الأحد، 30 نوفمبر 2025

اللعنة المرتدة

تأليف : امل شانوحة 

التوبة المرفوضة


في ليلةٍ مظلمة بوسط الغابة .. إجتمعت النّسوة في كوخ العجوز ، للشكوى حول مصيبتهن .. قائلةً إحداهن بفزع :

- جميع الأسحار التي دفعنا لكِ ذهبنا مقابل صنعها ، تنفكّ الواحدة تلوّ الأخرى

وأردفت الأخرى بعصبية :

- جارتي العانس إنخطبت البارحة ، رغم تجديدي سحرها منذ مدةٍ وجيزة !

امرأى ثالثة : وحماتي استيقظت من غيبوبتها ، بعد سنوات من سحري لها

- وزوج صديقتي إزدهرت تجارته ، بعد سنوات من البطالة

- وابن ضرّتي استعاد بصره ، بعدما أعميتُه طفلاً ! فمالذي يحصل معنا؟

- هل هناك كوكبٌ سحريّ تسبّب بفكّ الأسحار المُزمنة ؟!


فردّت الساحرة العجوز : 

- الموضوع لا دخل له بحركة الكواكب.. لكن الله عادل ، ولن يسمح باستمرار اسحاركن لآخر العمر.. فبعضكن إمتدّ آذاها لأربعين عاماً ! الم تكن كافية لإطفاء غلّكن ، بعد إضاعة صحّة وشباب من سحرتموه ؟! 

امرأة بقلق : المشكلة انهم عرفوا بأسحارنا ! فمن فضحنا ؟!

العجوز : الله فضحكنّ بإحلامٍ واضحة للمسحورين ، بعد أن أمهلكن دهراً لفكّ ما دفنتموه بالمقابر او ربطتموه بالأشجار .. لكن قلوبكنّ السوداء منعتكن التراجع عن ذنوبكن ! 


فاعترضت احداهنّ : 

- لا يمكننا فكّ جميع الأسحار .. فأنا ربطّت سحري بجناح طائر ، فكيف سأستعيده ؟!  

- اما انا ، فرميته بالبحر.. ثم انت تلوميننا بعد تعليمنا السحر ، الم تكوني شريكتنا ؟! 

العجوز : سأخبركن برأيّ لاحقاً ، لكن دعوني اشارككن هذه المعلومة الغريبة : الرزق موجود بالسماء ، ولا يمكن لبشري التحكّم به .. يعني في حال ذُكر باللوح المحفوظ : ان فلان سيعطيك مالاً باليوم الفلانيّ .. فسيفعل ذلك دون ارادةٍ منه ، لأنه قدرك المكتوب .. والدليل ، قول الله تعالى بكتابه : ﴿ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾

امرأة بدهشة : هذه اول مرة اسمعك تستشهدين بالقرآن ؟! 

العجوز بحزم : دعوني اكمل كلامي .. الرزق وإن ضاق بسبب اعمالكن الخبيثة ، لم يُمحى من القدر .. بل اسحاركن جمعته بحصّالةٍ ضخمة في السماء 

- لم نفهم !


الساحرة : يعني فور فكّ أسحاركن ، سينزل الرزق على المسحور دفعةً واحدة .. كأنكن قدمتنّ خدمةً له .. وهي تجميع فتات رزقه ، حتى اصبح ثروّة تؤمّن مستقبله 

فسكتن بغيظ ، فأكملت العجوز كلامها :

- تخيّلن طالباً جامعياً عليه انهاء عددٍ محدّدٍ من المواد ، خلال سنواته الأربعة الدراسية  .. فاختار جميع مواده الصعبة بالسنوات الثلاثة الأولى ، لجعل سنة تخرّجه سهلة .. وهذه هي الحياة : فيها مصائب ومكافآت .. وانتن بسحركن ، ضغطتن المسحور بالمصائب المتتالية .. وعندما يأتي إذن الله بفكّ الأذى عنه ، سينعم المسحور بحياةٍ سهلة خالية من الإبتلاءات .. حتى صحته التي ضاعت بسببكن ، سيضاعفها الله بعض انتهاء ازمته .. بعكسكن !! فأنتن عشتن حياةً رغدة ، بعد نجاح مكائدكن بأذيّة منافسينكن .. لكن طالما بدأت اسحاركن تُفكّ بالوقت الحالي ، فابشرن بحياةٍ عصيبة من اليوم فصاعداً .. 


فقالت احداهن بفزع : آمنا بقوّة الأسحار ، وإنه يمكن بها القضاء على نصيبهن وأرزاقهن للأبد ! 

العجوز : مُحال ان توجد وسيلة تمنع ما كتبه الله لضحاياكم ، وإن كنتن نجحتن بتعسيره لفترةٍ من الزمن.. حتى بقيّة اسحاركن الخفيّة ، ستُفكّ بمجرّد موتكن .. كما تنكسر العين الحارقة بموت الحاسد


فسألتها احداهن بحنق : طالما تعرفين هذه الحقائق ، لما علّمتنا السحر ؟

العجوز : لأشارككن همّي.. فأنا تبرّأت مني عائلتي .. وهاجرت من منطقةٍ لأخرى كلما ذاع صيتي السيء ، خوفاً من عقاب الأهالي الغاضبين.. وكما ترينّ !! انا مطلّقةٌ عقيمةٌ ، وفقيرة .. والأهم انني منبوذة من الجميع ، وهو المصير المُقدّر لجميع السحرة !


فسادت لحظة صمتٍ ثقيلة ، قبل ان تسألها إحداهن بمرارة : 

- ولما لم تنذرينا قبل خسارة أنفسنا ؟ 

فابتسمت العجوز بمكر : 

- خُفت تفرّدي بالعقاب ، ورغبت بمن يرافقني .. فاخترتكن !! أكثر النساء حقداً وغيرة ، لتؤنسنَ وحدتي في جهنم 

فقالت إحداهن بتحدّي : لن اجتمع معكِ في الأخرة ، لأني أُعلن توبتي منذ اليوم !!

فضحكت العجوز ضحكةً مجلّجلة ، ارعبتهن : 

- لا توبة لساحر ، بل نارٌ ابديّة !! 


فخرجنّ من بيتها ، وهن تشعرنّ بثقل ذنوبهن بعد خسارتهنّ الدنيا والآخرة!


الجمعة، 28 نوفمبر 2025

دوّامة القدر

تأليف : امل شانوحة 

لعنة السلالة


بعد عام من زواج احمد (الثلاثيني) من صبيّة ، أجبره والده على الإرتباط بها .. والتي أصبحت عبأً عليه ، بدل ان تكون العوض عن قسّوة ابيه الذين اشتكوا منه اخوته المراهقين بعد زيارة منزله .. 


فردّ اخوهم الأكبر (احمد) : وأنا وامي عانينا كثيراً من ساديّته وبطشه .. 

اخوه : لكنك كنت تحمينا من ضربه العنيف ، وتدافع عنا بمشاجراته المُفتعلة .. والآن بعد زواجك ، أصبحت حياتنا جحيماً ! رجاءً جدّ حلاً لهذه المشكلة ، قبل ان تحدث مصيبة لا تُحمد عقباها  

***


لم يستطع احمد النوم تلك الليلة ، قلقاً على مصير اخوته الصغار .. وبالصدفة وجد اعلاناً بالجوال : 

((مخترعٌ يبحث عن متطوّع ، لتجربة آلة زمن !)) 

***


في الصباح التالي .. تواصل احمد معه ، متوجهاً للعنوان الذي اعطاه له العالم العجوز.. 

وعندما دخل معمله (الموجود في قبو منزله) وجد آلةً ضخمة مصنوعة يدوياً .. 


وبعد ساعة.. 

المخترع : الآن بعد ان علّمتك طريقة التحكّم بالآلة ، هل ما زلت مصرّاً على الإنتقال للماضي ؟ فأنا لم أجرّبها مطلقاً ، رغم صحّة معادلاتها الرياضية 

احمد بيأس : اريد منع ولادة ابي ، لاقتلاع ظلمه من حياتنا للأبد  

المخترع : اذاً إطبع بالآلة ، التاريخ الموافق للأشهر التسعة قبل ميلاد والدك ، لمنع حمل جدتك به .. رغم عدم معرفتي ، طريقة فعلك ذلك ؟!

احمد : لديّ خطةً مُحكمة 

^^^


وبالفعل دارت الآلة حول نفسها عدة مرات ، قبل اختفائها من القبو .. ليجد احمد نفسه ، مستلقياً فوق اعشاب مزرعةٍ ما !

وما ان رآها ، حتى تذكّر رؤيتها بإحدى صور جده القديمة (بالأبيض والأسود)

احمد بارتياح : نعم ، هذه ارض جدي .. ترى اين القاه الآن ؟

 

واخذ يمشي في الحقل ، الى ان وجد رجلاً بمثل عمره (ثلاثيني) يسقي الطرف الآخر من مزرعته .. فناداه بإسم جده ، الذي التفت اليه باستغراب:

- هل تعرفني ايها الغريب ؟!

احمد بابتسامة : اعرفك جيداً .. 


واختلق قصة : انه من معارف زوجته (جدته) .. وانه قدم من مدينةٍ اخرى بالقطار لتمضيّة اليوم معه ، للتعرّف على صهر العائلة (كما ادّعى) قبل عودته صباحاً الى بلدته 


وقدّ أصرّ احمد على التنزّه معه بالحقول المجاورة ، بغرض إبعاد جده عن زوجته (التي يُفترض حملها بوالده هذه الليلة) 


وأمضى الجد النهار كله ، وهو يجيب الضيف على اسئلته الغريبة حول العصر الذي يعيشان فيه ! الذي يصادف الحرب العالمية الثانية ، وأثرها على البلاد العربية

^^^


وفي المساء ، اراد الجد العودة الى بيته .. فتحجّج احمد بضياع ماله بالقطار .. فدعاه الجد للمبيت عنده في منزله العربي القديم


وبعد ان فرش له بغرفة الضيوف ، صعد الجد متحمّساً لغرفة عروسته (الجدة)

احمد وهو يراقبه من نافذة الغرفة :

- لا اريده ان يحظى بليلةٍ رومنسية مع جدتي ، والا ضاع تعبي سدى 


وصار يُصدر ضجّة بغرفة نوم الضيوف .. فنزل الجد ، فزعاً اليه .. ليخبره احمد بوجود فأرٍ بالغرفة !


وأضاع الجد ساعةً أخرى ، بالبحث معه بكل زاوية بالغرفة .. لقتل الفأر ، دون ايجاده


الجد : أظنه تهيّأ لك !

احمد : لا ، رأيته فعلاً !! وكان بحجم القطة .. دعنا نذهب للمطبخ للبحث عنه ، اخاف ان يأكل من سمنكم وبرغلكم 

الجد متأففاً : اظن زوجتي نامت الآن .. هيا لنبحث عنه هناك 


وأمضيا ساعةً اخرى بالبحث عن الفأر المزعوم .. الى ان تملّك التعب الجد الذي اعتذر من الضيف ، للنوم بغرفته العلوية .. فعاد احمد لغرفة الضيوف سعيداً ، بعد تأكّده من عدم قدرة جده على فعل شيء بتلك الليلة المشؤومة

^^^


في الصباح الباكر ، عاد احمد للمكان الذي ظهر فيه بأرض جده .. وبحث هناك ، ليجد آلة الزمن مخفيّة بين الأشجار .. فصعد اليها ، عائداً لزمن الحاضر 

***


وما ان عاد لمنزله .. حتى وصله اتصال من أخيه الأصغر : 

- ابي تشاجر معنا صباحاً ، كعادته كل يوم ! 


فطلب محادثة امه التي أخبرته : بأن تسجيل مولد والده جاء متأخراً .. يعني تلك الليلة ، كانت جدته حاملاً بأبيه منذ شهريّن .. ايّ مهمّته فشلت تماماً ! 

^^^


فذهب ظهراً للمخترع ، طالباً تجربة آلة الزمن من جديد .. مع تغيير التاريخ !


لكن عندما عاد للماضي ، وجد جده يُعنّف والده (سبع سنوات) اثناء مساعدته في الأرض 

احمد : الآلة الغبية ، لم ترسلني للتاريخ الصحيح !


واخذ يراقب والده من خلف الأشجار ، وهو يشكي همّه لكلب الحراسة من عنف والده المتواصل له ! 

حينها أدرك أحمد أن الساديّة التي عانى منها هو وأخوته ، موروثة من الجد ! 

فقرّر الذهاب إلى زمن الجد الأكبر الذي عاش في ظلّ الدولة العثمانية.. 


وهناك حاول مجدداً الهائه عن المبيت في منزله .. بحجّة انه من المقاومين للأتراك ، وعليه الذهاب معه لمعسكر المناضلين .. 

ليمضي معه رحلةً كشفيّة طوال الليل ، لضمان عدم انجاب جده الظالم 


وبعد انهاء المهمّة ، طلب من آلة الزمن اعادته للمنزل .. لكن الآلة رفضت ذلك ، قائلةً بصوتٍ آليّ :

- لقد منعت وجود جدّك .. وبالتالي والدك.. وبالتالي وجودك .. لا مكان لك في المستقبل 

احمد بقلق : وماذا عليّ فعله الآن ؟!

- عِشّ بهذا الزمن ، وانجب سلالةً أفضل 

***


وهكذا أصبح أحمد هو الجد الأكبر للعائلة .. والذي تمكّن لاحقاً من إيجاد عملٍ في أرضٍ زراعية .. والتزوّج من صبيّةٍ صغيرة ، دلّلته بمحبةٍ فائضة لم يشعر بها من قبل !  


وفي شهر عسله ، قالت له بخجل :

- هل أُسخّن الحمام ، ابن عمي ؟

- بالتأكيد حبيبتي 


دون علمه بأن زوجته ستحمل الليلة بجده الساديّ الذي سينجب والده الذي سيتعامل مع إخوته بنرجسيّةٍ ظالمة !


لأن حب زوجته المفرط دون مساءلة عن اخطائه ، وطاعتها العمياء دون اعتراض .. أعطت احمد السلطة المطلقة ، لإدارة حياة عائلته كما يشاء .. 


ومع الأيام ، صار أحمد أكثر قسوةً واستبدادا ! 

وبذلك شابه جده الذي حاول جاهداً محوّه من الوجود .. ليغرق في دوّامة القدر ، مُنتجاً اجيالاً تعاني بصمت من امراضٍ نفسيّة مُزمنة! 


الأربعاء، 26 نوفمبر 2025

اوهام المجد

تأليف : امل شانوحة 

كفاح المشاهير


في احدى كليّات الفلسفة ، توجّب على الطلاّب كتابة بحث عن اسباب النجاح والشهرة


فكتب جاك مُلخّصاً مضمونه : ((الشهرةُ حظّ ، والثروّة نصيب المحظوظين… أما الآخرون ، فبشرٌ من الدرجة الثانية)) 

***


بعد خروجه من الجامعة.. مرّ بجانب محل للألعاب الالكترونيّة التي عُرض على واجهتها ، نظّارةُ العالم الإفتراضي بسعرٍ مقبول.. فاشتراها ، عائداً الى سكن الطلاّب


ثم وضع النظّارة على عينيه ، بعد تشغيل اللعبة المُبرجمة داخلها .. ليجد نفسه يقود سيارة سبقٍ سريعة ! 

وكان الحدث واقعياً لدرجة ارتجاج يديه فوق المقود ، اثناء محاولته التركيز على مضمار السباق الأشبه بصورٍ متحرّكة مشوّشة ، بينما سيارته تسابق الريح ! 

ليسمع مساعده (الذي بجانبه) يصرخ مُحذّراً : 

- شوماخر !! انتبه للمُنعطف القادم 

وبالفعل ادار مقوّده باحترافيّة ، جعلته اول الواصلين لخطّ النهاية ! 


ليخرج من سيارته ، مُنبهراً بالتصفيق القادم من المدرّجات ! 

وكأنه بالفعل تجسّد شخصيّة شوماخر ، لحظة تتويجه للمرة السابعة كبطل (الفورمولا 1)


مما حمّس جاك ، لتجربة السباق من جديد .. لكن عندما ضغط الزرّ الجانبي للنظّارة ، تغيّرت اللعبة ! 

ليجد نفسه بين سبّاحين عالميين ، يستعدون لنهائي الأولمبياد 


وقبل استيعابه ما حصل ! إنطلقت صافرة الحكم.. 

وإذّ به يسبح بكل قوته باتجاه حافّة المسبح .. وما ان رفع يده ، حتى سمع المذيع يعلن بمكبّر الصوت : 

- رقمٌ قياسيّ عالمي جديد !! 

وكانت هذه التجربة اكثر واقعية من الأولى ، لدرجة شعوره بابتلال جسمه وشعره .. مما ارعبه ! 


فنزع النظّارة ، ليرى على الأرض ورقة التعليمات التي سقطت من العلبة: 

((هذه النظّارة تُمكّنك عيش لحظات التتويج الأعظم للمشاهير .. لكن يُرجى قراءة التحذير الهام قبل الإستخدام)) 


الا ان جاك لم يقرأ التحذير .. بل سارع بإعادة النظّارة فوق رأسه ، رغبةً بالشعور بلذّة إنتصارات المشاهير حول العالم 

^^^


وخلال ساعات ، عاش كل مجدٍ حلم به : 

رفع كأس العالم في كرة القدم ، فاز بجائزة الإيمي ، صعد منصّة الأوسكار ، حمل جائزة نوبل .. ووقف وسط أضواء الإعلام ، كملك جمال العالم !  


مما رفع الإدرينالين في دمه .. وزوّد ثقته بنفسه ، بعد إعجابه بالتصفيق المدويّ الذي علق في ذاكرته للأبد 

^^^


وبعد تلك المغامرة الجميلة .. قرّر جاك اطفاء اللعبة للنوم ، إستعداداً لجامعة الغد .. لكنه لم يستطع ازالة الخوذة عن رأسه ! كأنها التصقت به ، بعد ساعاتٍ طويلة من استخدامها .. 


وفجأة ! إختفت الأضواء والهتافات .. ليجد نفسه في غرفةٍ ضيّقة .. وأزيز رصاص العصابات بالخارج ، أفزعه لدرجة إكمال روايته الأولى اسفل طاولته ، على امل إخراجه من فقره المًدقع.. 

وهنا استوعب جاك بأن النظّارة ، نقلته لحياة كاتبٍ مهم قبل شهرته !


وما ان فهم فكرة اللعبة ، حتى انتقل لماضي بطلٍ آخر : عاش طفولةً صعبة مع والده السكّير الذي كان يُحطّم اثاث منزله غاضباً .. بينما يُخبئ كرته المهترئة ، لحماية حلم حياته بأن يصبح هدّاف العالم.


ثم انتقل لطفلٍ ينام بالشارع ، هرباً من تعنيف زوج امه .. وهو يختلق المشاهد الكوميديّة في ذهنه ، رغم واقعه المرير ! 


ثم اسمرّ جلد جاك فجأة ، ليصبح ولداً افريقياً .. امتلأ جسده بالرضوض ، محاولاً الإستمرار بتعلّم الملاكمة في نادي رخيص بحيّ الفقراء


ثم تحوّل جسده ، لطفلةٍ افريقية تنظّف المنازل .. وهي تحلّم بأن تصبح اهم مذيعة بالعالم ، رغم فقرها والإعتداءات اللا إخلاقية على جسدها الصغير!  

^^^


واستمرّ الوضع على هذه الحال لساعتيّن ، عاش فيها جاك كل ظروف الفقر والحرمان الجسدي والعاطفي .. وصولا لتشرّد ومحاولات الإنتحار الفاشلة .. كل ذلك تجسيداً لواقع الأبطال قبل الشهرة ! 


ليفهم أخيراً : بأنهم لم يولدوا تحت الأضواء ، بل مرّوا بالكثير من الأوجاع الجسدية والنفسية المدمّرة خلال مسيرتهم الوعرة نحو النجوميّة ! 

^^^


وبعد تلك التجارب المريرة التي اتعبت نفسيّة جاك ، إستيقظ على صوت دكتور الجامعة يناديه :

- جاك !! جميع زملائك قرأوا ابحاثهم عن الشهرة واسباب النجاح ، الآن جاء دورك !!


فنظر إلى ورقة بحثه الساذج التي كتب فيها : ((بأن الشهرة حظّ ، وأن النجاح مجرّد واسطة ورشاوي)) 

فرماها جانباً ، وهو يشعر بالعار مما كتبه ! 


ووقف على المنصّة ، لإلقاء خطبةً ارتجالية :

واصفاً فيها معاناة المشاهير لسنواتٍ طويلة ، من شكوكهم الداخليّة اولاً .. واستخفاف المحيطون بقدراتهم .. ثم النقد اللاذع من الغرباء .. ومع ذلك اكملوا مشوارهم الطويل بإرادةٍ صلبة ، وإصرارٍ جبّار على تطوير مواهبهم .. مع الكثير من الأمل بمستقبلٍ مُزهر ، رغم ماضيهم اليائس .. وهو ما كان سبب نجاحهم وتميّزهم عن الآخرين


وختم خطبته ، ببعض الأمثلة :

((لا أحد يولدُ مشهوراً .. فهناك من نام في الشوارع ، امثال جيم كاري.. وهناك من تحمّلوا آباءً مدمنين ، مثل كريستيانو رونالدو..وهناك من عانوا الفقر والعنف ، مثل أوبرا وينفري..وهناك من طُردوا من فرقهم ، كمايكل جوردان.. فالنجاح ليس حظاً ، بل أشبه بسباق المارثون : الآلاف يشتركون فيه ، لكن لا يصل لخطّ النهاية الا أعندهم ، صاحب النفس الأطول))


فعمّ الصمت المدرّج … قبل تصفيق الدكتور ، الذي تبعه بقيّة الطلّاب بالقاعة ! بعد نيل جاك العلامة الأعلى في البحث ، دون معرفة أحد عن حلم النظّارة التي غيّرت نظرته للحياة .. وبنفس الوقت اعطته الأمل : بأن الثروّة ليست حكراً على نخبة المجتمع.. بل هي حقّ لكل من لديه قوة الإرادة والتصميم على تحمّل صعاب الحياة  ، لحين خروجه من النفق الطويل المظلم .. باتجاه شهرةٍ تُخلّد بالتاريخ ! 


الاثنين، 24 نوفمبر 2025

مقبرة البدايات

تأليف : امل شانوحة 

 

موعد الأحد


في مقبرة بأطراف المدينة .. إنشغلت سهى (الثلاثينيّة) بتنظيف قبر وشاهد زوجها الذي توفيّ قبل سنتيّن .. بعد تعوّدها على زيارته صباح ايام الآحاد ، للدعاء له قبل عودتها لمنزلها الكئيب مع آذان الظهر 

***


بعد شهور من قيامها بذلك الروتين الإسبوعيّ ، ظهر نجيب (الرجل الأربعينيّ) الذي بدأ بزيارة قبر خطيبته (التي خطفها الموت قبل موعد الفرح) بعد اختياره المجيء في نفس التوقيت ، وفي اليوم ذاته .. كأن القدر رتّب موعداً بينهما ، دون ارادتهما ! 

حيث دُفنت حبيبته على بُعد صفّين من قبر زوج سهى التي اكتفت بنظرةٍ عابرة للزائر الجديد ، قبل متابعتها قراءة القرآن.. بينما انشغل هو بزراعة الزهور حول قبر خطيبته

***


وتوالت اللقاءات الغير مُتعمّدة بنفس الزمان ، على قبريّن مختلفيّن .. حيث تلاقت نظراتهم الكسيرة .. تبعتها ابتسامةٌ حزينة ، كأنهما يواسيان بعضهما على فقد احبائهما .. ثم صارت تحيّاتٍ من بعيد ، وتعزية سريعة قبل انغماسهما بأحزانهما

***


الى ان وجدها ذات يوم .. تجلس على المقعد الكبير اسفل الشجرة ، بعيداً عن قبر زوجها ! وكانت شاردة الفكر ، لدرجة عدم شعورها بجلوسه امامها وهو يسألها:

- هذه المرة لم تغسلي قبر زوجك ، فهل هناك خطبٌ ما ؟!

 فمسحت دمعتها وهي تقول :

- اكتشفت البارحة أن زوجي كان يسخر مني أمام أصحابه ! يصفني بالساذجة ، عديمة الشخصيّة.. وأنا من أطعتُه حباً واحتراماً ، ورفضت الزواج من بعده .. وظللتُ أزور قبره عاماً كاملاً ، حتى أدركت بإهدار عمري على رجلٍ لم يقدّرني يوماً ! 

فتنهّد نجيب بحزن ، قائلاً :

- حياتنا متشابهة بشكلٍ غريب ! البارحة زرت قبر خطيبتي ليلاً ، على غير عادتي .. فوجدت رجلاً يبكي عندها ، وهو يتكلّم بالجوال : بأنه منشغل بزيارة حبيبته السرّية !.. (ثم بنبرةٍ غاضبة) .. ثلاث شهور وأنا أزرع الزهور حول قبرها ، دون علمي بخيانتها.. أشعر كأنني عشت وهماً ! عدا عن الإحساس بغبائي !! 

سهى : ولما اتيت اليوم ، طالما انتهى كل شيء ؟

فقال بتردّد : ربما .. لأراكِ انتِ 


فالتقت عيناهما بلحظةٍ صامتة ، قبل ان تقول سهى :

- كلاهما لم يستحقا حبنا 

- هذا صحيح .. دعينا نُغلق دفاترنا القديمة اولاً : إذهبي لقبره وعاتبيه على نرجسيّته معك ، وأنا أودّع الخائنة للمرة الأخيرة .. بعدها نتابع حياتنا من جديد 


وبالفعل أمضيا ساعةً في مواجهة الماضي ، أخرجا فيها غضبهما المكبوت  

ثم التقيا عند بوّابة المقبرة ، بعد تعاهدهما بعدم زيارتهما ثانيةً ! 


ورغم ان صباح الأحد بدأ بالدموع ، لكنه انتهى بالضحكات بعد جلوسهما في مطعمٍ قريب .. سردا فيه تفاصيل حياتهما المتشابهة لحدّ الصدمة ، كأنهما وُلدا ليكملا بعضهما ! 

***


وجاءت خطبتهما السريعة ، مفاجئة لكلا عائلاتهما الذين حاولوا مراراً إقناعهما بمتابعة حياتهما !


وهاهما يدفنان الماضي بتلك المقبرة التي وُلدت معها اجمل قصة حبٍ بريئة ومخلصة ، بعد تحرّر العاشقيّن من التزامٍ خاطئ قيّدهما لشهورٍ طويلة !


السبت، 22 نوفمبر 2025

دمعة خلف القناع (قصة اطفال)

تأليف : امل شانوحة 

البالون الأحمر


اعتاد الأطفال المصابون بالسرطان على رؤية المهرّج بنهاية كل اسبوع ، بعد تعهّده بملاعبتهم وإضحاكهم طوال النهار


لكن في هذا اليوم ، فرح جميع الأطفال بوجوده .. ما عدا احمد (ولدٌ في الثامنة) تم نقله حديثاً لهذا الجناح ، بعد وصوله للمرحلة الأخيرة من سرطان الدم


فاقترب منه المهرّج (الخمسيني) وهو يعطيه بالوناً احمر ، محاولاً دغّدغته لإضحاكه.. ليفاجئه احمد بالسؤال :

- لما تُخفي دموعك يا عم ؟


وقد اربكه كلامه ! فلا احد لاحظ عينيه الدامعتين خلف مكياجه السميك ، سوى احمد الذي كان ينتظر اجابة المهرّج الذي فضّل العودة لبقيّة الأولاد الذين ينادونه للعب معهم

^^^


بعد انتهاء اليوم .. توجّه المهرّج الى مكتب الإدارة ، للسؤال عن حالة الولد الجديد ؟

فأجابه الطبيب : للأسف ! احمد يحتضر ، سيد سمير .. فالعلاج فشل بتحسين حالته .. ويبدو انه مُستسلمٌ للموت.. فهو من والديّن منفصلين ، إنتقلا لبلدتيّن بعيدتيّن عن هنا .. مُكتفيا بالإتصال به ، من وقتٍ لآخر ! اما جدته (التي عاش احمد معها سنتيّن قبل مرضه) فتحاول زيارته ، كلما تمكّنت من ذلك ..

المهرّج : اذاً مريض ، ويعاني من الوحدة ايضاً ! هذا بلاءٌ كبير على ولدٍ صغير

- هو ليس حزيناً مثلنا .. بل مُتشوّق للطيران بالجنة ، كما رأى بإحدى مناماته 

- هو حتماً من طيور الجنة .. (ثم تنهّد بضيق) .. انا حزينٌ عليه ، لأن لديه موهبةً مميّزة : فهو يشعر بآلام الآخرين ، دون تحدّثهم عن مصابهم !

- ماذا تقصد ، سيد سمير ؟!


لكن المهرّج لم يرغب الإفصاح عن اوجاعه.. وخرج من المشفى ، وهو يشعر بثقلٍ في قلبه دون استطاعته التعبير عنه !

***


وتوالت عطل نهاية الإسبوع ، مع زيادة تعلّق الأطفال بالمهرّج وألعاب الخفّة التي يتقنها.. ماعدا احمد الذي يقضي وقته بالنظر للسماء (من نافذة جناح الأطفال المرضى) كأنه يُهيّئ نفسه لرحلته القادمة !


لهذا طلب المهرّج الإذن من الطبيب ، لاصطحاب الصغير لحديقة المشفى

^^^


وبعد إيقاف الكرسي المتحرّك لصبيّ ، بجانب المقعد الذي جلس عليه المهرّج بالحديقة .. سأله احمد :

- ما المصيبة التي واجهتك ، جعلتك تُخفي حزنك خلف ابتسامتك المصطنعة ؟

- انا أملك متجر حلويات في حيٍّ شعبي.. أرمل ، ولديّ طفلة بمثل عمرك

احمد : وهل ماتت ابنتك ؟

فجاء سؤاله صادماً !

- كيف عرفت ؟!

احمد : لأني شعرت بالحزن يملاً قلبك ، ومع ذلك تقاوم البكاء ! 

فالتزم المهرّج الصمت ! 

احمد : يبدو أخبروك أن البكاء ليس للرجال ، كما ينصحني ابي بكل مكالمة؟ 

المهرّج بحزن : أظنها تربيةً خاطئة ، فجميع المخلوقات تبكي عند الألم 

- اذاً إخبرني كيف ماتت ؟

- بالسرطان

احمد : ألهذا تطوّعت بمشفانا ، لتوديع المُحتضرين مثلي ؟  

- لا تتشاءم هكذا ، فأنت مازلت حيّاً 

- لكني سأموت قريباً

سمير : هل سمعت الطبيب او الممرّضة..

احمد مقاطعاً : لا !! لكني رأيت جدي بالمنام يخبرني أنه سيراني قريباً ، لهذا مازحت جدتي بأنني سألاقيه قبلها

فسكت سمير وهو يحاول كبت دموعه .. 


فوضع الصغير يده على كتف المهرّج ، وهو يقول :

- عندما علمت بمرضي ، ذهبت مع جدتي للمدرسة لسحب ملفي .. فالتقيت بمعلّم الدين الذي سألته عن الموت ؟ .. فطلب مني ، تخيّل رحلةً مدرسيّة .. وهناك حافلتان مُخصّصتان لأخذ الطلاّب الى الملاهي .. لكن صديقي فضّل الركوب بالحافلة الأولى ، بينما ركبت الثانية .. فهل سأحزن على فراقه ، طالما سألتقيه لاحقاً في الملاهي ؟.. ما أقصده يا عم ، ان جميعنا سنجتمع بالجنة ان لم نُغضب ربنا ، فلما نحزن على فراق أحبّتنا باكراً ؟ 


فلم يجد سمير نفسه الا وهو يحتضنه بحنان .. محاولاً التماسك بصعوبة ، كيّ لا ينهار امام البطل الصغير 

***


في الإسبوع التالي .. قدم المهرّج باكراً للمشفى ، وهو يتمنى رؤية احمد بخيرٍ وسلامة .. لكنه وجد سريره فارغاً !

وقبل السؤال عنه.. تجمّع الأولاد حوله وهم يرغبون ملاعبته ..

فصار يرقص ويغني لهم ، وعقله منشغل بأحمد الذي يتأمّل دخوله الى جناح المرضى بأيّة لحظة

^^^


وبعد ساعة ، لم يستطع المهرّج الإنتظار اكثر.. واعتذر من الأولاد ، مُتحجّجاً بدخول الحمام.. ثم سارع لمكتب الطبيب الذي أطلعه على الخبر السيء ! فأحمد توفيّ ليلة امس ، وتم دفنه صباحاً في قبر جده 

^^^


عاد المهرّج مثقلاً بالهموم الى جناح الأولاد الذين تجمّعوا حوله ، وهم يطالبونه بنفخ البالونات لهم..

ولم تكن قدماه (بحذائيه الكبيرتيّن) باستطاعتهما حمله ، بعد انهياره داخلياً على وفاة صديقه الصغير..


وهنا دخلت الممرّضة الى الجناح .. وفور رؤيتها المهرّج ، اخرجت رسالة من جيبها .. وهي تقول :

- البارحة عندما كان احمد يعاني من سكرات الموت ، طلب مني كتابة هذه الرسالة لك 


فابتعد سمير عن الأولاد لقراءتها ، وفيها :

((سأبحث عن ابنتك بين قصور الجنة ، الى ان القاها .. وسأخبرها عن شوقك لها .. وسأطلب منها زيارتك بالإحلام ، لتخفيف آلامك.. كما سأرسل لك اشارةً غريبة ، لإفهامك بأنني اصبحت ملاكك الحارس .. طلبي الأخير : إن كنت تحبني بالفعل ، فلا تخفي حزنك هذه المرة .. إبكي لفقدان ابنتك ، ولأجلي ايضاً.. اراك بالحافلة التالية التي ستصل للجنة ، بعد سنواتٍ طويلة من اليوم))


وما ان انهى الرسالة ، حتى سارع سمير الخروج من جناح الصغار .. لينهار باكياً فوق مقعد حديقة المشفى ، كما لم يبكي من قبل ! وكأن وفاة احمد المفاجئة ، أخرجت جميع مشاعره المكبوتة ! 


ولم يتوقف عن البكاء ، الا بعد حصول امرٍ غريب ! وهو خروج البالون الأحمر من نافذة جناح مرضى السرطان ، ليهبط بجانب مقعد المهرّج ! 

حينها فهم بأن روح احمد تواسيه .. 

وابتسم بحزن خلف مكياجه السميك ، وهو يتمّتم :

- اعدك يا احمد بالإهتمام برفاقك بعد رحيلك

***


بعدها تعاقد سمير مع ادارة المشفى على وظيفةٍ دائمة لإسعاد الأطفال ، بعد ان كانت تطوّعاً في عطل الإسبوع فقط


لكن هذه المرة أفهم الصغار : بأنه حتى المُهرّجين يمرّون بأيامٍ صعبة.. وانه لا بأس من التعبير عن احزاننا ، بجانب ضحكاتنا وتفاؤلنا بالأيام السعيدة القادمة  

وبذلك أضاف الى قناعه ، دمعة بجانب عينه .. رمزاً لحزنه على فقدان ابنته ، وملاكه الصغير أحمد !


الخميس، 20 نوفمبر 2025

الإرث الحقيقي

تأليف : امل شانوحة 

العم القروي


في ذلك النهار ، بالقرية الزراعية .. تلقى صفوت (الرجل الخمسيني) إتصالاً من المحامي ، يخبره عن وفاة اخيه الأصغر وزوجته بحادث سير ! وأن عليه القدوم للمدينة ، لاستلام الميراث


ورغم قساوة الخبر ، الا ان الأخ الأكبر بدا متماسكاً بعد وصوله لمكتب المحامي الذي كان مُتعجباً من عدم حضوره مراسم دفن وعزاء أخيه الوحيد !

فرد الأخ الكبير بقسوة :

- توفيّ وانتهى الأمر ، إخبرني بورث العاقّ

فطلب المحامي من سكرتيرته ، إدخال الأمانة..

فإذّ بولديّن وفتاة يدخلون المكتب ، والحزن واضحاً على وجوههم الصغيرة! 

ثم بدأ المحامي بالتعريف عنهم :

- هؤلاء هم ابناء اخيك الأصغر


فنظر اليهم العم ، بلؤم .. وهو يحاول كتمان مشاعره الحقيقيّة ، بعد رؤيتهم لأول مرة ! 

بينما اكمل المحامي كلامه :

- الإبن الأكبر 14 سنة .. سمّاه اخوك على إسم جده .. فتحي .. والإبن الأصغر عمره 8 سنوات .. وسمّاه على إسمك انت !! صفوت 

فتفاجأ العم من هاذين الأسميّن ! بينما اكمل المحامي كلامه : 

- اما الفتاة ، فعمرها 11 سنة .. وهي على إسم جدتها .. زينب

فقال العم ساخراً : وهل وافقت امهم .. ابنة الذوّات .. على هذه الأسامي البلديّة ؟!

فردّ فتحي (ابن اخيه الأكبر) : 

- رجاءً عمي .. لا تخطئ بحق امي ، فهي الآن في ذمّة الله 


فتجاهل العم كلامه ، مُحدّثاً المحامي : 

- ولما جمعتني بهم ؟ الم تتصل بي لأجل الميراث ؟ 

المحامي : هؤلاء هم ثروّة اخيك .. فالبنك استولى على منزله وسيارته ، لدفع قروضه المتأخرة .. ولم يبقى من إثره ، سوى ابنائه الثلاثة

فنهض العم عن الكنبة ، وهو يقول بعصبية :

- ما هذه المهزلة ؟!! أأحضرتني من القرية ، للإعتناء بهؤلاء الأيتام !

المحامي : انت قلتها بنفسك .. ايتام ، وليس لديهم احدٌ سواك

العم بتهكّم : وماذا عن جدتهم الثريّة ؟  

المحامي : اخوك تزوّج ، رغم معارضة حماته (تعيش ببلدٍ اوروبيّ) التي قاطعت ابنتها الوحيدة ، فور خطبتها من ريفي بسيط .. لهذا لم تحضر دفنها وعزائها ! 


وهنا قالت الصغيرة بخوف : عمي رجاءً !! إن رفضّت الإعتناء بنا ، سيفرّقونا بدور الأيتام .. وانا لا اريد الإبتعاد عن اخوايّ 

العم بعصبية : مالا تعرفونه عن ابيكم .. انه باع نصيبه من ارض جدكم ، لعدوّ عائلتنا ، لتوفير مصاريف زواجه من امكم !! وبسببه ، مات ابي قهراً .. بينما أجبرت انا على مقاسمة بئرنا مع ذلك الحقير الذي نغّص حياتي لسنوات.. فلما عليّ دائماً تحمّل افعال والدكم الخرقاء ؟!! 

ثم قال للمحامي :

- هؤلاء الأولاد لا يعنوا لي شيئاً !!

فردّ المحامي : لكن سيد صفوت ، انت لم تتزوّج مطلقاً .. وهؤلاء الأولاد سيكونوا..

العم مقاطعاً : لن يكونوا يوماً في مقام اولادي !! فوالدهم اللعين تزوّج من غير بيئتنا ، لذا لست مسؤولاً عن هؤلاء الغرباء !!

 

وقبل خروجه من المكتب ، امسك الصغير يده : 

- دائماً ما سخر زملائي بالمدرسة من إسمي الذي يبدو اكبر من عمري ! لكني كنت اجيبهم بفخر ، انه اسم عمي .. رجاءً خذنا معك ، لرؤية المنزل الذي تربّى به والدنا 


كلامه الرقيق ، حرّك مشاعر العم الذي تفحّص يد الصغير :

- يداك باردتان كوالدك ! كنت دائماً احرص على تغطيته في الليالي الباردة ، خوفاً من اصابته بالحمى .. فهو كان هزيلاً مثلك

صفوت الصغير : اذاً كنت تحب ابي !

فسكت العم بامتعاض ، لتقول الفتاة : 

- هل مازلت تحتفظ بزيّ الضابط الذي اشتريته لوالدي بعيد ميلاده العاشر ، من مصروفك الخاص ؟ 

العم بدهشة : كيف عرفتي بتلك الهدية ، يا زينب ؟!

فأجابته بابتسامة : أخبرنا والدنا الكثير عنك

صفوت الصغير بحماس : وأخبرنا كيف قتلت الذئب الذي سرق دجاجاتكم!!

فتحي (الإبن الكبير) : وأخبرنا كيف اهتتمت به ، بعد وفاة امكما وهو طفلٌ صغير ..وكيف ضُربت من جدي بدلاً عنه ، لتحمّلك اخطائه المتهوّرة بعمر المراهقة

زينب : وكيف اطفأت نار العشب التي اولعها ابي بمفرقعاته ، والتي كادت تُشعل المزرعة بأكملها .. لولا بطولتك بإطفائها بيديك !

وعاد الصغير لمسك يد عمه المشوّهة :

- هل مازالت حروق يدك تؤلمك ، عمي ؟!  


وهنا نظر العم للمحامي الذي كان يشير برأسه بعدم التخلّي عنهم ، ليعود وينظر للأولاد وهو يقول : 

- أظني بحاجة لعمّال في ارضي


فقفزوا فرحاً بعد علمهم ببقائهم معاً ، برعاية عمهم الذي تضاربت المشاعر داخله : بين رغبته الإهتمام بهم ، وبين قهره من زواج اخيه الخاطئ الذي دفع ثمنه غالياً !

***


في قطار العودة للقرية.. جلس الأولاد الثلاثة بأدب دون التفوّه بكلمةٍ واحدة ، وهم ينظرون للأراضي الزراعية بذهول ! 

ليفاجئهم عمهم بشراء بعض الحلوى من بائعٍ يتجوّل بين الركّاب ! فأكلوها بنهم ..  فعلم بجوعهم ، لكنه التزم الصمت

***


عندما وصلوا لمنزله مساءً ، اخذوا يتأمّلونه باستغراب ! 

فقال العم :

- المنازل بالقرية مصنوعة من الطين والقشّ ، وليس الإسمنت كما في شقتكم بالمدينة.. لكنه دافىء شتاءً.. والآن ادخلوا تلك الغرفة ، ستجدون فراشاً كبيراً على الأرض .. ستتقاسموه بينكم ، فهو مكان نومكم

فتحي : حسناً ، سنغيّر ملابسنا اولاً

وأخذ اخوته الصغار ، وهو يجرّ حقيبة ملابسهم الى غرفتهم

^^^


بعد قليل .. دخل العم ، ليراهم مستلقيين بالفراش : 

- ماذا تفعلون ؟!

فتحي : أحاول تنويم اخوتي ، كما طلبت

العم : لن تناموا وانتم جوعى .. هيا للعشاء !! 

فنهضوا سعداء ، لأنهم كانوا يتضوّرون جوعاً .. لكنهم خافوا سؤاله عن الطعام


وجلسوا بجانب عمهم وهم يتناولون الفول والخبز البلدي ، بعد افتراشهم الأرض 

لينتبه العم على ارتباك الصغير ! فسأله : 

- مابك لا تهدأ يا ولد ؟!

فردّ أخوه الكبير : رجاءً لا تغضب منه ، فهو متعوّد على الأكل على المائدة .. لكن سيتعوّد مع الوقت 


فسكت العم قليلاً ، قبل ان يقول :

- سأطلب من الخيّاط القدوم الى هنا غداً ، لأخذ مقاساتكم

زينب : نحن لدينا ملابس ، يا عمي !

العم بحزم : ملابس المدينة لا تنفع في الأرض الموحلة ، لأنكم ستعملون بجهد !! فالحياة معي ، لن تكون بالمجّان 

الصغير : وماذا عن المدرسة ؟

فأشار اخوه الكبير (بأصبعه على فمه) بأن يصمت .. لكن زينب تنهّدت بحزن : 

- كنت بارعة بالدراسة

العم : نحن مازلنا بالعطلة الصيفيّة

زينب بارتياح : أتقصد انك ستسجّلنا في المدارس ؟!

العم : حسب جهدكم بالزريبة والأرض طوال الصيف

الأخ الكبير بقلق : وهل هناك مدارس بالقرية ؟

العم : مدرسةٌ واحدة لجميع المراحل ، لكن شهادتها معترفٌ بها في الدولة

زينب : وهل يدرسون الإنجليزية ؟

العم : لا ، يركّزون على العربي والدين والحساب


فشعر الأخوان الكبار بالقلق ، لعدم استفادتهم من شهاداتهم لاحقاً .. بينما كان الصغير منشغلاً بانهاء صحنه ..

العم : عليكم النوم باكراً .. فغداً فجراً ، تبدأون بأعمالكم الروتينية .. انا ذاهبٌ الآن عند جارتي ، فهي لديها اولاد بمثل عمركم .. سأستلف منها ملابس تفيدكم بالعمل ، لحين انتهاء الخيّاط من ملابسكم الجديدة .. زينب !! إجلي صحون اخوتك ، قبل نومك .. وانت ايها الصغير !! اياك تلويث الفراش ليلاً 

الأخ الأكبر : لا تخف عمي ، سأوقظه آخر الليل لدخول الحمام 

العم : جيد !! انتبه على اخوتك .. فلا طاقة لي بذلك

***


قبل شروق الشمس ، ايقظهم العم لصلاة الفجر (خلفه بالصالة) 

ورغم نعاسهم الا انهم كانوا سعداء بوجودهم معه ، بعد فقدهم والديهما 


وبعد انتهاء الصلاة ، لاحظ فتحي دموع عمه .. فسأله بقلق : 

- هل هناك خطبٌ ما ؟!

- تذكّرت والدك ، عندما كنا نصلي خلف جدك .. فهو لم يكن اخي الصغير فحسب ، بل طفلي المشاغب .. لكنه بالنهاية باعني بثمنٍ بخس ، لأجل امرأة من المدينة

فتحي : اعتذر منك عن خطأ والدي ، لكنه كان مغرماً جداً بأمي

العم : هذا ليس ذنبك.. المهم ان تنتبه على اخوتك 


وابتعد عنه ، قبل سقوط دمعته .. فعلم فتحي بأن عمه حنون ، لكنه مقهور على خسارة اخيه الأصغر !

***


وتوالت الأيام ، إهتم فيها الصغار بقطف القطن من مزرعة عمهم .. مع حلب البقر وإطعام الدجاج ، منذ شروق الشمس حتى غروبها .. وما ان يصلوا الى فراشهم ، حتى يناموا سريعاً من شدة تعبهم ! 


بينما يراقبهم العم من بعيد وهو يخفي شعوره بالفخر ، من نشاطهم واتقانهم للعمل بوقتٍ قصير !

***


وذات يوم ، رأى الصغير يلعب بالدرّاجة ..

العم بدهشة : من اين اتيت بها ؟!

صفوت الصغير بحماس : وجدتها بعليّة منزلك !!

- ومن سمح لك الصعود الى هناك ؟!

- كنت اشعر بالمللّ .. فلمن هذه الدرّاجة ؟!

فتنهّد بحزن : لوالدك عندما كان بمثل عمرك 

- آه ! انت اشتريتها له من مصروفك ، بعد نجاحه بالمدرسة .. فهو أخبرني بأنها كانت اجمل هدية منك 


فسكت العم بحزن ، وهو يتذكّر علاقته الجيدة بأخيه في الماضي .. بينما اكمل الصغير كلامه :

- هل تسمح لي بركوبها يومياً ؟

العم : فقط عصراً ، بعد انهاء عملك بالمزرعة


فأشار الصغير بأصبعه ، للنزول اليه .. فأخفض العم رأسه ، ليتفاجأ بتقبيل صفوت وجنته ! ثم قاد درّاجته بسرعة نحو الزريبة ، لإخبار اخويّه بشأن الهديّة


بينما صعد العم للعليّة التي لم يفتحها منذ رحيل اخيه للمدينة .. وأخرج اغراضه القديمة من حقيبةٍ مقفلة .. وما ان شاهد صورتهما معاً ، حتى انهار ببكاءٍ مرير .. وهو يتساءل بقهر :  

((لما فعلت ذلك ؟ لما تخليّت عني ؟ فأنا اهتمّمت بك طوال حياتي ، ولم ابخل عليك بشيء.. وتركتني لأجل امرأة لا تناسب عائلتنا ، وأمتّ ابي قهراً .. سامحك الله يا اخي المشاغب !)) 


وصار يقبّل صورته بقهر ، دون انتباهه على فتحي (الأبن الكبير) الذي راقبه من باب العليّة (كان قدِمَ لشكره على درّاجة اخيه) .. والذي اكتفى بنزول الأدراج بهدوء ، دون ازعاج عمه الذي اكمل نهاره وهو سارح بذكريات الماضي

***


في اليوم التالي .. لم يخرج العم من غرفته طوال النهار ، على غير عادته! 

فذهبت الصغيرة للإطمىنان عليه ، لتجد حرارته مرتفعة ! (يبدو ان بكائه البارحة على اخيه ، أمرض جسده) 


فحاولت مناداة اخيها الأكبر ، لتراه مع الجار يعلّمه قيادة الجرّار الزراعيّ .. بينما اخيها الصغير منشغلاً بإطعام الدجاح ! 


فسارعت للمطبخ لإعداد الشوربة لعمها .. ثم جلست امامه ، لتغيير الضمادات الباردة ، على امل إخفاض حرارته

واثناء مساعدة عمها على شرب الشوربة ، سألها : 

- من علمك اعداد هذه الشوربة اللذيذة ؟!

زينب : امي ، فقد كان طبخها لذيذٌ جداً

العم باستغراب : ظننتها تعتمد على الخدم !

زينب : امي كرهت حياتها بقصر جدتي التي أجبرتها على التعلّم بالمدراس الداخلية .. حتى أيام العطل ، إنشغلت عنها بتجارتها الخارجية ! فمعظم طفولتها قضتها مع مربيات مختلفات .. لهذا اقسمت على تربيتنا بنفسها .. وكانت اجمل اللحظات ، عندما كنت اساعدها بإعداد الحلوى  

- وكيف كانت علاقتها بوالدك ؟

- كانا يحبان بعضهما جداً !! 

- الم يتشاجرا يوماً ؟!

- لا اذكر ذلك .. فهي اعتنت بأبي جيداً ، وكانت اماً رائعة .. وكنا نسمع ضحكاتها مع والدي ، عندما يشربان القهوة وحدهما على الشرفة .. (ثم تنهّدت بحزن) كانت حياتنا سعيدة بالفعل ! كم اشتقت لوالدايّ 

وارتمت بحضنه باكية .. ولم يستطع العم ابعادها ، واكتفى بتمسيد شعرها بحنان 

***


بعد شهرين من عيشهم بالقرية .. تفاجأ الأولاد الثلاثة بوجود حقائب مدرسيّة فوق فراشهم ! فسارعوا لغرفة عمهم ، وهم يسألونه : ان كان سجلّهم بالمدرسة مع بداية السنة ؟

فأجاب العم بابتسامةٍ حنونة : 

- الم يخبركم والدكم باهتمامي بدراسته ؟ رغم ان جدكم أجبرني على ترك الدراسة ، للعمل معه  

زينب : بلى !! أخبرنا بعشقك للعلم .. شكراً عمي لاهتمامك بنا ، كما فعلت مع ابي سابقاً 

العم : اذاً اذهبوا لكتابة اسمائكم على دفاتركم الجديدة ، فبعد يوم الغد سيبدأ عامكم الدراسيّ 


فذهب الصغار سعداء لغرفتهما ، بينما سأله الكبير بقلق :

- وماذا بشأن الزريبة والأرض ؟

العم : استأجرت عامليّن لمساعدتي غداً ، بدلاً عنكم .. فقد كبرت على الإهتمام بالأعمال وحدي .. المهم ان تنتبه على دراسة اخوتك ، ومن يصاحبون .. ولا تقلق بشأن المصروف .. يكفيني حصولكم على نتائج جيدة بالمدرسة 

فقبّل فتحي رأسه الشائب ، بينما اكتفى العم بابتسامة رضا 

***


ومرّت الأيام ، تعمّقت فيها علاقة العم بالأولاد الثلاثة .. خصوصاً الصغير الذي صار ينام بجانبه ، للإستماع لقصصه قبل النوم (بنهاية الإسبوع الدراسيّ) 

كما تعوّدوا على الذهاب معه للسوق والمطعم الشعبي ومنازل الجيران ، والإحتفال سوياً بالأعياد ... حتى بات اهالي القرية ينادونهم بأولاده !


وهو ايضاً شعر بذلك.. الى ان تفاجأ بمكالمة من المحامي يخبره : بأن جدتهم (والدة امهم) عادت من اوروبا .. وتريد نقلهم للمدينة ، للإهتمام بهم!

وجاء الخبر صادماً للعم ، وللأولاد الثلاثة الذين رفضوا ترك القرية بعد تعوّدهم على حياة الريف !

وترجّوا عمهم بعدم ارسالهم لجدتهم الأنانية التي لا يهمها سوى تجارتها الأوروبية ، وصديقاتها من الطبقة المخملية .. وعبّروا عن قلقهم من إهمالها ، كما فعلت بإبنتها الوحيدة


وبالفعل رفض العم ارسالهم .. لتسارع الجدة برفع قضية حضانة ، كونها الأقدر مادياً على الإهتمام بهم 

***


ومرّت القضيّة ببطءٍ شديد ، الى ان طلب القاضي سماع رأيّ الأولاد الثلاثة .. 

فبدأ الإبن الأكبر بالكلام :

- علّمني عمي ادارة الأعمال واسلوب التحدّث اللبق مع الكبار ، مع معاونتي بمسؤولية اخوتي .. فهو قوّم سلوكي ، ووجّهني لأكون رجلاً ناضجاً 

القاضي : وماذا عنك ، ايتها الصغيرة ؟

فمسحت زينب دموعها : احببته كوالدي .. فهو حنونٌ جداً ، وإن كان لا يظهر ذلك .. لكني المحه كل ليلة ، وهو يضع الحلوى في حقائبنا المدرسية.. كما اخاط لي دميةً صوفيّة.. اما جدتي !! فكانت تكتفي بإرسال الألعاب بأعياد ميلادنا ، دون رؤيتنا او التحدّث معنا بالهاتف ! فهي لم تشعرنا بحنانها ، ولم تخبرنا القصص الجميلة ، كما فعل عمي بالليالي الباردة .. وأجمل شيء نفعله معه ، هو صلاتنا خلفه .. وتحفيظنا القرآن برمضان ..

وهنا اكمل الصغير الكلام : كما اخذنا للملاهي الجميلة !!

فوقفت الجدة وهي تقول بامتعاض :

- تلك ملاهي شعبيّة .. وإن بقيتم معي ، سآخذكم لملاهي ديزني الشهيرة  


لكن الأولاد الثلاثة لم يشعروا بالحماس ، كما توقعت !

الصغير : بل أُفضّل المراجيح الخشبيّة مع عمي الذي يلاعبنا ، وهو يغني لنا الأغاني الشعبية 

فردّت الجدة باشمئزاز : 

- يبدو لديكم نفسيّة الفقراء ، كوالدكم الريفيّ .. والغبية ابنتي ، فضّلته عليّ ! رغم إنفاقي اموالاً كثيرة ، لتعليمها بأحسن المدارس 

زينب مقاطعة بعصبية : تقصدين المدارس الداخلية !! حتى أيام العطل ، كنت ترسلينها للمعاهد والتخييم الكشفيّ .. انت لم تهتمي بمشاعرها مطلقاً!!

الجدة : كنت منشغلة بتجميع ثروّةٍ مالية لها 

زينب : هي لم تكن تريد مالك ، بل حضنك وأمومتك .. 

الأخ الأكبر : وهاهي امي ماتت الآن ، فما استفادت من ثروّتك يا جدتي ؟

زينب : ابي عوّضها عن حنانك .. فهي عاشت معه اجمل 15 سنة في حياتها

الجدة بحزم : ان لم تكفّوا عن تصرّفاتكم المشاغبة ، سأحرمكم الميراث !!

الأخ الكبير : لا حاجة لنا بمالك !! فعمي يوفّر لنا كل شيء


وهنا رنّ جوال الجدة : 

- آسفة سيدي القاضي .. سأخرج من القاعة ، لردّ على عميلٍ مهم لشركتي

القاضي : يبدو ان عملك اهم من سماع حكمي النهائي بشأن حضانة احفادك ! لهذا لن اطيل عليك 

وضرب بالمطرقة بقوة على طاولته ، وهو يقول :

- حكمت بالحضانة ... لعم الأولاد !!


فقفزوا فرحاً وهم يحتضنون عمهم بسعادة .. بينما خرجت الجدة غاضبة من المحكمة ، رغم اخفاء ارتياحها من مسؤوليتهم (فهي رفعت القضية ، لحماية سمعتها بين افراد مجتمعها المخمليّ) .. حيث سارعت تلك الليلة ، للعودة لأوروبا .. لمتابعة اعمالها التجارية ، دون اكتراثها لخسارة احفادها! 

^^^


بينما عاد الأولاد الثلاثة مع عمهم ، لمنزل جدهم بالقرية .. مُفترشين الأرض ..وهم يتناولون عشاءً بسيطاً ، اثناء استماعهم لقصته الجديدة 

 والتي ما ان انتهت ، حتى فاجأته الصغيرة بسؤالها :

- عمي .. لما لم تتزوّج حتى اليوم ؟!


فأخبرهم أنه عشق ابنة الجيران التي فضّلت الزواج من رئيس بلدية القرية المجاورة الذي كان بعمر والدها .. مما كسر قلبه ! 

وعندما قال اسمها الكامل ، شهقت زينب بدهشة :

- زميلتي بالمدرسة من نفس العائلة ! أُيعقل ان حبيبتك هي عمتها؟!


لكن العم نبّهها بعدم فتح الموضوع مع زميلتها ، كون حبيبته السابقة متزوجة حالياً .. وسارع لغرفته ، قبل رؤيتهم دموعه .. لكن زينب كان لها رأياً آخر 

***


بعد ايام .. تفاجأ العم بالمراهق فتحي يحفر وسط الأرض !

- لما تنبش ارضي ، يا ولد ؟!!


فأخبره انه اثناء وجودهم بالمدينة (لحضور قضيّة الحضانة) بحث بالإنترنت عن طريقة لإيجاد الآبار الخفيّة ، بواسطة انحناء العصا من الأرض الرطبة .. وانه متأكّد من وجود الماء بهذه البقعة من ارض عمه الذي طلب من خبير القرية الحفر هناك .. 


وبالفعل ، لم ينتهي الصباح حتى خرج الماء بغزارة من الأرض ! مما جعل العم يحتضن فتحي بفخر ، لأن هذا البئر سيخلّصه من شريكه الشرير (الذي باع اخوه نصيبه له) ليفاجئه فتحي بقرارٍ آخرٍ حكيم :

- طالما اخبرتني ان قانون القرية يمنع بناء الأسوار بين الأراضي المجاورة ، فما رأيك بزراعتنا الصبّار الشائك على حدود ارضنا ؟ فهذا سيمنع ثور جارك الخسيس من اكل محصولنا 

فعاد العم لاحتضانه من جديد ، وهو يقول بفخر :

- انت عبقريّ كأبيك !! سنفعل ذلك بعد انتهائنا من بئرنا الجديد .. صحيح ان والدك اوقعني بمشاكل مع ذلك الشرير ، لكن بذكائك حللت المشكلة التي اتعبتني لسنواتٍ طويلة .. (ثم نظر للسماء) .. دعنا نعود للمنزل ، فالشمس على وشك المغيب 

^^^ 


بعد العشاء .. دخلت زينب الى غرفة عمها قبل نومه ، لإعطائه رسالةً ما.. وهي تقول بارتباك :

- اعرف انك طلبت مني عدم التدخّل بشؤونك العاطفية .. لكني اخبرت صديقتي بكل شيء .. والمفاجأة ان زوج حبيبتك مات قبل سنتين ، ولم تنجب منه ، كونه كبير بالعمر .. وعندما علمت بأني قريبتك ، ارسلت مع صديقتي هذه الرسالة 

- أهذه الرسالة منها ؟!

- نعم ، من حبيبتك السابقة .. واحلف انني لم اقرأها


ثم خرجت من الغرفة ، ليقرأ الرسالة بيدين مرتجفتين .. مكتوباً فيها:

((اعرف انك غاضبٌ مني .. لكني لم أفضّل زوجي عليك ، لأنه ميسور حال .. فما لا تعرفه ، ان والدي كان مديناً له .. وكان سيخسر مزرعته .. فزوّجني غصباً عني ، لسداد ديّنه .. لكني ادّعيت امامك ، برغبتي بماله .. خوفاً ان تبيع نصيبك من الأرض ، لسداد دين ابي .. وبذلك تقهر والدك ، كما فعل اخوك .. لكني مازلت احبك ، فأنت حبي الأول والوحيد))


بعدها سمعت زينب (التي كانت تتنصّت على غرفة عمها) صوت بكائه المقهور .. فقالت بنفسها :

((والله لن اهدأ ، حتى أزوّجك حبيبتك .. فهذا واجبي ، لردّ جميلك عن اهتمامك بنا.. لكن عليّ العمل بسرّية))

***


وبالفعل ، اتفقت زينب مع صديقتها على توصيل الرسائل بين العاشقيّن .. الى ان اخبرت زينب تلك السيدة : بأن عمها يدعوها للإحتفال معهم ، بعيدٍ شعبيّ (دون علم عمها بالأمر) .. ليلتقي العاشقان اخيراً بعد فراق عشرين سنة .. حيث اعتزلا الجميع ، لتحدّث معاً اسفل شجرة التلّ .. بينما اهالي القرية يراقبونهما من بعيد ، لمعرفتهم بعشقهما القديم ! 


ولم ينتهي الحفل .. حتى اعلن العم امام الجميع ، خطبته لحبيبته القديمة ! لتعلو معها الزغاريد والتصفيق ، تهنئة للعريسيّن الجدد 

***   


وقد تعاهد فتحي لعمه بالإهتمام بإخوته ، ريثما ينتهي شهر عسله مع حبيبته التي سافر معها للمدينة .. 


وبعد اسبوعين .. عاد العريسان بعد ان اخبرت السيدة الأولاد الثلاثة ، بأنها ستكون بمقام والدتهما .. وقد احبوها بالفعل ، لتعاملها اللطيف معهم.. خاصة بعد تحسّن طباع عمهم الذي زاد رفقاً وحناناً بهم !

***


وفي احدى الليالي ، إفترشوا الأرض امام المدفأة .. وبعد ساعة ، نام الأولاد بجانب العم وزوجته قبل انهاء قصته الجميلة .. 

فنظر لزوجته وهو يقول بسعادة : 

- اخي ترك لي ، اجمل ثروّة بحياتي.. رحمك الله ، يا اخي الحبيب

وحضن زوجته بحنان ، وهو ممتنٌّ لله على عائلته السعيدة!


الثلاثاء، 18 نوفمبر 2025

مرآة العدالة

تأليف : امل شانوحة 

إنعكاس الحقيقة


يُعدّ المحقق جاك من الرجال العقلانيين ، لا يصدّق الا بالدلائل الماديّة والبصمات والإعتراف الصريح .. لكن اسلوبه وتفكيره تغيّر بعد ذهابه لسوق الأحد ، بعد رؤيته امرأةً غجريّة تبيع مرآةً كبيرة بسعرٍ غالي ! 

فسألها بتهكّم :

- 500 دولار ! هل إطارها مطلي بالذهب ؟

فابتسمت قائلةً :

- هذه لا ترى فيها الوجوه ، بل ما تخفي النفوس .. ولن يشتريها احدٌ سواك ، فهي ستفيد عملك الجنائيّ يا جاك 

فتفاجأ من معرفتها اسمه وعمله ايضاً ! 

- هل انت مشعوذة ؟!

- بل امرأة ذات بصيرة .. هيا اقترب من المرآة ، لمعرفة سرّها الغامض


وما ان وقف بجانب المرآة (التي طولها متريّن) حتى رأى وجهه نصفه ابيض ونصفه اسود ! 

فتراجع للخلف ، وهو يسمع تحليل العجوز : 

- يبدو بداخلك ، النور والظلمة معاً ! لكن عدلك يغلب سواد شكوكك .. فأنت بحكم عملك ، لا تثقّ بسهولة بالمحيطين بك 

جاك بصدمة : هل مرآتك تعكس الضمير ؟!

فردّت بابتسامة : والنوايا ايضاً .. الم اخبرك انها ستفيد عملك الصعب ؟


فاشتراها بدافع الفضول ، ونقلها باليوم التالي الى مقرّ عمله .. حيث قام بتعليقها على جدار غرفة التحقيق بمركز الشرطة ، خلف الكرسي الذي يجلس عليه المتهمين .. لربما تُسهّل معرفته ، ان كانوا ابرياء ام مذنبين !

*** 


بعد ايام ، بدأ تحقيقه مع متهمٍ بقتل زوجته .. وهو منهار بالبكاء ، ويصرّ على حصول الجريمة اثناء وجوده بالعمل .. مُدّعياً اقتحام لصٍّ بيته ، وقتله زوجته بعد مقاومتها له !


بهذه اللحظات ، إنتبه المحقق على انعكاس الرجل في المرآة السحريّة : حيث رأى خلافاته العنيفة مع زوجته ، وضربه المبرح لها طوال سنوات زواجهما .. الى ان حصلت الجريمة ، بعد طعنها مراراً بالسكين .. ثم إسراعه لمقرّ عمله ، ليضمن شهادة زملائه على وجوده هناك لحظة الجريمة ! 

ليس هذا فحسب ! بل ظهر انعكاس المتهم ، كأنه شيطان يضحك بخبثٍ ومكر .. مما ضايق المحقق الذي صفع المتهم ، للكفّ عن بكائه المُصطنع!


وبعدها سرد المحقّق الحقائق ، بتفصيلٍ أرعب المتهم الذي لم يعلم برؤية جاك لماضيه من خلال المرآة التي خلفه ! 

وبعد الضغط عليه ، إعترف بكل شيء .. وأُرسل للسجن ، لحين محاكمته


بينما كافأ مدير الشرطة ، المحقق على اكتشافه الحقيقة .. دون علم زملائه : بأنه الوحيد الذي يرى انعكاسات المتهمين في مرآته السحريّة 

***


بعدها بدأت سلّسلة إنتصارات المحقق الذي ازال بسهولة ، أقنعة المجرمين المحترفين .. ليصبح اسطورة بمجال عمله ، بعد كشفه العديد من ملابسات الجرائم الغامضة .. عقب إنهيار المتهمين امامه الواحد تلوّ الآخر ، بعد معرفته لأدقّ التفاصيل عن جرائمهم الشبه كاملة !

***


الى ان جاء يوم ، جلس فيه آدم امامه .. وهو سجينٌ افريقيّ ، حٌبس اربعين سنة بتهمة اعتدائه على طفلةٍ بيضاء اثناء لعبها قرب كوخه! 

والغريب بهذا السجين ان تصرّفاته اللبقة لا تُشبه المجرمين ، خصوصاً نظرته الذابلة من ظلم الحياة له !


حيث ظهر إنعكاسه في المرآة : كمراهقٍ خائف من تهديدات المحقق الشهير (استاذ جاك سابقاً) وهو يأمره بالإعتراف بجريمةٍ لم يرتكبها! 


وهنا تفاجأ العجوز آدم ، بجاك يمسك يده قائلاً :

- اعدك بإظهار براءتك 

- انت الوحيد الذي صدّقتني ! فجميع من سبقوك لم يكترثوا بعدم رؤيتي للفتاة الضائعة مُطلقاً 

جاك : المهم ان لا تفقد الأمل ، فأنا سأعيد فتح ملفك القديم 

^^^


وبالفعل ، أخرج ملف آدم من الأرشيف .. ليتفاجأ بقلّة الأدلة نحوه ، ومع ذلك حُكم عليه بالمؤبّد .. فقط لأن شاهداً عابراً ، رأى الفتاة تلعب بدرّاجتها قرب كوخه !


فالبصمة الجينيّة المحفوظة ضمن الأدلّة ، لم تُطابق يوماً آدم ! ولم تُقارن ايضاً بمشتبهٍ آخر (فهي مأخوذة قبل اكتشافهم الحمض النووي) .. حتى قطرة دم المتهم التي وجدوها على فستان الصغيرة ، غير مطابقة لفئة دم آدم !


وكان اكتشافاً عظيماً لبراءة المتهم الذي ضاع شبابه ظلماً.. ومع ذلك أصرّ جاك على العثور على مرتكب الجريمة ، قبل وصول الخبر للإعلام 

الا انه وجد صعوبة بإيجاد المتهم الحقيقيّ ، بعد مرور كل تلك السنوات ! 

^^^


واثناء دراسته الملفات القديمة في غرفة التحقيق .. اضيأت المرآة وحدها ! لتعيد ما حصل للفتاة الصغيرة ، كأنه مشهدٌ سينمائيّ : 

حيث مرّت سيارة بجانبها ، دعاها سائقها لإيصالها الى منزلها .. وقد ظهر وجه المشتبه به في المرآة السحريّة بوضوح ، لتكنّ الصدمة ! 

فالخاطف هو المحقق الشهير (من ضبّاط الجيل القديم) الذي أجبر آدم لاحقاً على الإعتراف بذنبٍ لم يرتكبه ! فهو من اعتدى على الصغيرة ، ودفنها بالغابة .. تاركاً درّاجتها امام كوخ آدم .. وهو من طلب من الشرطة القبض عليه ، كمتهمٍ اساسيّ لاختفاء الصغيرة التي لم يعثروا على جثتها ابداً !


فكتم جاك غيظه .. طالباً من مدير الشرطة ، بعض الحرس وكلابٍ بوليسيّة مُدرّبة للعثور على جثة الصغيرة ! 

وانطلق معهم للغابة ، وتحديداً لتلك المنطقة (دون اخبار احد بما شاهده بالمرآة)

^^^


وبعثوره على رفاتها ، أُعيد فتح القضيّة من جديد .. وباتهامه للمحقق السابق (الذي مات قبل سنوات ، بعد تكريمه كأفضل محقّق للعدالة بالمنطقة) آثار ضجّةً اعلامية ضخمة ، وغضباً جماهريّ : خصوصاً لأصحاب البشرة السمراء الذين تجمّعوا خارج السجن لحمل آدم فوق اكتافهم ، كبطلٍ مظلوم بعد حصوله على حرّيته اخيراً 

***


بعد تلك القضية ، تفاجأ جاك باختفاء المرآة السحريّة من غرفة التحقيق ! 

فسأل عامل النظافة (بالمركز) عنها ، وإن كان نقلها لمكانٍ آخر ؟ 

ليجيبه بإصرار : بعدم وجودها من الأساس بتلك الغرفة !


فراجع المحقق كاميرات المراقبة القديمة ، لينصدم بعدم ظهور المرآة بأيّةِ قضية حققّ بها سابقاً .. كأنها وهم ! رغم انها السبب باكتشافه الجرائم الغامضة التي وهبته العديد من الجوائز والترقيات الوظيفيّة 


ليُدرك اخيراً : أن أثرها السحريّ لم يكن بحلّها للقضايا المُعقّدة ، بل معرفته بأن حدسه هو مرآته الحقيقية .. وأن العدالة المُنصفة ، تُكشف بالبصيرة الواعية الحكيمة! 


الأحد، 16 نوفمبر 2025

العمر المسروق

تأليف : امل شانوحة 

 

سرّ المول الغريب ! 


في ظهر ذلك اليوم .. قرّرت الصديقتان مروى وسهام الذهاب للمول الجديد ، بعد انتهاء جامعتهما


وبعد استمتاعهما بالوقت هناك ، ارادت سهام دخول الحمام قبل العودة الى منزلها

لكنهما لم تجدا إشارات تدلّ على دوّرة المياه ! فسألتا عاملاً آسيويّ الذي دلّهمها على مكانٍ ما..


وعندما وصلتا اليه ، وجدتاه في الجزء الخلفيّ للمول .. فقالت مروى بعصبية :

- الغبي دلّنا على حمام العمّال !

سهام : لن استطيع الإنتظار اكثر ، سأدخل .. وانت انتظريني بالخارج


فمشت مروى في الممرّ الطويل الفارغ ، المليء بالتوصيلات الكهربائيّة الخاصة بالتبريد المركزي للمول ، ومخازن مطاعمه الجاهزة .. 

مروى بضيق : أتمنى خروجها سريعاً ، فالمكان هنا كئيبٌ ومخيف !


وفجأة رنّ جوالها ! وإذّ بسهام تسألها بعصبية :

- اين انت ؟!! بحثت عنك في كل مكان ؟ الم اطلب منك انتظاري خارج الحمام؟ 

فاندهشت مروى من غضب سهام :

- مازلت في مكاني ! وانت لم تخرجي بعد 

سهام : خرجت منذ نصف ساعة ، ولم اجدك بالممرّ الطويل .. فعدّت للمول ، وبحثت عنك في المحلاّت التجارية .. اين انت الآن ؟

- لا تفقديني صوابي ! مازلت بالممرّ ، وانت دخلتي الحمام منذ دقيقةٍ واحدة

سهام بحزم : لا تتحرّكي من مكانك ، انا قادمة اليك !! 

^^^


بعد قليل .. دخلت سهام لممرّ العمّال من جديد ، وهي مازالت تلومها!

مروى باستغراب : احلف انني لم أتزحّزح من مكاني ، ثم لم يمرّ دقيقتان على غيابك عني !

فأخرجت سهام جوالها ، وهي تقول :

- أنظري للساعة !! لقد مرّت نصف ساعة على ضياعك


واثناء جدالهما .. تراجعت مروى للخلف قليلاً ، لترى نظرة الإندهاش بعينيّ صديقتها التي قالت برعب :

- لا تتحرّكي ! 

مروى بقلق : ماذا حصل ؟!

- إختفى نصف جسمك ! 


وهنا انتبهتا على شقٍّ شفافٍّ رفيع بآخر الممرّ : يبدو ان مروى مرّت من خلاله ، اثناء انتظارها خروج صديقتها من الحمام ، جعل الوقت يمضي دون شعورها به ! 


فأدخلت مروى ذراعها من الباب الخفيّ .. لتجد انه اختفى ايضاً ، كأنها اصبحت مبتورة الذراع ! 

- مالذي يحصل هنا ؟!

سهام بدهشة : أظننا اكتشفنا بوّابةً زمنيّة ! 

- أحقاً ! إذاً دعينا نجرّبها 

- هل جننت ؟! إن دخلناها ، ربما لن نعود الى هنا ثانيةً 

مروى : لا تبالغي .. فأنا عدّت بعد نصف ساعة ، التي أمضيتها ببحثك عني  

سهام : لأنك لم تختاري العصر الذي تريدين الذهاب اليه .. وربما لوّ فعلتي ، لعلقتي بذلك الزمن لآخر عمرك 

- اذاً لنحدّد طلبنا بدقّة .. سأبدأ اولاً !! 


وفكّرت مروى قليلاً ، قبل ان تقول بصوتٍ منخفض :

- اتمنى العودة للماضي .. حينما كنت بالسابعة من عمري ، في منزل اهلي القديم .. بشرط !! عودتي للممرّ الخلفي للمول ، خلال ثوانيٍ فقط 


ثم دخلت الشقّ ، واختفت بضعة ثواني .. قبل عودتها وهي تروي لصديقتها عن رؤيتها والديها بسن الشباب ، وملاعبة اخوانها بعد عودتهم صغارا

سهام : أحقاً ما تقولين ؟!

مروى بحماس : احلف لك !! لا تدرين سعادتي وانا العب مع اخوتي في شرفتنا القديمة .. ماذا عنك ، ماذا ستتمنّين ؟


ففكّرت سهام قليلاً ، قبل ان تقول :

- إشتقت لجدتي التي ماتت بطفولتي ، فقد كنت متعلّقة جداً بها 

ثم اقتربت من الشقّ ، وهي تقول : 

- أتمنى رؤية جدتي المرحومة .. 

وما ان اقتربت من البوّابة الزمنيّة ، حتى سحبتها مروى للخلف مُحذّرة :

- لم تقولي الشرط بعد !!

سهام : آه نسيت ! .. بشرط !! عودتي الى هنا خلال ثواني


ثم اختفت داخل الشقّ ، قبل عودتها بعينين دامعتيّن وهي تقول لمروى :

- إحتضنتها بقوة !! لا تصدّقين كم اشتقت اليها 

- وماذا فعلت جدتك ؟

- كانت مصدومة من تعلّقي الزائد بها ! لكن الوقت مرّ سريعاً

مروى : حتى انا شعرت ببقائي مع عائلتي لساعةٍ واحدة فقط ! 

- ما رأيك لوّ نجرب المستقبل القريب ؟

- فكرةٌ جميلة .. لكن دعينا ندخل معاً 


واقتربتا من الشقّ ، وهما تقولان :

- نريد رؤية لبنان بعد عام من اليوم .. بشرط !! عودتنا معاً الى هنا ، خلال ثواني 


وفور دخولهما الشقّ ، حتى وجدتا نفسهما في مطعم المول ذاته ! 

لكن الجميع يهرب فزعاً ، بعد قصفٍ عنيف من طائرات العدو .. 


وبصعوبةٍ بالغة تجاوزتا الحشود الفزعة ، وهما تركضان باتجاه الممرّ الخلفي .. وقفزتا داخل الشقّ ، قبل انهيار المول بدقائق ! 

^^^


بالعودة للحاضر ، تنفّستا الصعداء بعد نجاتهما من الموت بصعوبة !

مروى بقهر : يا الهي ! هل قُدّر على اللبنانيين عيش الحروب طوال حياتهم!! 

سهام بضيق : طالما حدودنا مع العدو ، فلن نهنأ مُطلقاً ! 

- ربما الأفضل لوّ اخترنا رؤية لبنان بعد عشرين عاماً 

- اذاً لنجرّب ذلك


وبالفعل انتقلتا للمستقبل البعيد .. لتجدا نفسهما وسط البلد الذي يعجّ بالسوّاح العرب والأجانب ، بعد امتلاء متاجرها ومطاعمها بالزبائن!

مروى بارتياح : اخيراً سينهض البلد من جديد !! 

سهام : الحمد الله ، على الأقل عرفنا ان مستقبلنا جيد 


واثناء سيرهما بالسوق الذي تطوّر كثيراً ، تفاجئتا بعلم سفارة العدو تُرفّرف هناك !

سهام بصدمة : ماذا ! سفارتهم بوسط البلد

مروى بامتعاض : يبدو انهم اجبرونا بالحرب الأخيرة على توقيع السلام معهم

- اللعنة ! اذاً مستقبلنا لا يُبشّر بخير


وعندما شاهدتا عائلةً يهودية تتسوّق براحتها هناك ، شعرتا بالإستفزاز والغضب المكبوت .. وقرّرتا العودة للحاضر   

^^^


وعندما عادتا للممرّ الداخلي ، انتبهتا على تأخّر الوقت !

مروى : آه ! أنظري للساعة .. تأخرنا على منازلنا

سهام : هذا صحيح ، سيقلق اهلنا علينا .. ما رأيك لوّ نعود الى هنا غداً ، لاختيار ازمنةٍ اخرى

- ربما بداية البشريّة

- ليس لهذه الدرجة ! بل زمن الخمسينات والستينات ، في عصر نهضة لبنان

- غداً نقرّر ، دعينا نعود الآن الى منازلنا 

^^^


وافترقتا كلاّ في سيارة اجرة .. لكن عندما عادتا لمنزلهما ، تفاجأت كل واحدة منهن ان عائلتها كبروا بالسن : بعد ان اصبحت والداتهما بأواخر الستينات ، وآبائهما بالسبعينات من العمر ! اما اخوتهم : فتركوا المنزل بعد زواجهم وإنجابهم الأولاد !

وكاد اهلهما يصابوا بنوبةٍ قلبية ، بعد رؤية بناتهما بذات العمر الذي اختفيا به قبل 21 عاماً .. فالشرطة أغلقت ملفهما ، بعد الفشل بإيجادهما بأيّ مكان !


وبسبب الإرتباك الحاصل في منازلهما ! إتفقت الصديقتان على العودة للمول ، لربما تعيدان كل شيءٍ كما كان ! (فالأمنيّتان اندمجتا معاً ، ليصبح مجموعهما 21 سنة ! ضاعت من حياة اسرهما بزمن الحاضر)

^^^


لكن حينما وصلتا للمول ، وجدتاه مُهدّماً ! وتذكّرتا انه تم تفجيره بالحرب الماضية ، كما شاهدتا بتجربتهما الأولى !


فجلستا في المقهى المقابل لبقايا المول سابقاً ..

مروى باستغراب : الم نطلب عودتنا للمول خلال ثواني ، فكيف مرّت كل تلك السنوات ؟ ولما لم نكبر نحن ايضاً ؟!

سهام : بل السؤال الأهم ، لما دمّر العدو هذا المول بالذات ، ولم يقصفوا بقيّة الأسواق بالحرب السابقة ؟ هل علموا بشأن البوّابة الزمنية التي اكتشفناها من خلال مراجعة الخونة لكاميرات المراقبة ، ومشاهدتنا ونحن نختفي ونظهر بالممرّ الخلفي للمول ؟

- أتظني انهم نقلوا البوّابة الزمنية لمكانٍ آخر ؟

- لا اظنها تنتقل ! لهذا تركوا جزءاً من ردم المول ، رغم تطوّر البلد في السنوات العشرين الماضية .. وأعتقد بوجود نفقٍ سرّي اسفل الركام ، يستخدمه المسؤولون للإنتقال عبر الأزمنة .. وطبعاً لن يسمحوا لأمثالنا الإقتراب منه

- ولما اختاروا ان تتواجد بوّابة مهمة ، في ممرّ عمّال المول ؟! 

- لأنهم اجانب وجهلة ، ولن ينتبهوا لذلك 


ثم تنهدت مروى بقلق : والآن ما العمل بعد فقدنا بوّابة الزمن ؟!

فسكت سهام مطوّلاً ، قبل ان تقول بقهر : 

- ليس امامنا سوى الإهتمام بوالدينا العاجزيّن 

مروى : ماذا عن جامعتنا ؟ فقد كنا بسنة التخرّج

- نحن حالياً حسب الأوراق الحكوميّة ميتتان منذ 21 سنة ، فما الحاجة لإكمال تعليمنا ؟


ثم ودّعتا بعضهما بحزن .. للعودة الى منازلهما ، والإهتمام بوالديهما اللذيّن لم يجدا تفسيراً لما حصل لإبنتيهما ! 

وذلك بعد تعاهد الصديقتان على إخفاء موضوع البوّابة التي لن يصدّقهما احد .. كما لن يفضحا السرّ ، خوفاً من تحوّلهما لفئران تجارب بالمختبرات ، او سجينتان في مستشفى للأمراض العقلية الى نهاية حياتهما البائسة ! 


اختلاف التوقيت

تأليف : امل شانوحة  بين شرفتيّن في مبنيين متجاورين ، تتقابل شرفتان .. إحداهما للشاب احمد (الثلاثيني) صاحب الفرن صغير الذي يفتحه مع بزوغ الفج...