الأحد، 2 ديسمبر 2018

سوق السحرة

تأليف : امل شانوحة


 
سائحة تائهة في المكسيك

لطالما عُرفت جسيكا بالفتاة الأمريكية المُتمرّدة التي أتعبت عائلتها بأسفارها المتعددة حول العالم .. وهو ما كان سبب طلاقها بعد سنة واحدة من زواجها , لكن هذا لم يُثبط عزيمتها بل كان دافعاً للمزيد من مغامراتها المجنونة ! 

واختارت وجهتها التالية المكسيك , وحجزت في رحلةٍ سياحية الى هناك .. وكعادتها لم تتقيّد ببرنامج الرحلات المُخصّص للسوّاح , لأن ذلك يشعرها بالمللّ فهي تحب اكتشاف المجهول 

لذا غافلت قائد المجموعة واستقلّت وحدها التاكسي , محاولةً ببعض الكلمات المكسيكية التي استخرجتها من القاموس , ومُستعينةً بلغة الإشارة إفهامه رغبتها برؤية مكانٍ غريب يُثير حماسها .. 
ويبدو ان السائق فهم عليها ! بعد ان ابتسم لها ابتسامةٍ آثارت القلق في نفسها , قائلاً بلغته الإنجليزية الركيكة :
- سآخذك الى مكانٍ لن تنسيه ابداً 
***

وبعد ساعة من سيرهما في الطرقات المزدحمة , إنحرفت السيارة الى سوقٍ شعبي في اطراف المدينة , يختلف عن أي سوق زارته من قبل ! 

حتى ان اشكال المتسوقين تُثير الرعب , بعيونهم الصفراء وملابسهم الرثّة وسلاسلهم المزخرفة المتدلية من أعناقهم , عدا عن نظراتهم الحانقة اتجاه الأجنبية التي تطفّلت على عالمهم السرّي ! والتي تجوّلت بينهم , الى ان وصلت الى محل يبيع فيه ضفادع وعقارب محنّطة , ومعلقٌ على واجهته : جلود تماسيح وثعابين ومناقير غربان , وجماجم تبدو بشريّة ! كما الكثير من التماثيل الشيطانية المرعبة 

وهنا اقترب منها البائع ليسألها بالإنجليزية التي يتقنها :
- ماهو طلبك يا سيدة ؟ هل تريدين العودة الى حبيبك السابق ؟ ام تريدين جعل زوجك يطيعك طاعةً عمياء ؟ ام تريدين الإنتقام من أحدهم ؟
فاستغربت من أسئلته , وقالت بارتباك :
- لا , انا فقط اريد نسراً مُحنّطاً أضعه في صالة بيتي

فنظر البائع نظرةً سريعة في ارجاء السوق , قبل ان يسألها :
- وأين بقيّة اصحابك ؟ .. أقصد حافلة السوّاح ؟
فقالت ببراءة : لا , لقد قدمت وحدي  
فابتسم ابتسامةٍ خبيثة , قائلاً :
- اذاً تعالي الى الداخل , فعندي الكثير من الحيوانات المُحنّطة .. اختاري منها ما تشائين

وقد تفاجأت من كبر المحل ! بعد ان مرّت بعدّة حجرات : كل واحدة فيها اشياءً مبعثرة مخيفة : كعظام محترقة واسنانٌ بشريّة , وسوائل ملوّنة بروائحٍ عفنة .. الى ان وصلت الى غرفة لا يوجد فيها شيء , وهنا أحسّت برذاذٍ بارد يُرشّ على وجهها من السقف .. لتسقط بعدها مغشياً عليها !
*** 

وحين استيقظت , كانت في مكانٍ أشدّ رعباً ! 
داخل قبوٍ مظلم , لا يُضيئه سوى شعلات نارٍ على جانبيه 
وكانت مُقيدة بالسلاسل التي ثبّتتها بالحائط .. وفوق رأسها تدلّت ثلاثة أقفاص , حُبس فيها ثلاثة رجالٍ اجانب : رجلٌ أبهق بعينٍ واحدة , رجلٌ أصهب مبتور اليد , ورجلٌ عجوز مقطوعةً رجله ! وما ان رأوها تنظر اليهم بدهشة ورعب , حتى قال لها العجوز بلغته الفرنسية :
- ماذا تفعلين هنا يا غبية ؟!!
فقالت وهي تتلعثم : انا لا أعرف الفرنسية جيداً

فقال الأصهب : انا أسكتلندي وأعرف لغتك .. لما أتيت الى هذا المكان المخيف ؟
جسيكا برعب : واين انا أصلا ؟
فأجابها الأبهق الإلماني , بلغتها الإنجليزية : انت في سوق السحرة المكسيكي 
جسيكا : لقد شككّت بالأمر حين رأيت بضائعهم المخيفة
فقال العجوز بلغته الإنجليزية الركيكة : ولما لم تهربي فوراً ؟
جسيكا : ربما حبّ الإستكشاف او الفضول جعلني أدخل الى ذلك المحل اللعين .. (ثم سكتت قليلاً) ..آخر ما أتذكّره هو شيءٌ رُشّ على وجهي
العجوز : كان ذلك مخدّراً , تماماً كما حصل معنا 

جسيكا بخوف : وماذا يريد مني ذلك البائع ؟
فرفع الأصهب يده مقطوعة , قائلاً بحزن : هو يأخذ أعضاءنا ليستخدمها في السحر , والجنية تعطيه في المقابل ..
وقبل ان يُكمل عبارته , نزل البائع درجات القبو ومعه حقيبة , قائلاً لها :
- آه !! أخيراً استيقظتي , لقد حلّ المساء
ثم فتح حقيبته ليُخرج منها : منشاراً ومقصّاً وخنجراً ..

فانهارت جسيكا بالبكاء وترجّته : ارجوك !! سأعطيك كل مالي لتطلق سراحي
البائع المكسيكي : انا لا اريد بضعة دولارات , بل أكياساً من الذهب .. لكني سأسألك اولاً .. هل انت متزوجة ؟
- لا مطلقة
- للأسف لوّ كنت عذراء لبعت جسدك لمشعوذٍ آخر , يتلبّسه ملك الجان .. فليلةٍ واحدة معه تكفي ثمن حريتك .. لكنك الآن لا تنفعين الا كقطع غيار .. ومن حسن حظك ان الجنية التي أتعامل معها لم تطلب اليوم سوى أصبعين من يدك اليسار ..
فانتفضت جسيكا برعب , محاولةً الإفلات من قيودها .. 

فقال لها العجوز من فوق بحزن :
- لا فائدة من المقاومة يا ابنتي  
وقال الأصهب : كان الله في عونك
الأعور وهو يُغلق عينه السليمة : هاهو يقطع أصبعها الأول , لا استطيع رؤية ذلك

وعلا صراخها أرجاء القبو , دون ان يسمعها أحدٌ في الخارج .. 
وبعد كويه بالنار جرح أصبعيها , أُغمي عليها من شدّة الألم
***

في صباح اليوم التالي .. استيقظت جسيكا وبجانبها صحن حساء , فقرّبته منها بيدها اليسار الغير مُقيدة بالسلاسل , التي لُفّت بضمادة عليها آثار دماء , فتذكّرت عملية البارحة المؤلمة وانهارت بالبكاء .. وظلّ الأجانب الثلاثة يواسونها , الى ان هدأت واستسلمت لقدرها المجهول
***

في وقت الظهيرة .. عاد البائع المكسيكي اليها وهو يقول :
- جيد انك شربت الحساء , فقد خففّ قليلاً من شحوب وجهك 
فبصقت على وجهه بغضب .. فابتسم لها بلؤم :
- أتفهّم غضبك , فالبتر عادةً يُسبّب صدمةً قوية .. لكني مع هذا أشكرك على أصبعيك اللذين كافأتني عليهما الجنية بكيسٍ من الذهب .. ويبدو ان أعضاء جسمك ستجعلني ثريّاً 

فجأة !!! إنتفض جسمها بشكلٍ مرعب , وصارت تتلوّى بشكلٍ عنيف .. ممّا أخاف البائع الذي تراجع للخلف !
- ماذا يحدث لك يا امراة ؟!
بينما شاهدها الأجانب الثلاثة من فوق , بفزعٍ شديد !

وإذّ بها تتوقف عن الحركة , لتضحك بشكلٍ هستيري أدهش الجميع ! ثم تكلّمت بلغةٍ عبرية مع البائع , قائلةً :
- لقد غيّرت رأيّ .. لا اريد المزيد من أعضائها .. 
وما ان سمع البائع كلامها العبريّ , حتى خرّ ساجداً وهو يقول :
- مليكتي !! بماذا تأمرينني ؟
فظهر صوت جسيكا بنبرةٍ مغايرة : 
- لقد قرّرت التلبّس بجسدها ..فهيا فكّ قيودي لأخرج للدنيا , فقد أعجبتني روحها المُغامرة وأريد تجربة الحياة بهيئة بشريّة ..هيا تحرّك !! ماذا تنظر؟
البائع بارتباك : حاضر سيدتي

وأسرع بفكّ السلاسل ليأخذها معه الى فوق , تاركاً الأجانب الثلاثة ينظرون الى بعضهم باستغراب دون ان يفهموا ما حصل !
***

وخلال الأسابيع التالية .. لم يُفارق الباعة جسيكا , بعد ان عرفوا بأن الجنية اليهودية التي يهابها السحرة مُتلبّسة في جسدها .. وصاروا يلاحقونها في كل مكان ويقدّمون لها أشهى المأكولات وسط إحتفالاتٍ موسيقية , ضمن سهراتٍ متتالية .. وبدورها ألقت عليهم التعويذات المقويّة لموهبتهم السحريّة , تعبيراً عن رضاها عنهم
*** 

وفي إحدى الأيام .. نزل البائع وصديقه ومعهما اكياساً من الذهب لدفنها في نفس القبو المُحتجز به الرهائن الثلاثة , حيث كان أثنين منهما نائمين .. بينما كان الأمهق الأعور مستيقظاً , والذي ما ان شاهد الذهب حتى أصابه الطمع .. فتنصّت عليهما وهما يتحدثان بصوتٍ منخفض , فهو يتقن اللغة المكسيكية بعكس صاحبيه .. 

وسمع البائع يقول لصديقه بقلق :
- علينا إخفاء ذهبنا عن الآخرين .. فهم صرفوا كل ما يملكونه على حفلات الجنية التي لا تنتهي , وأخاف ان يأتي دورنا
صديقه بغيظ : نعم , والأسوء انها ترفض إخبارنا عن أماكن الكنوز المدفونة , كما كانت تفعل سابقاً !
فهمس الأعور لهما من فوق (بلغتهما) :
- أظن ان جسيكا خدعتكم جميعاً
البائع باهتمامٍ وقلق : ماذا تقصد ؟!

الأعور : لأنها سألتني سؤالاً محيّراً قبل ساعات من تحوّلها المزعوم الى جنّية , ممّا جعلني أشكّ فيها 
البائع باهتمام : وماذا سألتك ؟
- لا !! لن أقول الا بشرطين 
- وما هما ؟
الأعور : أطلق سراحي اولاً .. وبعد تنفيذك لشرطي الثاني , أخبرك بالسرّ الذي أخفيه عنك 

فأنزل البائع القفص الى الأسفل , وفتح له القفل .. ثم سأله : 
- وهآ انا حرّرتك , فما شرطك الثاني ؟  
الأعور بابتسامةٍ خبيثة : اريد بعضاً من هذا الذهب , ولوّ كيساً صغيراً .. ولنعتبره تعويضاً منك على أخذك عيني ..ماذا قلت ؟
فأعطاه كيساً صغيراً من الذهب , ليُسرع الأعور بعدّ دنانيره الذهبية بحماس .. فقاطعه البائع بعصبية : 
- عدّها لاحقاً يا رجل !! إخبرنا ماهو السرّ ؟

فقال الأعور للبائع : كانت جسيكا قد سألتني عنك سؤالاً غريباً ! 
البائع : وماذا سألتك ؟ 
الأعور : إن كنت تُجيد لغةً أخرى .. فأجبتها بأنني سمعتك مرة تتكلّم العبرية , لأنها ديانة الجنية التي تعبدها .. وأعتقد ان جسيكا ايضاً تتقن هذه اللغة , لذلك مثّلت عليك دور الجنية .. وانتم الأغبياء صدّقتموها 
البائع بحنق : أتقصد انها قامت بهذه الحيلة للهروب من هنا ؟
الأعور : نعم ..لكن يبدو انكم تلاحقونها في كل مكان , لذلك لم تستطع الهرب بعد .. وأظنها ستفعل في أقرب فرصة
البائع : جيد انك أخبرتنا 

وفجأة !! علا صراخ الأعور (الذي أيقظ صديقاه) بعد ان طعنه البائع بخنجره في قلبه , ليخرّ ميتاً .. ثم رفع نظره للأجنبين اللذين كانا يرتجفان برعب من أثر الصدمة ! قائلاً :
- قتلته لسببين : طمعه وخيانته , والخائن لا يحبه أحد.. هيا عودا للنوم , فموتكما لن يُفيدني بشيء بقدر أعضائكما الثمينة

ثم طلب من صديقه دفن الأعور , بينما يذهب هو للإنتقام من المخادعة جسيكا .. 
***

وبحلول المساء .. استيقظا الأجنبيان مجدّداً على صرخات جسيكا بعد ان أعادها البائع الى القبو .. 
فقالت له بلغةٍ عبرية غاضبة :
- كيف تجرأ على اعتقالي هكذا ؟!!
فصفعها بقوة قائلاً :
- صديقك الأعور فتن عليك وأخبرني بكل شيء ايتها اللعينة !! ..ولا أنكر بأن حيلتك الذكية إنطلت عليّ , لكن التمثلية انتهت الآن  وسأقتلك على الفور وأدفنك في هذا القبو , كيّ لا يعرف أصدقائي الباعة بأنك مجرّد خدعة ويطالبونني بأموالهم ..وربما يقتلونني ايضاً !

ثم أخرج خنجره , بينما كانت تنتفض بيأس محاولةً التحرّر من قيودها .. وسط ترقّبٍ صديقاها من الأعلى .. 
لكن قبل ان يغرزه في قلبها , إنصهر نصل الخنجر في يده ! ممّا جعله يتجمّد في مكانه , بعد رؤيته لعينيها تتحوّلان الى عينيّ قطة ..وخشِنَ صوتها لتقول له بالعبريّة , وبنبرةٍ غاضبة :
- كيف تجرأ على طعني ايها العبد الذليل !!!

فخرّ ساجداً بخوف : مليكتي انا آسف .. ظننتك السائحة الأجنبية !
- هي فعلاً خدعتكم لبضعة ايام , قبل ان أُعجب بالفكرة .. فحياتكم تبدو ممتعة وخالية من الضغوطات التي نعانيها نحن ..لذلك لم أرى مانعاً من التجربة  
البائع : كما ترغبين مليكتي .. هل تأمرينني بشيء لأكفّر عن ذنبي؟ 
فنظرت الى فوق وقالت : أقتل هاذين اللعينين !! فأنا لا اريد شهوداً عمّا حصل هنا  
- حاضر سيدتي .. حالاً

وأنزل الواحد تلوّ الآخر , ليطعنه برمحٍ (كان يضعه في زاوية القبو) بعدّة طعنات , ليموتا رغم محاولتهما اليائسة لمقاومته ! بينما كانت هي تضحك بسعادة على وحشيته بقتلهما.. 

وبعد ان انتهى منهما , اقترب منها بثيابه الملوثة بدمائهما : 
- وماذا الآن مليكتي ؟ 
فمدّت يدها اليه , وهي تقول : هات رمحك
البائع بخوف : ولماذا ؟!
فصرخت في وجهه بغضب : هاتها دون اعتراض !!!
فسلّمها الرمح بيديه المرتجفتين : تفضلي سيدتي

فأسرعت بغرزها في معدته , لترفعه عالياً .. بينما كان جسده ينتفض بألم ..  واستجمع قواه المتبقية ليسألها بصوته المُتحشرجّ : 
- لماذا ؟! 
فأجابته : لأنني كما قلت .. لا اريد شهوداً  

ثم رمته على الأرض , لينزف حتى الموت .. 
من بعدها خرجت من القبو , لتُكمل سهرتها مع السحرة الذين يهابونها.. ويُمنّون أنفسهم بالكنوز التي ستدلّهم عليها في المستقبل!  
***

الى ان جاء يوم إختفت فيه جسيكا (الملبوسة) من سوق السحرة , دون ان يعرفوا ان كانت عادت الى عالم الجن , ام انها ذهبت الى مدينةٍ أخرى في المكسيك للبحث عن ضحايا جدّد ؟! 

ومنذ اختفائها .. إنتشرت بين الناس أسطورة الجنّية الشريرة (بهيئة السائحة الأجنبية) والتي لقبوها : بذات الأصابع الثلاثة ! 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

التوأمتان المتعاكستان

تأليف : امل شانوحة  الطيّبة والشريرة دخلت السكرتيرة الى مكتب مديرها (جاك) لتجده يفكّر مهموماً :   - إن كنت ما تزال متعباً ، فعدّ الى قصرك ...