تأليف : امل شانوحة
العم القروي
في ذلك النهار ، بالقرية الزراعية .. تلقى صفوت (الرجل الخمسيني) إتصالاً من المحامي ، يخبره عن وفاة اخيه الأصغر وزوجته بحادث سير ! وأن عليه القدوم للمدينة ، لاستلام الميراث
ورغم قساوة الخبر ، الا ان الأخ الأكبر بدا متماسكاً بعد وصوله لمكتب المحامي الذي كان مُتعجباً من عدم حضوره مراسم دفن وعزاء أخيه الوحيد !
فرد الأخ الكبير بقسوة :
- توفيّ وانتهى الأمر ، إخبرني بورث العاقّ
فطلب المحامي من سكرتيرته ، إدخال الأمانة..
فإذّ بولديّن وفتاة يدخلون المكتب ، والحزن واضحاً على وجوههم الصغيرة!
ثم بدأ المحامي بالتعريف عنهم :
- هؤلاء هم ابناء اخيك الأصغر
فنظر اليهم العم ، بلؤم .. وهو يحاول كتمان مشاعره الحقيقيّة ، بعد رؤيتهم لأول مرة !
بينما اكمل المحامي كلامه :
- الإبن الأكبر 14 سنة .. سمّاه اخوك على إسم جده .. فتحي .. والإبن الأصغر عمره 8 سنوات .. وسمّاه على إسمك انت !! صفوت
فتفاجأ العم من هاذين الأسميّن ! بينما اكمل المحامي كلامه :
- اما الفتاة ، فعمرها 11 سنة .. وهي على إسم جدتها .. زينب
فقال العم ساخراً : وهل وافقت امهم .. ابنة الذوّات .. على هذه الأسامي البلديّة ؟!
فردّ فتحي (ابن اخيه الأكبر) :
- رجاءً عمي .. لا تخطئ بحق امي ، فهي الآن في ذمّة الله
فتجاهل العم كلامه ، مُحدّثاً المحامي :
- ولما جمعتني بهم ؟ الم تتصل بي لأجل الميراث ؟
المحامي : هؤلاء هم ثروّة اخيك .. فالبنك استولى على منزله وسيارته ، لدفع قروضه المتأخرة .. ولم يبقى من إثره ، سوى ابنائه الثلاثة
فنهض العم عن الكنبة ، وهو يقول بعصبية :
- ما هذه المهزلة ؟!! أأحضرتني من القرية ، للإعتناء بهؤلاء الأيتام !
المحامي : انت قلتها بنفسك .. ايتام ، وليس لديهم احدٌ سواك
العم بتهكّم : وماذا عن جدتهم الثريّة ؟
المحامي : اخوك تزوّج ، رغم معارضة حماته (تعيش ببلدٍ اوروبيّ) التي قاطعت ابنتها الوحيدة ، فور خطبتها من ريفي بسيط .. لهذا لم تحضر دفنها وعزائها !
وهنا قالت الصغيرة بخوف : عمي رجاءً !! إن رفضّت الإعتناء بنا ، سيفرّقونا بدور الأيتام .. وانا لا اريد الإبتعاد عن اخوايّ
العم بعصبية : مالا تعرفونه عن ابيكم .. انه باع نصيبه من ارض جدكم ، لعدوّ عائلتنا ، لتوفير مصاريف زواجه من امكم !! وبسببه ، مات ابي قهراً .. بينما أجبرت انا على مقاسمة بئرنا مع ذلك الحقير الذي نغّص حياتي لسنوات.. فلما عليّ دائماً تحمّل افعال والدكم الخرقاء ؟!!
ثم قال للمحامي :
- هؤلاء الأولاد لا يعنوا لي شيئاً !!
فردّ المحامي : لكن سيد صفوت ، انت لم تتزوّج مطلقاً .. وهؤلاء الأولاد سيكونوا..
العم مقاطعاً : لن يكونوا يوماً في مقام اولادي !! فوالدهم اللعين تزوّج من غير بيئتنا ، لذا لست مسؤولاً عن هؤلاء الغرباء !!
وقبل خروجه من المكتب ، امسك الصغير يده :
- دائماً ما سخر زملائي بالمدرسة من إسمي الذي يبدو اكبر من عمري ! لكني كنت اجيبهم بفخر ، انه اسم عمي .. رجاءً خذنا معك ، لرؤية المنزل الذي تربّى به والدنا
كلامه الرقيق ، حرّك مشاعر العم الذي تفحّص يد الصغير :
- يداك باردتان كوالدك ! كنت دائماً احرص على تغطيته في الليالي الباردة ، خوفاً من اصابته بالحمى .. فهو كان هزيلاً مثلك
صفوت الصغير : اذاً كنت تحب ابي !
فسكت العم بامتعاض ، لتقول الفتاة :
- هل مازلت تحتفظ بزيّ الضابط الذي اشتريته لوالدي بعيد ميلاده العاشر ، من مصروفك الخاص ؟
العم بدهشة : كيف عرفتي بتلك الهدية ، يا زينب ؟!
فأجابته بابتسامة : أخبرنا والدنا الكثير عنك
صفوت الصغير بحماس : وأخبرنا كيف قتلت الذئب الذي سرق دجاجاتكم!!
فتحي (الإبن الكبير) : وأخبرنا كيف اهتتمت به ، بعد وفاة امكما وهو طفلٌ صغير ..وكيف ضُربت من جدي بدلاً عنه ، لتحمّلك اخطائه المتهوّرة بعمر المراهقة
زينب : وكيف اطفأت نار العشب التي اولعها ابي بمفرقعاته ، والتي كادت تُشعل المزرعة بأكملها .. لولا بطولتك بإطفائها بيديك !
وعاد الصغير لمسك يد عمه المشوّهة :
- هل مازالت حروق يدك تؤلمك ، عمي ؟!
وهنا نظر العم للمحامي الذي كان يشير برأسه بعدم التخلّي عنهم ، ليعود وينظر للأولاد وهو يقول :
- أظني بحاجة لعمّال في ارضي
فقفزوا فرحاً بعد علمهم ببقائهم معاً ، برعاية عمهم الذي تضاربت المشاعر داخله : بين رغبته الإهتمام بهم ، وبين قهره من زواج اخيه الخاطئ الذي دفع ثمنه غالياً !
***
في قطار العودة للقرية.. جلس الأولاد الثلاثة بأدب دون التفوّه بكلمةٍ واحدة ، وهم ينظرون للأراضي الزراعية بذهول !
ليفاجئهم عمهم بشراء بعض الحلوى من بائعٍ يتجوّل بين الركّاب ! فأكلوها بنهم .. فعلم بجوعهم ، لكنه التزم الصمت
***
عندما وصلوا لمنزله مساءً ، اخذوا يتأمّلونه باستغراب !
فقال العم :
- المنازل بالقرية مصنوعة من الطين والقشّ ، وليس الإسمنت كما في شقتكم بالمدينة.. لكنه دافىء شتاءً.. والآن ادخلوا تلك الغرفة ، ستجدون فراشاً كبيراً على الأرض .. ستتقاسموه بينكم ، فهو مكان نومكم
فتحي : حسناً ، سنغيّر ملابسنا اولاً
وأخذ اخوته الصغار ، وهو يجرّ حقيبة ملابسهم الى غرفتهم
^^^
بعد قليل .. دخل العم ، ليراهم مستلقيين بالفراش :
- ماذا تفعلون ؟!
فتحي : أحاول تنويم اخوتي ، كما طلبت
العم : لن تناموا وانتم جوعى .. هيا للعشاء !!
فنهضوا سعداء ، لأنهم كانوا يتضوّرون جوعاً .. لكنهم خافوا سؤاله عن الطعام
وجلسوا بجانب عمهم وهم يتناولون الفول والخبز البلدي ، بعد افتراشهم الأرض
لينتبه العم على ارتباك الصغير ! فسأله :
- مابك لا تهدأ يا ولد ؟!
فردّ أخوه الكبير : رجاءً لا تغضب منه ، فهو متعوّد على الأكل على المائدة .. لكن سيتعوّد مع الوقت
فسكت العم قليلاً ، قبل ان يقول :
- سأطلب من الخيّاط القدوم الى هنا غداً ، لأخذ مقاساتكم
زينب : نحن لدينا ملابس ، يا عمي !
العم بحزم : ملابس المدينة لا تنفع في الأرض الموحلة ، لأنكم ستعملون بجهد !! فالحياة معي ، لن تكون بالمجّان
الصغير : وماذا عن المدرسة ؟
فأشار اخوه الكبير (بأصبعه على فمه) بأن يصمت .. لكن زينب تنهّدت بحزن :
- كنت بارعة بالدراسة
العم : نحن مازلنا بالعطلة الصيفيّة
زينب بارتياح : أتقصد انك ستسجّلنا في المدارس ؟!
العم : حسب جهدكم بالزريبة والأرض طوال الصيف
الأخ الكبير بقلق : وهل هناك مدارس بالقرية ؟
العم : مدرسةٌ واحدة لجميع المراحل ، لكن شهادتها معترفٌ بها في الدولة
زينب : وهل يدرسون الإنجليزية ؟
العم : لا ، يركّزون على العربي والدين والحساب
فشعر الأخوان الكبار بالقلق ، لعدم استفادتهم من شهاداتهم لاحقاً .. بينما كان الصغير منشغلاً بانهاء صحنه ..
العم : عليكم النوم باكراً .. فغداً فجراً ، تبدأون بأعمالكم الروتينية .. انا ذاهبٌ الآن عند جارتي ، فهي لديها اولاد بمثل عمركم .. سأستلف منها ملابس تفيدكم بالعمل ، لحين انتهاء الخيّاط من ملابسكم الجديدة .. زينب !! إجلي صحون اخوتك ، قبل نومك .. وانت ايها الصغير !! اياك تلويث الفراش ليلاً
الأخ الأكبر : لا تخف عمي ، سأوقظه آخر الليل لدخول الحمام
العم : جيد !! انتبه على اخوتك .. فلا طاقة لي بذلك
***
قبل شروق الشمس ، ايقظهم العم لصلاة الفجر (خلفه بالصالة)
ورغم نعاسهم الا انهم كانوا سعداء بوجودهم معه ، بعد فقدهم والديهما
وبعد انتهاء الصلاة ، لاحظ فتحي دموع عمه .. فسأله بقلق :
- هل هناك خطبٌ ما ؟!
- تذكّرت والدك ، عندما كنا نصلي خلف جدك .. فهو لم يكن اخي الصغير فحسب ، بل طفلي المشاغب .. لكنه بالنهاية باعني بثمنٍ بخس ، لأجل امرأة من المدينة
فتحي : اعتذر منك عن خطأ والدي ، لكنه كان مغرماً جداً بأمي
العم : هذا ليس ذنبك.. المهم ان تنتبه على اخوتك
وابتعد عنه ، قبل سقوط دمعته .. فعلم فتحي بأن عمه حنون ، لكنه مقهور على خسارة اخيه الأصغر !
***
وتوالت الأيام ، إهتم فيها الصغار بقطف القطن من مزرعة عمهم .. مع حلب البقر وإطعام الدجاج ، منذ شروق الشمس حتى غروبها .. وما ان يصلوا الى فراشهم ، حتى يناموا سريعاً من شدة تعبهم !
بينما يراقبهم العم من بعيد وهو يخفي شعوره بالفخر ، من نشاطهم واتقانهم للعمل بوقتٍ قصير !
***
وذات يوم ، رأى الصغير يلعب بالدرّاجة ..
العم بدهشة : من اين اتيت بها ؟!
صفوت الصغير بحماس : وجدتها بعليّة منزلك !!
- ومن سمح لك الصعود الى هناك ؟!
- كنت اشعر بالمللّ .. فلمن هذه الدرّاجة ؟!
فتنهّد بحزن : لوالدك عندما كان بمثل عمرك
- آه ! انت اشتريتها له من مصروفك ، بعد نجاحه بالمدرسة .. فهو أخبرني بأنها كانت اجمل هدية منك
فسكت العم بحزن ، وهو يتذكّر علاقته الجيدة بأخيه في الماضي .. بينما اكمل الصغير كلامه :
- هل تسمح لي بركوبها يومياً ؟
العم : فقط عصراً ، بعد انهاء عملك بالمزرعة
فأشار الصغير بأصبعه ، للنزول اليه .. فأخفض العم رأسه ، ليتفاجأ بتقبيل صفوت وجنته ! ثم قاد درّاجته بسرعة نحو الزريبة ، لإخبار اخويّه بشأن الهديّة
بينما صعد العم للعليّة التي لم يفتحها منذ رحيل اخيه للمدينة .. وأخرج اغراضه القديمة من حقيبةٍ مقفلة .. وما ان شاهد صورتهما معاً ، حتى انهار ببكاءٍ مرير .. وهو يتساءل بقهر :
((لما فعلت ذلك ؟ لما تخليّت عني ؟ فأنا اهتمّمت بك طوال حياتي ، ولم ابخل عليك بشيء.. وتركتني لأجل امرأة لا تناسب عائلتنا ، وأمتّ ابي قهراً .. سامحك الله يا اخي المشاغب !))
وصار يقبّل صورته بقهر ، دون انتباهه على فتحي (الأبن الكبير) الذي راقبه من باب العليّة (كان قدِمَ لشكره على درّاجة اخيه) .. والذي اكتفى بنزول الأدراج بهدوء ، دون ازعاج عمه الذي اكمل نهاره وهو سارح بذكريات الماضي
***
في اليوم التالي .. لم يخرج العم من غرفته طوال النهار ، على غير عادته!
فذهبت الصغيرة للإطمىنان عليه ، لتجد حرارته مرتفعة ! (يبدو ان بكائه البارحة على اخيه ، أمرض جسده)
فحاولت مناداة اخيها الأكبر ، لتراه مع الجار يعلّمه قيادة الجرّار الزراعيّ .. بينما اخيها الصغير منشغلاً بإطعام الدجاح !
فسارعت للمطبخ لإعداد الشوربة لعمها .. ثم جلست امامه ، لتغيير الضمادات الباردة ، على امل إخفاض حرارته
واثناء مساعدة عمها على شرب الشوربة ، سألها :
- من علمك اعداد هذه الشوربة اللذيذة ؟!
زينب : امي ، فقد كان طبخها لذيذٌ جداً
العم باستغراب : ظننتها تعتمد على الخدم !
زينب : امي كرهت حياتها بقصر جدتي التي أجبرتها على التعلّم بالمدراس الداخلية .. حتى أيام العطل ، إنشغلت عنها بتجارتها الخارجية ! فمعظم طفولتها قضتها مع مربيات مختلفات .. لهذا اقسمت على تربيتنا بنفسها .. وكانت اجمل اللحظات ، عندما كنت اساعدها بإعداد الحلوى
- وكيف كانت علاقتها بوالدك ؟
- كانا يحبان بعضهما جداً !!
- الم يتشاجرا يوماً ؟!
- لا اذكر ذلك .. فهي اعتنت بأبي جيداً ، وكانت اماً رائعة .. وكنا نسمع ضحكاتها مع والدي ، عندما يشربان القهوة وحدهما على الشرفة .. (ثم تنهّدت بحزن) كانت حياتنا سعيدة بالفعل ! كم اشتقت لوالدايّ
وارتمت بحضنه باكية .. ولم يستطع العم ابعادها ، واكتفى بتمسيد شعرها بحنان
***
بعد شهرين من عيشهم بالقرية .. تفاجأ الأولاد الثلاثة بوجود حقائب مدرسيّة فوق فراشهم ! فسارعوا لغرفة عمهم ، وهم يسألونه : ان كان سجلّهم بالمدرسة مع بداية السنة ؟
فأجاب العم بابتسامةٍ حنونة :
- الم يخبركم والدكم باهتمامي بدراسته ؟ رغم ان جدكم أجبرني على ترك الدراسة ، للعمل معه
زينب : بلى !! أخبرنا بعشقك للعلم .. شكراً عمي لاهتمامك بنا ، كما فعلت مع ابي سابقاً
العم : اذاً اذهبوا لكتابة اسمائكم على دفاتركم الجديدة ، فبعد يوم الغد سيبدأ عامكم الدراسيّ
فذهب الصغار سعداء لغرفتهما ، بينما سأله الكبير بقلق :
- وماذا بشأن الزريبة والأرض ؟
العم : استأجرت عامليّن لمساعدتي غداً ، بدلاً عنكم .. فقد كبرت على الإهتمام بالأعمال وحدي .. المهم ان تنتبه على دراسة اخوتك ، ومن يصاحبون .. ولا تقلق بشأن المصروف .. يكفيني حصولكم على نتائج جيدة بالمدرسة
فقبّل فتحي رأسه الشائب ، بينما اكتفى العم بابتسامة رضا
***
ومرّت الأيام ، تعمّقت فيها علاقة العم بالأولاد الثلاثة .. خصوصاً الصغير الذي صار ينام بجانبه ، للإستماع لقصصه قبل النوم (بنهاية الإسبوع الدراسيّ)
كما تعوّدوا على الذهاب معه للسوق والمطعم الشعبي ومنازل الجيران ، والإحتفال سوياً بالأعياد ... حتى بات اهالي القرية ينادونهم بأولاده !
وهو ايضاً شعر بذلك.. الى ان تفاجأ بمكالمة من المحامي يخبره : بأن جدتهم (والدة امهم) عادت من اوروبا .. وتريد نقلهم للمدينة ، للإهتمام بهم!
وجاء الخبر صادماً للعم ، وللأولاد الثلاثة الذين رفضوا ترك القرية بعد تعوّدهم على حياة الريف !
وترجّوا عمهم بعدم ارسالهم لجدتهم الأنانية التي لا يهمها سوى تجارتها الأوروبية ، وصديقاتها من الطبقة المخملية .. وعبّروا عن قلقهم من إهمالها ، كما فعلت بإبنتها الوحيدة
وبالفعل رفض العم ارسالهم .. لتسارع الجدة برفع قضية حضانة ، كونها الأقدر مادياً على الإهتمام بهم
***
ومرّت القضيّة ببطءٍ شديد ، الى ان طلب القاضي سماع رأيّ الأولاد الثلاثة ..
فبدأ الإبن الأكبر بالكلام :
- علّمني عمي ادارة الأعمال واسلوب التحدّث اللبق مع الكبار ، مع معاونتي بمسؤولية اخوتي .. فهو قوّم سلوكي ، ووجّهني لأكون رجلاً ناضجاً
القاضي : وماذا عنك ، ايتها الصغيرة ؟
فمسحت زينب دموعها : احببته كوالدي .. فهو حنونٌ جداً ، وإن كان لا يظهر ذلك .. لكني المحه كل ليلة ، وهو يضع الحلوى في حقائبنا المدرسية.. كما اخاط لي دميةً صوفيّة.. اما جدتي !! فكانت تكتفي بإرسال الألعاب بأعياد ميلادنا ، دون رؤيتنا او التحدّث معنا بالهاتف ! فهي لم تشعرنا بحنانها ، ولم تخبرنا القصص الجميلة ، كما فعل عمي بالليالي الباردة .. وأجمل شيء نفعله معه ، هو صلاتنا خلفه .. وتحفيظنا القرآن برمضان ..
وهنا اكمل الصغير الكلام : كما اخذنا للملاهي الجميلة !!
فوقفت الجدة وهي تقول بامتعاض :
- تلك ملاهي شعبيّة .. وإن بقيتم معي ، سآخذكم لملاهي ديزني الشهيرة
لكن الأولاد الثلاثة لم يشعروا بالحماس ، كما توقعت !
الصغير : بل أُفضّل المراجيح الخشبيّة مع عمي الذي يلاعبنا ، وهو يغني لنا الأغاني الشعبية
فردّت الجدة باشمئزاز :
- يبدو لديكم نفسيّة الفقراء ، كوالدكم الريفيّ .. والغبية ابنتي ، فضّلته عليّ ! رغم إنفاقي اموالاً كثيرة ، لتعليمها بأحسن المدارس
زينب مقاطعة بعصبية : تقصدين المدارس الداخلية !! حتى أيام العطل ، كنت ترسلينها للمعاهد والتخييم الكشفيّ .. انت لم تهتمي بمشاعرها مطلقاً!!
الجدة : كنت منشغلة بتجميع ثروّةٍ مالية لها
زينب : هي لم تكن تريد مالك ، بل حضنك وأمومتك ..
الأخ الأكبر : وهاهي امي ماتت الآن ، فما استفادت من ثروّتك يا جدتي ؟
زينب : ابي عوّضها عن حنانك .. فهي عاشت معه اجمل 15 سنة في حياتها
الجدة بحزم : ان لم تكفّوا عن تصرّفاتكم المشاغبة ، سأحرمكم الميراث !!
الأخ الكبير : لا حاجة لنا بمالك !! فعمي يوفّر لنا كل شيء
وهنا رنّ جوال الجدة :
- آسفة سيدي القاضي .. سأخرج من القاعة ، لردّ على عميلٍ مهم لشركتي
القاضي : يبدو ان عملك اهم من سماع حكمي النهائي بشأن حضانة احفادك ! لهذا لن اطيل عليك
وضرب بالمطرقة بقوة على طاولته ، وهو يقول :
- حكمت بالحضانة ... لعم الأولاد !!
فقفزوا فرحاً وهم يحتضنون عمهم بسعادة .. بينما خرجت الجدة غاضبة من المحكمة ، رغم اخفاء ارتياحها من مسؤوليتهم (فهي رفعت القضية ، لحماية سمعتها بين افراد مجتمعها المخمليّ) .. حيث سارعت تلك الليلة ، للعودة لأوروبا .. لمتابعة اعمالها التجارية ، دون اكتراثها لخسارة احفادها!
^^^
بينما عاد الأولاد الثلاثة مع عمهم ، لمنزل جدهم بالقرية .. مُفترشين الأرض ..وهم يتناولون عشاءً بسيطاً ، اثناء استماعهم لقصته الجديدة
والتي ما ان انتهت ، حتى فاجأته الصغيرة بسؤالها :
- عمي .. لما لم تتزوّج حتى اليوم ؟!
فأخبرهم أنه عشق ابنة الجيران التي فضّلت الزواج من رئيس بلدية القرية المجاورة الذي كان بعمر والدها .. مما كسر قلبه !
وعندما قال اسمها الكامل ، شهقت زينب بدهشة :
- زميلتي بالمدرسة من نفس العائلة ! أُيعقل ان حبيبتك هي عمتها؟!
لكن العم نبّهها بعدم فتح الموضوع مع زميلتها ، كون حبيبته السابقة متزوجة حالياً .. وسارع لغرفته ، قبل رؤيتهم دموعه .. لكن زينب كان لها رأياً آخر
***
بعد ايام .. تفاجأ العم بالمراهق فتحي يحفر وسط الأرض !
- لما تنبش ارضي ، يا ولد ؟!!
فأخبره انه اثناء وجودهم بالمدينة (لحضور قضيّة الحضانة) بحث بالإنترنت عن طريقة لإيجاد الآبار الخفيّة ، بواسطة انحناء العصا من الأرض الرطبة .. وانه متأكّد من وجود الماء بهذه البقعة من ارض عمه الذي طلب من خبير القرية الحفر هناك ..
وبالفعل ، لم ينتهي الصباح حتى خرج الماء بغزارة من الأرض ! مما جعل العم يحتضن فتحي بفخر ، لأن هذا البئر سيخلّصه من شريكه الشرير (الذي باع اخوه نصيبه له) ليفاجئه فتحي بقرارٍ آخرٍ حكيم :
- طالما اخبرتني ان قانون القرية يمنع بناء الأسوار بين الأراضي المجاورة ، فما رأيك بزراعتنا الصبّار الشائك على حدود ارضنا ؟ فهذا سيمنع ثور جارك الخسيس من اكل محصولنا
فعاد العم لاحتضانه من جديد ، وهو يقول بفخر :
- انت عبقريّ كأبيك !! سنفعل ذلك بعد انتهائنا من بئرنا الجديد .. صحيح ان والدك اوقعني بمشاكل مع ذلك الشرير ، لكن بذكائك حللت المشكلة التي اتعبتني لسنواتٍ طويلة .. (ثم نظر للسماء) .. دعنا نعود للمنزل ، فالشمس على وشك المغيب
^^^
بعد العشاء .. دخلت زينب الى غرفة عمها قبل نومه ، لإعطائه رسالةً ما.. وهي تقول بارتباك :
- اعرف انك طلبت مني عدم التدخّل بشؤونك العاطفية .. لكني اخبرت صديقتي بكل شيء .. والمفاجأة ان زوج حبيبتك مات قبل سنتين ، ولم تنجب منه ، كونه كبير بالعمر .. وعندما علمت بأني قريبتك ، ارسلت مع صديقتي هذه الرسالة
- أهذه الرسالة منها ؟!
- نعم ، من حبيبتك السابقة .. واحلف انني لم اقرأها
ثم خرجت من الغرفة ، ليقرأ الرسالة بيدين مرتجفتين .. مكتوباً فيها:
((اعرف انك غاضبٌ مني .. لكني لم أفضّل زوجي عليك ، لأنه ميسور حال .. فما لا تعرفه ، ان والدي كان مديناً له .. وكان سيخسر مزرعته .. فزوّجني غصباً عني ، لسداد ديّنه .. لكني ادّعيت امامك ، برغبتي بماله .. خوفاً ان تبيع نصيبك من الأرض ، لسداد دين ابي .. وبذلك تقهر والدك ، كما فعل اخوك .. لكني مازلت احبك ، فأنت حبي الأول والوحيد))
بعدها سمعت زينب (التي كانت تتنصّت على غرفة عمها) صوت بكائه المقهور .. فقالت بنفسها :
((والله لن اهدأ ، حتى أزوّجك حبيبتك .. فهذا واجبي ، لردّ جميلك عن اهتمامك بنا.. لكن عليّ العمل بسرّية))
***
وبالفعل ، اتفقت زينب مع صديقتها على توصيل الرسائل بين العاشقيّن .. الى ان اخبرت زينب تلك السيدة : بأن عمها يدعوها للإحتفال معهم ، بعيدٍ شعبيّ (دون علم عمها بالأمر) .. ليلتقي العاشقان اخيراً بعد فراق عشرين سنة .. حيث اعتزلا الجميع ، لتحدّث معاً اسفل شجرة التلّ .. بينما اهالي القرية يراقبونهما من بعيد ، لمعرفتهم بعشقهما القديم !
ولم ينتهي الحفل .. حتى اعلن العم امام الجميع ، خطبته لحبيبته القديمة ! لتعلو معها الزغاريد والتصفيق ، تهنئة للعريسيّن الجدد
***
وقد تعاهد فتحي لعمه بالإهتمام بإخوته ، ريثما ينتهي شهر عسله مع حبيبته التي سافر معها للمدينة ..
وبعد اسبوعين .. عاد العريسان بعد ان اخبرت السيدة الأولاد الثلاثة ، بأنها ستكون بمقام والدتهما .. وقد احبوها بالفعل ، لتعاملها اللطيف معهم.. خاصة بعد تحسّن طباع عمهم الذي زاد رفقاً وحناناً بهم !
***
وفي احدى الليالي ، إفترشوا الأرض امام المدفأة .. وبعد ساعة ، نام الأولاد بجانب العم وزوجته قبل انهاء قصته الجميلة ..
فنظر لزوجته وهو يقول بسعادة :
- اخي ترك لي ، اجمل ثروّة بحياتي.. رحمك الله ، يا اخي الحبيب
وحضن زوجته بحنان ، وهو ممتنٌّ لله على عائلته السعيدة!

هذه من القصص الفخورة بها ، اتمنى ان تعجبكم
ردحذفقصة حنونة وجميلة
ردحذفسلمت أناملك أستاذة أمل
تخيّلتها كفيلم درامي مصري .. سعيدة انها اعجبتك
حذفقصة جمعت بين دموع اليتيم وتسلط المجتمع واخلاص الحب
ردحذفقصه جميلة رغم الدموع اثناء القراة
ردحذفطالما أثّرت بك (كقارئ) فهذا يعني انني نجحت بتوصيل المشاعر الإنسانية (الموجودة بهذه القصة) اليكم .. وهذا بحدّ ذاته ، نجاح بالنسبة لي .. والحمد الله
حذفانتي مبدعه ذات مشاعر رقيقة طيبة
حذفهذا من ذوّقك ، استاذ عدنان
حذفرائعة يا أمل 💚
ردحذفسعيدة انها اعجبتك
حذف