تأليف : امل شانوحة
الصفير القروي
بعد إفلاسه وموته بأزمةٍ قلبيّة ، إضّطرت ابنته الوحيدة (رؤى) لبيع قصره بالمزاد العلني.. وبعد اسبوع من شرائه من شابٍ ثريّ (عادل) عادت ابنة المرحوم للقصر لتجد ان موظفيهم القدامى مازالوا يعملون هناك ، بناءً على طلب المالك الجديد !
فأدخلها الحارس بعد طلبها التحدّث مع خادمتها القديمة ، التي سألتها عن أصّيص الصبّار الذي ورثوه عن جدها ؟
فأجابت الخادمة :
- جميع المزروعات مازالت في شرفة غرفتك .. فنحن عدنا البارحة الى العمل ، ولم اهتم بهم بعد
رؤى : جدتي تصرّ على إحضار زرّعة زوجها المرحوم .. فهي ترمز لقوّة التحمّل والإستمراريّة ، كما تعلمين
^^^
وذهبت رؤى الى شرفتها القديمة ، لتجد ان معظم الزهور ذبلت خلال الإسبوع الذي خلا فيه القصر من العمّال ! بينما زرعة الصبّار كما هي..
فأحزنها موت الزهور التي اهتمّت بهم لسنوات ، وصارت تحاول تنظيف الأصصّ من الأعشاب الضارّة (فهي مهندسة زراعيّة)
بهذه الأثناء ، في غرفة نومها القديمة .. إنتهى المالك من إستحمامه ، ليسمع حركة في شرفته !
فخرج الى هناك ، ليرى رؤى مُنشغلة بريّ الزهور التي تمكّنت من إنقاذها
فسألها عادل من بعيد : ماذا تفعلين في بيتي ؟!
فالتفتت اليه ، لتجده بروب الحمام !
فأدارت وجهها ، وهي تقول بارتباك :
- آسفة يا سيد .. اتيت لأخذ صبّار جدتي ، فهو رمز عائلتنا
عادل : أظنك ابنة المالك القديم ! فأنا من اشتريت القصر قبل ايام ، من المزاد العلني..
مقاطعة : اعرف هذا .. رجاءً عُدّ لغرفتك ، قبل ان تمرض .. فالجوّ بارد
فاستغرب خوفها عليّ ! قائلاً :
- حسناً سألبس على عجل ، لتتمكّني الخروج من غرفتي
رؤى بإصرار وقلق : لن أتحرّك من هنا ، حتى اراك في حديقة القصر
- وما اسمك ، كيّ اناديك من الأسفل ؟
- لا يهم اسمي ، يكفي ان تُصفّر لي
فردّ باستغراب : كما تشائين !
^^^
وبعد قليل ، سمعت صافرته من الأسفل .. فحملت أصّيص الصبّار الثقيل ، وعادت لغرفتها ، ومنها الى السلالم
في هذه الأثناء ، سأل عادل الحارس عنها .. فأجابه :
- اسمها رؤى .. وهي طيبة القلب ، وجميع اهالي القرية يحبونها..
عادل : فتاةٌ جميلةٌ كهذه ، لما لم تتزوّج حتى الآن ؟!
- كانت منشغلة بدراستها ، وتخرّجت حديثاً.. يمكنك الإستفادة من شهادتها ، لحلّ مشاكل أرضك الزراعيّة
- ربما افعل.. سأذهب الآن للإشراف على اعمال المزارعين
^^^
وقبل تشغيل سيارته ، رأى رؤى تتحدّث مع الحارس عند باب القصر ، رافضةً مساعدته بحمل الصبّار الثقيل !
فقال عادل في نفسه : ((يبدو انها عنيدةً للغاية !))
ثم رآها تتوقف بعد خطوات من بوّابة القصر ، لالتقاط انفاسها .. فاقترب منها بسيارته الجمس :
- آنسة رؤى !! تعالي أوصلك الى منزلك
فسألته بدهشة : أمازلت هنا ؟!
- هيا لا تعاندي ، فالزرّعة ثقيلةً عليك
- لا داعي لذلك ، فمنزلي في الشارع المجاور
عادل : هل انت خائفة مني ؟!
- لا أحب التحدّث مع الغرباء
- ومن قال انني غريب ! فأنا ولدّت هنا
رؤى : مستحيل !! أنا اعرف جميع سكّان القرية..
- اذاً إركبي ، لنتحدّث قليلاً
- قلت لك !! لا اثق بالغرباء
عادل : يا الهي ، كم انت عنيدة ! على الأقل دعيني أُوصل الصبّار الى بيتك
ففكّرت قليلاً ، قبل ان تشير امامها :
- حسناً .. ستجد بعد تلك الأشجار ، كوخاً صغيراً بمدخنةٍ حمراء .. ضعّ الزرّعة عند بابه
عادل : اذاً أعطني رقم جوالك ، لأخبرك بانجازي المهمّة
- لا داعي لذلك ، فقط صفّر من بعيد
- الصفير العادي ، ام صفير قريتنا المميز ؟
رؤى بدهشة : مستحيل ان يتعلّم احد لغة العصافير التي اشتهرنا بها؟!
فصفّر بفمه ، بمعنى : ((أخبرتك انني من اهالي القرية القدامى))
فردّت بالصفير :
((أحقاً انت من هنا ؟!))
فقال عادل : هل سنتابع حديثنا بالصفير ؟! .. كل ما هنالك ، انني بسن المراهقة انتقلت مع عائلتي الى المدينة .. امّا لغة العصافير ، فتعلّمتها بطفولتي في القرية.. هل اقتنعتي الآن ؟ هيا إركبي..
رؤى مقاطعة : يكفي ان توصل الزرّعة الى بيتي ، وشكراً لك مقدّماً
ووضعت الصبّار اسفل المقعد الأمامي ، وأغلقت الباب..
وقبل إكمال سيرها ، ناداها من سيارته :
- يعني تأمّنيني على رمز عائلتكم ، ولا تثقين الجلوس معي ؟!
فردّت عليه بالصفير :
((ضعها امام بيتي ، واذهب الى عملك))
فرد عليها بالصفير :
((يالك من عنيدة))
ثم راقبها من مرآة سيارته ، وهي تتابع السير وحدها !
^^^
بعد قليل ، سمعت صافرته من بعيد .. بمعنى إنجازه المهمّة
لكن قبل توجّهه الى مزرعته ، تذكّر ملفاً مهمّاً نسيّه في غرفته !
وفي طريق عودته للقصر .. شاهد رؤى تتعارك مع لصّ مُلثّم ، يحاول سرقة حقيبتها اليدويّة ! فأطلق عادل بوق سيارته ، غاضباً .. مما ارعب اللصّ الذي شدّ الحقيبة بقوة ، قبل هربه بدرّاجته الناريّة
وكان بإمكان عادل ملاحقته .. لكنه نزل من سيارته ، بعد سماعه صرخات رؤى وهي تضغط على قدمها !
- هل انت بخير ؟!
رؤى وهي تتألّم بشدّة : رماني اللعين بقوّة على الأرض ، وأظنني كسرت قدمي
وعندنا رأى تورّم قدمها ، حملها الى سيارته.. وهي لم تعترض ، بسبب اوجاعها الشديدة ..
وقبل تشغيل سيارته ، قالت وهي تبكي الماً :
- هل يمكنك إرجاع الكرسي للوراء ؟ اريد مدّ قدمي المُصابة
ودون تفكير ، إنحنى فوقها لإرجاع الكرسي.. ورغم وجعها ، الا انها صمتت من الموقف المُحرج ! وهو لاحظ خديّها المحمرّتيّن ، فعاد الى كرسيه وهو يدير المحرّك :
- سأوصلك للمشفى حالاً
^^^
بالطريق .. حاولت كتم صراخها ، رغم دموعها التي تسيل على وجهها وهي تمسك قدمها المتورّمة.. فسألها بقلق :
- هل كانت هناك اشياء مهمّة في الحقيبة ؟
وهي تأنّ من الألم : فقط جوّالي وبعض المال
- ماذا عن هويّتك ؟
- مازالت في جيبي ، لظني بتوظيفك حارسٍ جديد للقصر .. فأحضرتها معي لأقنعه بأنني ابنة المالك القديم ، للسماح لي بأخذ زرّعة جدتي
عادل : لا تقلقي ، سأبلّغ الشرطة عن السارق بعد خروجنا من المشفى
- لا داعي لذلك ، فلديّ جوالي القديم
- لابد ان يتعاقب ، كيّ لا يؤذي غيرك ..
فعادت للتأوّه ثانيةً !
عادل : اعرف انك تتألمين ، إستحملي قليلاً
^^^
في المشفى ، وبعد إجراء الأشعة .. كان هناك كسراً في قدمها ، وعلى الطبيب تقويمه قبل تجبيره
رؤى بخوف : اذاً أعطني مخدّراً !
الطبيب : لا يمكنني ذلك.. ثم لن يستغرق الأمر بضعة ثواني
عادل : رجاءً آنسة رؤى ، تحمّلي قليلاً
فقالت لعادل بخوف : هو يريد شدّ قدمي الملتويّة ، لإعادتها مكانها .. وهذا اكثر من قدرتي على التحمّل !
فقال الطبيب :
- لديّ عملية جراحيّة بعد قليل ، لهذا سأنهي الموضوع سريعاً.. لوّ سمحت يا سيد ، إجلس على هذا الكرسي
وفور جلوسه.. فاجأ الطبيب كلاهما ، بإجلاس رؤى في حضنه وهو يقول:
- إمسك زوجتك جيداً.. يجب ان لا تتحرّك اثناء تقويمي العظام ، كيّ لا تلتئم القدم بشكلٍ خاطئ
فلم يجد عادل نفسه الا وهو يُثبّت ذراعيّها بقوة ، اثناء رفع الطبيب قدمها ..
وقبل إستيعاب رؤى ما يحصل ! صرخت بعلوّ صوتها ، اثناء شدّه القدم للإسفل والأعلى ! قبل دخول الممرّض ، لمساعدته في تجبيرها..
بهذه اللحظات ، أُغميّ عليها من شدّة الألم..
الممرّض : يبدو ان المريضة فقدت وعيها ! سأحضر النشادر لإيقاظها
عادل : لا داعي لذلك .. إكملا التجبير ، وانا اوقظ زوجتي بنفسي
وبعد انتهائهما ، قال الطبيب :
- تحتاج شهراً لفكّ الجبيرة
وبعد خروجهما من الغرفة .. تأمّل عادل جمالها وهي بين ذراعيّه :
- لما اشعر وكأنك زوجتي بالفعل ؟!
وما ان فتحت عيناها ، حتى حاولت النهوض بارتباك .. لكنه أصرّ على حملها للسيارة ، لحين شرائه العكّاز من الصيدليّة
***
في السيارة..
عادل : هل خفّ وجعك ؟
رؤى : يعني ..اصبح الألم محمولاً
- اكيد جدتك قلقة عليك الآن .. هل تعيشين وحدك معها ؟
فتنهّدت بحزن : ماتت امي اثناء ولادتي ، وهي من تكفّلت بتربيّتي.. وقبل شهر توفيّ والدي ، واضّطرنا لبيع املاكه..
- واشتريتما المنزل الجديد ؟
- هو كوخ صغير مع ارضٍ زراعية .. وانا سأهتم بالخضراوات ، للصرف على جدتي
عادل : خذي جوالي ، وطمّأنيها عليك
وعندما فتحت جواله ، رأت صورته مع زوجته وابنته الصغيرة
- آه ! لم اكن اعرف انك متزوّج
فردّ بحزن : توفيّت زوجتي وابنتي بحادث سير السنة الماضية ، لهذا تركت المدينة وعدّت الى قريتي
رؤى : آسفة ، لم اكن اعرف
- أرأيتي ، لكلاً منّا احزانه
ثم اتصلت على جدتها ، لتخبرها بقدومها بعد قليل
^^^
عندما اوقف سيارته امام الصيدليّة ، سألها :
- هل تريدين شيئاً آخر غير العكّاز ؟ أقصد دواء لجدتك ؟
- كانت تريد دواء القلب ، لكن مالي سُرق مع الحقيبة.. اعدك بدفعهم قريباً
معاتباً : لا اريد سماع هذا الكلام ثانيةً
ودخل الصيدليّة .. ليخرج بعد قليل مع العكّاز وكيساً فيه دواء جدتها ، بالإضافة لشيءٍ بلاستيكيّ ..
رؤى : ما هذا ؟!
عادل : هذا لتغطية الجبيرة اثناء استحمامك
- جيد انك فكّرت بالموضوع
فسألها بمكر : وهل يمكن لجدتك مساعدتك بالإستحمام ؟
فردّت بحزم : لا تتجاوز حدودك ، يا سيد !!
- آسف ، كنت أفكّر بأنه سيكون اسهل لوّ كنت متزوجة من شابٍ قويّ ، ورياضي مثلي
معاتبة : لا داعي لهذا المزاح
- انا لا امزح.. وفي حال وافقتي على خطبتي ، ستعودان فوراً الى القصر..اظن جدتك مشتاقة لمنزل زوجها المرحوم
فتنهّدت رؤى بحزن : نعم كثيراً .. فمنذ إفلاس والدي ، وهي تبكي على خسارة المنزل الذي تزوّجت فيه ، فهو قصر العائلة
فردّ بابتسامة : أفهم من كلامك ، انك موافقة على اقتراحي
فأجابت بإحراج : بجميع الأحوال لن يكون سهلاً نسيان ما حصل بالمشفى ، ايها الإنتهازي
- انا !
رؤى : نعم ، استغلّيت عدم قدرتي على التحرّك
- عليك لوم الطبيب ، فهو من وضعك في حضني
- كان بإمكانك إخباره انني لست زوجتك
عادل بمكر : ربما ظنّ اننا متزوجيّن ، عندما شعر بخوفي عليك .. ثم من الغبي الذي سيرفض إحتضان ملاكٍ مثلك ؟!
فسكتت بخجل..
عادل : رجاءً إخبريني بموافقتك ، كيّ نذهب فوراً لشراء الخواتم
فسكتت قليلاً ، قبل ان تشير بيدها للأمام ..
- مالك ذلك محل هو صديق والدي ، وسيخصم لك السعر
فابتسم ، لفهمه بموافقتها..
^^^
ونزلت من السيارة ، وهي تتكئ على عكّازها..
وفي محل الذهب .. إتفقت معه على اختيار كلٍ منهما ، ثلاثة خواتم تعجبه.. ليقوم الآخر باختيار واحدٍ منها ، ليكون خاتم الزواج
وبعد شرائه الخواتم .. اوصلها الى بيتها
عادل : دعيني اساعدك
رؤى : عليّ التعوّد على العكّاز .. فقط إحمل زرّعة الصبّار للداخل ، اذا سمحت
- بل سأعيدها الى قصري ، وأزرعها قرب نافورة الحديقة .. فبالنهاية ستصبح رمز عائلتنا ايضاً
فالتزمت الصمت بخجل ..
ثم دخل منزلها .. لإخبار جدتها بالخطوبة ، ونيّته إعادتها الى قصر زوجها
ففرحت الجدة ، لإطمئنانها على مستقبل حفيدتها التي سيتم عرسها بنهاية الإسبوع
فقالت رؤى بارتباك : يعني بعد ثلاثة ايام ! على الأقل إنتظر شهراً ، لفكّ الجبيرة
فاقترب عادل منها ، هامساً : لا تقلقي ، سأحملك خلال رقصتنا الأولى بالعرس
وخلال تلك الأيام .. تحدّث عادل معها طوال الليل (بجوالها الجديد الذي اهداه لها) للتعرّف عليها
***
وبنهاية الإسبوع ، أُقيم عرسهما بحديقة القصر ..
وبعد انتهاء العرس وذهاب المعازيم .. وضع عكّازها بجانب السرير ، وحملها الى شرفة غرفتهما التي زرعها بالزهور :
- هذه بدل التي ذبلت ، لتذكّرني بالغزالة التي ارسلها القدر لي.. رغم انني لم اكن انوي الزواج بعد زوجتي المرحومة .. لكن بما انك رأيتني ذلك اليوم بروب الحمام ، فمن الأفضل إكمال الحكاية للنهاية
رؤى بارتباك : هذا ليس ذنبي ، فالخادمة لم تخبرني انك أخذت غرفتي
- وهاهي أصبحت غرفتنا الآن
- لما تصرّ على إحراجي ؟!
عادل : مازالت الليلة في بدايتها ، يا عروستي الجميلة
وأعادها الى الغرفة المضاءة بالشموع ..
***
وكانت هذه بداية علاقة قوية بينهما .. حيث عُرفا بالزوجيّن المُحبين اللذين تعاونا على الإهتمام بمشاكل المزارعين الذين رشّحوا عادل ليكون رئيس بلديّتهم ، بمشاركة زوجته المهندسة المسؤولة عن إيجاد الحلول لمشاكل اراضيهم الزراعيّة ، ليُشكلا اقوى ثنائي بالقرية الريفيّة .. واللذان اعتادا الإحتفال مع اولادهم بعيد زواجهما في حديقة القصر ، بجانب رمز العائلة المتوارث الذي أسمياه : صبّار المحبّة!