سفرهما لحضور مؤتمرٍ صحافي , فكلاهما يعملان بمجال الإعلام ..
وكان سبب الشجار هذه المرة : هو عدم تحمّله المسؤولية , فهو لا يرغب الحصول على عمل بعد انهاء دراسته الجامعية ..ويقضي معظم وقته باللعب بأجهزته الإلكترونية , وليس لديه الكثير من الأصدقاء .. 

لذا قرّر الوالدان تركه لوحده لأوّل مرة في المنزل ليعوّداه على تحمّل المسؤولية .. لكن وبعد مضيّ اسبوع على رحيلهما , وفي اليوم ذاته الذي قرّرا فيه العودة الى منزلهما , ألغيت جميع رحلات الطيران بسبب سوء الأحوال الجوية , حيث أعلنت حالة الطوارىء في البلاد من خطر الفيضانيات بسبب ارتفاع منسوب المياه , لإنهمار الأمطار بغزارة لعدّة أيام دون توقف ! لكن هذا لم يقلق الشاب آدم الذي قضى معظم وقته في المنزل كعادته .. 

وبعد تناوله الغداء متأخراً .. سمع صراخ الجيران في الخارج !! وحين فتح باب منزله , تفاجأ بموجة من المياه تقترب بسرعة من الحيّ ! 
وكان على وشك ركوب سيارته ليبتعد عن الخطر الاّ انه شعر بضيق الوقت , فعاد الى منزله وأسرع بالصعود الى الطابق العلوي هرباً من المياه التي بدأت باجتياح الصالة ..لكن سرعان ما وصل منسوب المياه الى فوق .. 

فأسرع آدم فزعاً الى العلّية وفتح نافذتها وجلس على السطح .. وقد صدمه المنظر من فوق ! حيث شاهد غرق الحيّ بأكمله في غضون دقائقٍ معدودة 
وكان المطر في ذلك الحين قد توقف قليلاً , لكن شبكات الصرف الصحي فاضت لعدم قدرتها على تصريف هذا القدر من المياه , مما زاد من حجم المصيبة ..

وبدأت السيارات تطفو وتتحرّك مع التيّار الذي جرفها معه .. وهنا لاحظ آدم سيارةً عالقة بين أغصان شجرةٍ ضخمة لا تبعد كثيراً عن منزله , وكان يسمع صرخات طفلة ونباح كلبٍ صادراً منها .. وكان على آدم ان يقرّر في تلك اللحظات : امّا البقاء سالماً فوق سطح منزله , او المجازفة بالسباحة لإنقاذ من بداخل السيارة ..
فلم يجد نفسه الا وهو يقفز ناحية الماء .. وساعده اتجاه التيّار لأخذه بسرعة ناحية السيارة .. وحين وصل اليها , حاول فتح بابها لكنه كان مغلقاً بإحكام .. فنظر من خلال زجاجها الموسّخ بالمياه الموحلة , ليرى كلباً بجانب طفلة تبدو في السادسة من عمرها (وتجلس في الكرسي المخصّص للأطفال) .. اما والدها فكان واضحاً من عينيه المفتوحتين انه فارق الحياة أثر ارتطام رأسه بعنف بالزجاج الأمامي , لأنه لم يكن يضع حزام الأمان .. 

وهنا صعد آدم الى سطح السيارة وقام بكسر جذع شجرة , إستخدمه بكسر النافذة الجانبية (البعيدة عن الطفلة) .. ثم أدخل يده لفكّ حزام الأمان عنها .. وقد استطاع إخراجها بالوقت المناسب قبل ان تنجرف السيارة مجدّداً مع التيّار , بعد تمكّنه من القفز معها نحو الشجرة .. ومن ثم ابتعدت السيارة عن المكان وبداخلها جثة الرجل !  

وفي هذه الأثناء .. بكت الطفلة بفزع , وهي تنادي على والدها وكلبها .. وحاول آدم تهدأتها قدر المستطاع , رغم معرفته بقساوة الموقف على فتاةٍ في مثل عمرها 
فحضنها وهو يقول لها : والدك الآن في الجنة يا صغيرتي .. هو في مكانٍ أفضل .. ارجوك اهدأي .. آه لحظة ! انظري هناك !!
وشاهدا الكلب وهو يسبح بصعوبة ناحيتهما , بعد ان استطاع القفز من النافذة المكسورة .. فصرخت الطفلة لآدم :
- ارجوك اذهب وساعده !!
آدم : اذاً تمسّكي جيداً بغصن الشجرة , وانا سأحاول سحبه الينا ..وايّاكِ ان تقعي !!
فأومأت رأسها موافقة بقلق..

وقام آدم بقطع غصن شجرة طويل , ونزل به الى مستوى الماء .. حيث أمسك بيده طرف الشجرة , بينما مدّ يده الثانية باتجاه الكلب  
وكان الأمر صعباً , حيث كان التيّار يُبعد الكلب عن العصا في كل مرة .. لكن آدم ظلّ يشجّع الكلب للوصول اليه :
- هيا يا صغيري .. التقط العصا ..هيا !! يمكنك فعل ذلك 
وبالفعل !! أطبق الكلب فمه بقوّة على طرف العصا , فسحبه آدم على الفور ناحية الشجرة .. ثم حمله الى فوق , لتقوم الطفلة باحتضان كلبها وهي تبكي بارتياح لنجاته من الموت

وجلسوا جميعاً فوق الشجرة على أمل ان يراهم احد وينقذهم قبل حلول المساء ..
***

ومرّ الوقت بطيئاً .. لم يكن هناك شيئاً يفعلوه سوى الإنتظار , فالوضع كان يائساً بعد ان أُحيطت المياه بالشجرة من كل جانب , وكأنها مزروعة في وسط البحر ! فلا يوجد أثر للمنازل من حولهم .. حتى سقف منزل آدم اختفى تماماً تحت الماء ! 

اما هذه الشجرة .. فقد كان يرغب سكّان الحيّ قبل اسابيع قطعها لأنها صارت طويلة جداً وتهدّد أمن المنازل المجاورة في حال سقوطها , والآن أصبحت تبدو وكأنها شجرة صغيرة بعد اختفاء كامل جذعها الطويل تحت الماء ! 

وبدأ آدم يفكّر بقلق : هل هذا فيضاناً ام تسونامي , ام مجرّد سيل نتج بفعل الأمطار ؟! .. كان عليّ الإستماع للنشرة الجوية البارحة , كما طلبت مني امي .. اللعنة !! ..والآن ما الحلّ ؟ ..هل معقول اننا الناجون الوحيدون في كل المنطقة ؟! 
***

ومع الوقت .. بدأ الإرهاق ينال من آدم , لأنه ظلّ طوال الوقت مُمّسكاً بالطفلة والكلب كيّ لا يقعا في الماء .. بينما بدأت الطفلة تعتاد على آدم , حيث فاجأته بسؤالها :
- ما اسمك ؟
آدم بدهشة : ماذا !
الطفلة : ما اسمك ؟ .. أنا اسمي ديانا
- وانا اسمي آدم
- وكم عمرك ؟
- عمري 22 سنة 
الطفلة : آه ! كعمر امي
آدم : ماذا ! يبدو انها أنجبتك وهي صغيرة
- نعم , أثناء دراستها الثانوية .. هكذا أخبرتني
- واين هي الآن ؟ فأنا لم أرها مع والدك بالسيارة ؟

الفتاة بحزن : امي وابي منفصلان .. وهو أخذني من المدرسة دون علمها , وقال بأنني سأعيش منذ اليوم عند جدتي  
- تقصدين ام والدك ؟ 
- نعم 
- يعني خطفك دون علم امك ؟!
- ماذا يعني خطفني ؟
- لا , لا شيء .. أظن ان امك قلقة عليك الآن .. فهل منزلها قريباً من هنا؟
- لا بعيد .. لكن منزل جدتي في المدينة المجاورة , وكنّا سنصل اليها في المساء .. الا ان الأمطار لم تتوقف , حتى بدأت المياه تصل لنافذتي .. ثم بدأت السيارة تسبح لوحدها , الى ان إرتطمنا بالشجرة .. وصرخت لأبي كثيراً ليفكّ حزامي العالق , لكنه لم يردّ عليّ ! 
- انا آسف يا ديانا .. وأعدك بأننا فور خروجنا من هذا المأزق , سأوصلك بنفسي الى امك 
الفتاة بحزن : أتعدني بأن لا تتركني وحدي , كما فعل والدي
- أعدك بذلك 
***

ثم عمّ السكوت بينهما لبعض الوقت , قبل ان تقول : 
- انا جائعة يا آدم 
- ليتني استطيع إيجاد شيئاً نأكله , لكن ..
فقالت بابتسامة وحماس : اذاً دعنا نتخيّل بأن هناك فواكه متنوعة على هذه الشجرة
آدم باستغراب : ماذا !
- معلمتنا علّمتنا هذه اللعبة .. فهيّا نتخيّل معاً  
- وماذا أفعل ؟
ديانا بسعادة : إقطف لي تفاحة واعطني ايّاها .. هيا ما بك !! إفعل ذلك
- حسناً !

فرفع يده في مشهدٍ تمثيلي وكأنه يحاول قطف التفاحة الوهمية من أعلى الشجرة , ثم أعطاها اياها .. فتظاهرت بأخذها منه , وبدأت تصدر أصواتاً وكأنها تأكل التفاحة بنهمّ .. 
فقال لها مبتسماً :
- هل هي لذيذة ؟
- نعم جداً .. تذوّق قضمة 

فقام بفتح فمه والإقتراب من يدها , ثم بدأ يصدر أصواتاً هو الآخر وكأنه يمضغ التفاحة الوهمية
ديانا بابتسامة وحماس : اليست لذيذة ؟!!
- نعم جداً .. لكن طالما اننا نمثّل , فلما لا نتخيّل اننا نأكل الشوكولا بدل التفاح
الطفلة باستغراب : لكن الشجر لا يُزهر الحلويات !
- بلى .. حتى انظري هناك .. 

ورفع يده نحو غصن الشجرة , مدّعياً قطفه لشوكولا جالكسي ..
فضحكت الطفلة وهي تسمعه يأكلها بشهيّة ..
فشاركته التمثيلية قائلة : لكني لا اريد جالكسي , لهذا سأقطف شوكولا كندر التي هناك
فقال مبتسماً : اما انا فقد إكتفيت من الحلويات , وسأقطف الآن الهمبرجر
فضحكت بملء شدّقيها : وهل تنمو السندويشات على هذه الشجرة ايضاً ؟
- نعم فهي شجرة سحريّة , الا تري انها الوحيدة التي لم يُغرقها الفيضان؟ 
فنظرت حولها ثم قالت : هذا صحيح .. فالمياه تمرّ من جانبها فقط!

- نعم .. والآن إختاري انت طعامك 
فتفكّر قليلاً ثم تقول : اذاً سأختار البيتزا .. انظر !! يا سلام , كم هي كبيرة 
- إعطني قطعة
- تفضّل .. لا لحظة !! إترك هذه لي
- لماذا ؟!
- لأن بها سجق , وانا أحبه
- اذاً إعطني التي بها فطر
- خذها , فأنا لا أحب الفطر

وهكذا قضيا ساعةٍ كاملة وهما يتخيّلان أصناف الطعام التي سدّت قليلاً من جوعهما , او على الأقل ألهتهما عن هذه المصيبة .. بينما اكتفى الكلب بالنظر اليهما بهدوء , دون ان يفهم لعبتهما الوهمية !
***

وبعد قليل .. قالت الطفلة لآدم : اريد دخول الحمام 
- لا بأس ..إفعليها هنا , فثيابنا بجميع الأحوال مبلولة
الطفلة بضيق : لا , لا استطيع .. اريد ان انزل الى تحت
- لا يمكن ذلك يا ديانا , أخاف ان يجرفك التيّار بعيداً
- اذاً أمسكني جيداً من ذراعيّ , ودعّ جسمي تحت الماء 
- ديانا .. انت مازلتي صغيرة , لا بأس ان فعلتها بملابسك ..كما انني سأغمض عينايّ
الفتاة بإصرار : لا !! لن أوسخ ثيابي .. هيّا أمسكني جيداً 

فرضخ آدم للأمر , رغم قلقه من هذه المجازفة .. وتدلّى بشكلٍ معاكس , حيث لفّ قدميه حول غصن الشجرة , بينما أمسكها بإحكام من ذراعيها ..الى ان انتهت , وطلبت منه رفعها الى فوق من جديد 

وهنا سمعا صوت المروحية وهي تمشّط المنطقة بحثاً عن ناجين , فبدآ يصرخان ويلوّحان بيديهما على أمل ان يروهم في الأسفل , كما شاركهما الكلب بالنباح .. لكن الطائرة مرّت من فوقهم دون ان تراهم ! 
فبكت الطفلة بحزن : لم يرونا ! ... هل سنموت هنا يا آدم ؟! 
- لا تقلقي .. سيبحثون مجدّداً وسيرونا حتماً .. علينا الصبر قليلاً يا صغيرتي

الطفلة بقلق : لكن لديّ غداً امتحان في مادة الحساب , ولم أذاكر بعد 
- وماذا تأخذون في مادة الحساب ؟
- الجمع
- وهل يمكنك جمع 2+3 مثلاً ؟
- 5 طبعاً .. الجواب سهل .. 
آدم : أحقاً .. وهل يمكنك جمع 136 + 390 ؟
- لا ! لم نصل للأرقام الثلاثة , فقط الآحاد والعشرات
- آه تقصدين مثل 12+45 ؟  
- نعم , لكن احتاج الى ورقة وقلم كيّ أحلّها 
- معي مفاتيح السيارة ..وسأحاول الحفر بها على غصن الشجرة 
- هل ستعلّمني هنا ؟!
- نعم , وبذلك تذاكرين للإمتحان ..مع اني متأكّد ان المدرسة ستبقى مقفلة لعدّة ايام , وربما لأسابيع حتى تنتهي آثار هذه الأزمة
ديانا : لا يهمّ .. اريدك ان تعلّمني الآن 
- حسناً .. دعينا نستفيد من النور المتبقي , قبل غروب الشمس 

وبدأ بتعليمها بشكلٍ مبسّط , الى ان حلّ الظلام وبدأت نسمات الهواء تزداد برودة , فاحتضن الطفلة التي بدأت تغفو من شدّة الإرهاق , كما جعل الكلب ينام خلف ظهرها في محاولة لتدفئتها قدر الإمكان ..

وبعد نومها .. إنشغل آدم بالتفكير بحجم المصيبة التي وقعا فيها ! فهما عالقان فوق الشجرة منذ ساعات , والى الآن لا يوجد بارقة امل .. 
***

وبعد ساعة .. مرّت سيارة شرطة من فوق الجسر الذي يبعد مسافة ليست بقليلة عن الشجرة .. 
وقد انتبه لها الكلب اولاً , فنبح بقوّةٍ أيقظت آدم وديانا من غفوتهما
آدم بتعب : مابك ؟.. لما تنبح هكذا ؟!

وهنا لاحظ آدم اضواء سيارة الشرطة التي توقفت فور سماعها لنباح الكلب .. ..فأسرع هو وديانا بالصراخ بعلوّ صوتهم .. فوجّه الشرطي كشّافه القويّ الى مصدر الضوضاء .. 
وحين رآهم , امسك بمكبّر الصوت وقال : 
الشرطي : تمسّكا جيداً , سأحاول إنقاذكما بالحال !!
فاحتضن آدم الصغيرة بسعادة , وهو يقول لها بارتياح :
- الحمد الله , وأخيراً سنخرج من هنا يا ديانا 

وفي انتظار وصول بقيّة فرق المساعدة .. حاول الشرطي رمي الحبل لهم , لكنه دائماً كان يقع في منتصف المسافة.. 
وبعد عدّة محاولات فاشلة , تفاجئوا جميعاً بقفز الكلب ناحية الحبل الواقع في الماء , مُعرّضاً نفسه للخطر ! ممّا أفزع الصغيرة التي صارت تنادي كلبها بهستيريا , بينما يحاول آدم تهدأتها ..
وقد تمكّن الكلب الشجاع من السباحة عكس التيّار , الى ان أمسك بطرف الحبل بفمه .. ثم عاد ناحية الشجرة 
فشجّعه آدم قائلاً : 
- هيا أحسنت !! إسبح الى هنا واعطيني الحبل يا بطل
بينما صرخت ديانا بعلوّ صوتها : هيا روجر !! تعال اليّ يا صديقي
وقد أتمّ الكلب مهمّته الصعبة بنجاح ..
وما ان امسك آدم بالحبل حتى ربط به الطفلة ..

بهذه اللحظات .. وصلت فرق المساعدة الذين قاموا بسحب الطفلة اولاً.. ثم رموا بالحبل ثانياً , لكن هذه المرّة نجحوا بإيصاله الى مسافةٍ قريبة من الشجرة , فقفز آدم حاملاً الكلب .. وسبح بيدٍ واحدة الى ان وصل للحبل بعد جهدٍ جهيد .. ثم قامت الشرطة بسحبه هو والكلب لشطّ الأمان .. 

وما ان وصل هناك .. حتى قفزت عليه الصغيرة وهي تبكي :
- كنت خائفة كثيراً ان أخسرك كوالدي 
آدم وهو يحتضنها : لا تقلقي , فأنا لن اتركك لوحدك كما وعدتك 
- اذا لا تتركني ابداً يا آدم

((ولم يفهم الشاب ما كانت تقصده , فهي كانت تعلّقت به كثيراً .. فوالدها لم يكن من النوع الحنون , بل هو خطفها نكايةً بأمها ..  فهو ليس أباً مثالياً .. حتى بأيام زيارتها له ..كان ينشغل بتصريف أعماله التجارية لساعاتٍ طويلة ! تاركاً طفلته لوحدها في الغرفة , وهي تعدّ الساعات لكيّ تعود الى منزل أمها)) 
***

وفي منتصف الليل .. قامت الشرطة بإيصال الناجين الى نفس مدرسة الطفلة التي فتحت ابوابها كملجأ مؤقت لحين انتهاء الأزمة.. 
وهناك وجد آدم جيرانه نائمين في علّية المدرسة ... 

وبعد ان أعطى متطوعيّ الإغاثة ملابساً جافة لآدم والطفلة مع بعض الطعام , غرقا في نومٍ عميق (وبجانبهما الكلب) بعد ان أتعبتهما هذه التجربة القاسية .. لكن آدم لم ينم قبل ان يتصل بوالديه من هاتف الطوارىء لطمأنتهما حيث كانا قلقين للغاية , ووعداه بأن يعودا اليه فور فتح باب الرحلات من جديد
***

في اليوم التالي .. استيقظ ادم على صوت الطفلة وهي تقول له بحماس :
- آدم !! هيا استيقظ ..اريد ان أعرّفك بأمي 
وما ان فتح عيناه حتى شاهد ملاكاً لطالما حلم بها في خياله .. نعم لقد كانت امها تمتلك جميع مواصفات فتاة احلامه ! .. 
فنهض آدم مذهولاً :
- أأنت والدتها ؟! 
- نعم , اسمي جسيكا .. ووصلت قبل قليل الى هنا .. وسعدت جداً لرؤية ابنتي بخير , فقد كنت قلقة عليها منذ ان أخبرني والدها بأنها ستعيش مع امه , دون حتى ان يأخذ إذني ! .. (وبنبرةٍ غاضبة) ..لكنه مات الآن !! 

لكنها انتبهت على حزن ابنتها .. فغيّرت الموضوع , قائلةً لآدم : 
- لقد أخبرتني ديانا كيف أنقذتها ..فشكراً جزيلاً لك , سيد آدم
مبتسماً : سيد ماذا ! فنحن في نفس العمر تقريباً ... 
فابتسمت الأم بخجل ..
آدم : ديانا قالت لي بأنك مدرّسة 
- نعم .. أعلّم هنا , في مدرسة ابنتي .. 
الطفلة : لكن ماما لم تعدّ تدرّسني , فهي معلمة حضانة..وانا الآن في الأول الإبتدائي 
امها وهي تمسح على رأسها : نعم لقد كبرتي وأصبحتي صبيّة .. وماذا عنك يا آدم ؟ 

- انا تخرّجت من الجامعة قسم رياضيات , لكني لم أعمل بعد
جسيكا : الرياضيات ! هذا جيد .. لأني علمت قبل قليل من المديرة ان استاذ ابنتي لمادة الرياضيات .. (وسكتت) 
ابنتها : هل مات استاذنا ؟!
الأم وهي قلقة على مشاعر ابنتها : نعم للأسف 
لكن الطفلة لم تبالي كثيراً , بل قالت لآدم بحماس :
- اذاً أعمل انت بداله !!
آدم بدهشة : ماذا ؟!
فقالت الطفلة لأمها : هو علّمني عندما كنّا فوق الشجرة ..ووالله فهمت منه الدرس أفضل من استاذي .. فدعيه يعمل في مدرستنا يا أمي
امها : ان أردّت يا آدم ..أكلّم لك مديرتي , فهي هنا ايضاً  .. 

آدم : لحظة ! نحن نتكلّم وكأن الأمور بخير .. لكن البلد مازالت في حالة طوارىء
جسيكا : لا , الم تسمع ؟ .. لقد أعلنوا قبل قليل انتهاء الأزمة ..ويقومون الآن بشفط المياه من الطرقات .. وأظن انه سينتهي كل شيء بغضون اسبوع على أبعد تقدير
آدم باستغراب : وماذا عن منازلنا التي إبتلعتها المياه ؟!
جسيكا : هذا لم يكن طوفاناً يا آدم , بل مجرّد سيل أخذ معه البيوت التي على طريقه , اما بقيّة المنازل فهي مازالت بحالة جيدة 
آدم : أتقصدين ان الحيّ الذي أسكن فيه هو الوحيد الذي تضرّر من هذه الأزمة ؟! 

جسيكا : أظن ذلك ....(بقلق).. اليس لديكم منزلاً آخر ؟
آدم : بلى .. كنّا اشترينا منزلاً آخر منذ وقتٍ قصير , في حيّ الياسمين
الطفلة بحماس : اليس منزلنا في نفس ذلك الحيّ امي ؟!!
الأم بابتسامة : نعم
آدم بقلق : وهل المنطقة هناك بخير ؟
جسيكا : نعم , تضرّرنا قليلاً من مياه الأمطار التي دخلت من شقوق المنازل , لكن يمكن إنهاء هذه المشكلة بغضون يومين 
آدم : جيد .. (ثم قال للطفلة) : يبدو اننا قريباً سنصبح جيراناً يا ديانا
فحضنته الفتاة بسعادة..
امها بدهشة : الظاهر انها أحبّتك !
آدم : وانا أحببتها ايضاً 
الطفلة : وانا أحبه كثيراً يا أمي , فما رأيك ان يصبح والدي ؟
فارتبك كلاهما (آدم وجسيكا) .. 

لكن الشرطي (الذي اقترب منهم) أنهى هذا الموقف المحرج , بعد إخبار آدم بأن المطارات ستستأنف عملها في صباح الغد ..
آدم بارتياح : هذا جيد .. اذاً سأرى اهلي قريباً

وأمضوا الثلاثة (برفقة الكلب) اليوم كلّه معاً ..
***

وفي المساء وبعد ان نام الجميع في ذلك الملجأ .. 
جلس آدم وجسيكا في شرفة علّية المدرسة .. وامضيا السهرة بالحديث عن حياتهما وأحلامهما .. وكان التوافق بينهما كبيراً لدرجة انهما تفاجئا بشروق الشمس ! فقد مضى الوقت بينهما سريعاً  
***

واستيقظ آدم عصراً , ليجد امه تحتضنه وتحمد الله على ان ابنها الوحيد بخيرٍ وسلامة ..

وبعد ان أمضى آدم الوقت مع عائلته (داخل الملجأ بسبب غرق منزلهم) .. فاجئهما قائلاً :
- امي .. ابي .. لديّ خبرٌ لكما
امه بقلق : خير بنيّ , مالأمر ؟
آدم بسعادة : سأتوظّف قريباً في هذه المدرسة , فقد تكلّمت البارحة مع المديرة وقبلتني كمدرّسٍ لرياضيات بدل الأستاذ الذي قضى نحبه بالسيول
فباركا له , وهما يشعران بالفخر :
امه بارتياح : هذا ما كنّا نأمل به منذ مدةٍ طويلة
ابوه : نعم بنيّ .. عليك تحمّل المسؤولية , فقد أصبحت شاباً

فسكت آدم قليلاً , ثم قال بتردّد : ولهذا أريد أخباركما .. بأنني لن اعيش في منزلكما الجديد
امه باستغراب : والى اين ستذهب ؟!
فأجاب بابتسامة : الى بيت زوجتي
الأم بصدمة : زوجة من ؟! 

وهنا نادى على جسيكا وابنتها التي كانتا تجلسان على بعدٍ منه .. ثم قال لوالديه بعد اقترابهما منهم :
آدم : اريد ان أعرّفكما على صديقتي جسيكا 
فاقتربت جسيكا من الأم ومدّت يدها مصافحة : 
- مرحباً يا خالة .. اسمي جسيكا , وهذه ابنتي ديانا
الطفلة بحماس : كيف حالكم ؟!!
لكن قوّة الصدمة , منعت الأم من مصافحتها !
وتفهّمت جسيكا إرتباك والديّ آدم .. فقالت لهما :
- سأترككما الآن , لأني اظن انكما تريدان الكلام معه على إنفراد
الأب : نعم اذا سمحت
وبعد ان ابتعدت مع ابنتها ..

عاتبته امه : أستتزوج من فتاةٍ تعرّفت عليها البارحة ؟!
الأب : كما ان لديها طفلة , يا آدم !
آدم : هذه الطفلة ستكون ابنتي يا ابي , فأنا أحببتها جداً .. 
الأب : انت فقط تعلّقت بها لأنك أنقذت حياتها , لكنها ..
ابنهما مقاطعاً : ابي ..امي .. رجاءً إسمعاني .. الم ترغبا مني أن أتحمّل المسؤولية ؟
الأم بعصبية : نعم !! لكن ليس لدرجة ان تتزوج من أيّةِ صبيّة !
آدم : هي ليست أيّة أحد يا امي ..هي توأم روحي .... ابي .. الم تخبرني سابقاً : انك عرفت بإن امي هي توأم روحك من اول مرة رأيتها فيها بقسم الصحافة في جامعتك ؟
الأب : نعم صحيح
آدم : وهذا بالفعل ما حصل معي

الأم بحزم : من الأفضل ان تؤجّل الموضوع قليلاً , لأنه يبدو انك مازلت بحالة صدمة ممّا مررّت به في اليومين السابقين !
آدم بابتسامة : وهي أجمل صدمة في حياتي , ولا اريد الإستيقاظ منها ابداً
والده : بنيّ .. إسمع كلام امك , ولنؤجّل الموضوع لحين استقرارنا في منزلنا الجديد .. ومن ثم نناقشه من جديد ..
فيفكّر آدم قليلاً ثم يقول : حسناً موافق .. بجميع الأحوال لن أتزوجها قبل ان أتوظّف في المدرسة  
الأب وهو ينظر لزوجته بارتياح : اذاً إتفقنا
***

ومرّ شهران .. زادت فيها أواصر المحبة بين آدم وجسيكا وابنتها .. فهو لا يفارقهما في المدرسة او بأيام العطل , الى ان تعلّقت الطفلة به كثيراً
 ولم يستطع والداه تغير رأيه بهذا الشأن , بالرغم انهما لا ينكرا إعجابهما بالتغير الجذري الذي حصل له بهذه الفترة الوجيزة .. فهو نضج كثيراً من الناحية الفكرية , وكأنه تحوّل لشخصٍ آخر !
***

وفي أحد الأيام .. دخلت الطفلة الى صفّه بعد خروج تلاميذه ..
آدم : ديانا ! لما لم تذهبي الى مقصف المدرسة ؟
- اريد ان اريك رسمتي
وكانت الرسمة عبارة عن : هي وهو والكلب فوق الشجرة التي تحيط بها مياه السيول  
آدم : انها جميلة يا ديانا
- أتدري .. لقد حلمت أكثر من مرة بأنني نائمة في حضنك فوق الشجرة ؟
- وانا ايضاً احلم بذلك اليوم من وقتٍ لآخر , فهي كانت تجربة لا تُنسى !
- اذاً انظر الى رسمتي الثانية
وكانت رسمت فيها : سريرٌ كبير , حيث تنام هي بينه وبين امها .. 

ثم قالت له :
- لطالما كنت أغار من صديقتي بعد ان أخبرتني بإنها تنام بالأيام الماطرة بين والديها .. وهذا شيءٌ لم أعيشه بسبب انفصال اهلي , فهما افترقا منذ ولادتي ! وبقيّ هذا حلمٌ بالنسبة لي .. لذا ارجوك ..(وأمسكت بيده) .. أرجوك يا ادم .. كنّ ابي .. انا أحتاج اليك .. وأمي ايضاً تحبك .. فتعال وعشّ معنا في بيتنا
فترقّرقت الدموع في عينيه ... ثم قال لها : 
- أتدرين يا ديانا ..(وفكّر قليلاً).. أظنّ انني وجدت الطريقة المناسبة لأقوم .. (وسكت)
- تقوم بماذا .. أكمل !
مبتسماً : ستعرفين بعطلة الأسبوع 
***

وفي عصر يوم العطلة .. أخذ آدم الأم وابنتها الى نفس الشجرة الموجودة قرب منزله القديم المهدّم ..
وما ان رأتها الطفلة (من النافذة) حتى صرخت بحماس : 
- ياه !! انها شجرتنا يا آدم 
- نعم عزيزتي .. انها شجرتنا السحريّة

وبعد ان نزلوا من السيارة متوجهين نحوها .. 
قالت الفتاة لأمها :
- امي !! ان صعدت , ستجدين دروس الرياضيات محفورة على غصنها 
آدم : لا تستطيع امك الصعود الى فوق , فقد صار ارتفاعها عالياً بعد إنحسار الماء
امها : هذا صحيح يا ديانا

وهنا ! تفاجآ به وهو يجثو على ركبتيه , ويرفع الخاتم للأم قائلاً :
- في هذا المكان تغيّرت كل حياتي .. لهذا سأطلب منك في نفس المكان ان نمضي حياتنا معاً كعائلةٍ واحدة  .. جسيكا , هل تقبلين الزواج مني ؟  
فصرخت الطفلة وهي تقفز بحماس شديد : وافقي امي !! وافقي !!!!
فسكتت الأم قليلاً , ثم قالت بارتباك : نعم آدم .. أقبل

فوضع الخاتم بيدها , ثم حضنها .. بينما كانت الفتاة تحوم حولهما بسعادةٍ غامرة وهي تقول : هاى !!! أخيراً سنصبح عائلة 
لكنها توقفت عن صراخها الهستيري , حين جثا على ركبتيه للمرة الثانية , ومعه علبة مخملية بها خاتمٌ صغير , قائلاً للطفلة :
- وانت يا ديانا .. هل تقبلين بأن أتبنّاك وأصبح والدك رسميّاً؟  
فبكت امها متأثرة من طريقته الجميلة , بينما أومأت الطفلة برأسها إيجاباً

وما ان وضع الخاتم في أصبعها الصغير , حتى احتضنته بسعادة .. فحملها آدم وحضن خطيبته ايضاً

لكن ما لا يعلمه آدم .. انه في هذه اللحظات , صادف مرور والديه (قرب منزلهما القديم) ليشاهدا ذلك المشهد المؤثّر من بعيد .. 
وهنا قال والد آدم لزوجته :
- علينا الرضوخ للأمر يا عزيزتي , فكما ترين ..ابنك سعيدٌ جداً معهما , والأفضل ان لا نقف في طريقه
فمسحت ام آدم دموعها قائلةً : 
- كنّا نريده ان يتحمّل المسؤولية قليلاً , فعدنا من سفرنا لنجده وقد أصبح رجلاً شهم بين ليلةٍ وضحاها !
- هذا صحيح , وانا فخورٌ به
- وانا ايضا .. (ثم سكتت قليلاً) ..لنذهب ونبارك لهما 
- أحسنت عزيزتي 

ثم توجها بالسيارة ناحيتهم .. لتكتمل فرحة آدم بمباركة والديه لهذا الزواج الذي يَعدّ بسنواتٍ طويلة من التفاهم والمحبة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

العقد الأبدي

كتابة : امل شانوحة  العاشق المهووس رغم وسامة إريك إلاّ أن الطلّاب تجنّبوا مصاحبته في مدرسته المتوسطة ، لغرابة طباعه ! فوالداه وأخوه الكبير م...