الخميس، 7 أغسطس 2025

ثمار الكفاح

تأليف : امل شانوحة 

الموهبة المُرهقة


في تلك الليلة .. استلقت الصبيّة على سريرها ، وهي تفكّر بقصتها الأولى التي نالت استحسان عائلتها .. وأخذت تتخيّل مستقبلها الزاهر .. وكيف ستتلقّى الدعوات من دوّر النشر ، لتوزيع قصتها التي ستتحوّل حتماً لفيلمٍ سينمائيّ يحصد نجاحاً محلّياً وعالمياً .. وأجرت مع نفسها حواراتٍ وهميّة خلال مقابلاتها التلفازيّة المستقبليّة ..كما تصوّرت نفسها وهي تعتلي المسرح للحصول على جائزتها ، كأفضل كاتبة صاعدة بعالم النجوميّة .. حتى انه تُناهى الى سمعها تصفيق الجمهور وصفيرهم ، تشجيعاً على موهبتها الفريدة التي ستكون سبب ثرائها ، وملاحقة الجمهور لتوقيع كتابها!


ثم وقفت بجانب المرآة ، وهي تتساءل بحماسٍ وفضول :                    - تُرى بأيّ عمرٍ ستنشهر موهبتي الكتابيّة ؟!


لترى انعكاسها وقد تحوّل لأمرأة بسن الخمسينات ، وهي تجيبها على سؤالها :

- النجاح لا يأتي من اول محاولة ، بل هو طريقٌ طويل مليء بالإنتكاسات والعثرات المؤلمة .. اما جواب سؤالك : فستنجحين بعد ٣٠ سنة من الجهد المتواصل


فتراجعت الصبيّة العشرينيّة للوراء ، وهي تقول باشمئزاز :

- لحظة ! أهذه انا بالمستقبل ؟! لقد شاب شعري وزاد وزني ، وضاع شبابي وجمالي ! .. كنت أظن ان القرّاء بإمكانهم تميّز الموهبة الإستثنائيّة بسهولة ، وإن نجاحي بهذا المجال سيكون سريعاً .. لا !! لن أُضيّع عمري بموهبةٍ تحتاج وقتاً طويلاً ، حتى تُعطي ثمارها ! سأبحث عن وظيفةٍ اداريّة ، أسترزق منها


وتوجّهت نحو طاولتها ، لتمزيق قصّتها الأولى .. فنادتها نسختها من المرآة:

- توقفي !! انت لم تسأليني عن حصيلة تعبنا ؟

الصبيّة بتهكّم : الواضح لي ، انكِ ضيّعت صحتك 

النسخة الكبيرة بنبرةٍ حزينة : هذا صحيح

- حسناً إخبريني ، كم ولدٍ أنجبنا ؟

- لم أتزوّج في شبابي ، ولم أخلّف

- يا سلام ! هذا يكفيني للتوقف عن احلامي الزائفة


وأمسكت قصّتها الورقيّة لتمزيقها ، فعادت نسختها الكبيرة لإيقافها :

- لحظة !! انت لم تُكملي اسئلتك

الصبية : إذاً إخبريني عن راتبي الشهريّ ؟

- لم أكسب مالاً ، قبل بيع قصّتي الأولى

- لثلاثين سنة ؟!

النسخة الكبيرة : نعم

- وكل هذا الوقت كنت تأخذين مصروفك من اهلك ، كالصغار؟!

- هذا صحيح

الصبيّة بعصبيّة : إعطيني سبباً واحداً لعدم تمزيق قصّتي المنحوسة؟!!

- هذه قصتك الأولى ، لكنها ليست الأخيرة


الصبيّة باهتمام : وكم قصة ألّفت حتى وصلت لعمرك ؟

النسخة الكبيرة بفخر : ألف قصة 

الصبية بصدمة : ألف ! كنت أظن انني سأكون محظوظة إن وصلت لخمسين فقط ! كيف استطعت فعل ذلك ؟!

- كما يُبنى السور ، حجرةً كل يوم .. وانت صممّتي بأن لا يمرّ اسبوع دون قصةٍ جديدة ، وأحياناً تنشرين خلال ايامٍ فقط


الصبيّة : وهل الكتابة المتواصلة أرهقتني ؟

النسخة الكبيرة : الا يظهر ذلك جليّاً عليّ ؟

الصبية : لا انكر ان شكلك مُزري

- شكراً لذوّقك

- حسناً إخبريني ، ماذا حقّقت بنهاية كفاحي ؟

- صُرتِ من اهمّ كتّاب بلدك .. وتحوّلت قصصك لفيديوهات وأفلامٍ سينمائيّة.. وأجبرت الجميع على احترامك وتقدير جهودك ، خاصة انك تنوّعتِ بالمواضيع الأدبيّة .. ولم تلتزمي بنوعٍ واحد ، كما فعل أكثريّة الكتّاب .. وهذا هو سبب تميّزك عنهم


الصبيّة بفرح : أحقاً !

- لا اريد خداعك .. فهذا الشيء لم يحصل الا بعد سنوات من استهزاء اقرانك بك ، حتى أصبحتِ رمزاً للفتاة الفاشلة والعاطلة عن العمل .. لكن الأقارب والأصدقاء لم يكونوا يعرفون انك تبنين مستقبلك بصمت .. والذي احتاج الكثير من الصبر والإرهاق النفسي والجسدي بسبب السهر المتواصل ، مُتسبّباً ألم العينين والأرق الدائم والصداع المستمرّ

الصبيّة بضيق : أعطيني مُلخّص حياتي .. ماذا استفدّت بالنهاية ؟

النسخة الكبيرة : دعيني أريك منزلك المستقبليّ 


وشاهدت الصبيّة الغُرف الفخمة والحديقة الكبيرة في شريطٍ مصوّر ، كفيديو عُرض على المرآة .. فقالت بدهشة :

- أهذه فلّتي ؟!

النسخة الكبيرة : بل قصرك الذي تعيشين فيه مع زوجك وابنك

- لحظة ! الم تقولي انك لم تتزوجي مُطلقاً ؟!

- قلت لم أتزوّج في شبابي .. لكن بعد شهرتي ، وجدّتُ نصيبي 

الصبيّة : وكيف أنجبتي بعمر الخمسين ؟!

- هو ابن زوجي الذي ربّيته كأبني .. وطالما يحترمني كأمه ، فلا داعي لتجربة متاعب الحمل والولادة                                                                                                                                                             

الصبيّة : أتقصدين بعد المجهود الجبّار ، سأحصل على المال والعائلة ؟

النسخة الكبيرة : بالإضافة للشهرة والسمعة الطيبة .. كما سيتسجّل اسمك بالتاريخ كصاحبة الألف قصة قصيرة ، كل واحدة اجمل من الأخرى ..والتي ستُترجم لاحقاً لعدّة لغات .. ومنها ما تحوّل لفيلمٍ عالميّ .. عدا عن الكثير من الجوائز المحلّية والدوليّة .. حتى أُنظري بنفسك !!

الصبيّة بصدمة : أهذه جائزة الأوسكار ؟!

- نعم ، انت العربية الوحيدة التي حصلتِ عليها

- اذا كانت هذه حصيلة تعبي ، فلن أُمزّق قصتي 


النسخة الكبيرة : أحسنت !! الآن ضعيها بالدرج.. ثم أُخرجي دفتراً جديداً ، لكتابة قصتك الثانية

فتنهّدت الصبيّة : أقلتِ الف قصة ؟!

- مع ملايين المتابعين

الصبيّة بضيق : سيكون مشواراً طويلاً ! 

- لن انكر انه ِسيكون مُتعباً ومُحبطاً بكثير من الأحيان ..عدا انه مُرهق من كافة النواحي .. لكن ثماره ستدوم لآخر عمرك ، وستساعدين مادياً كل من حولك .. والأهم من ذلك ، ستنشهر اسم عائلتك للأبد

- اذاً الأمر يستحق المحاولة

النسخة الكبيرة : بالتأكيد !! هيا عودي الى طاولتك ، للتفكير بموضوع القصة التالية

الصبيّة : على الأقل لن اقلق من نقص الأفكار ، طالما بشّرتني بتحقيق هدفي بنهاية المطاف 


فودّعتها النسخة الكبيرة ، قبل اختفائها من المرآة .. لتبدأ الصبيّة في التفكير بموضوع قصتها الثانية وهي تشعر ببعض اليأس ، بعد الإيقان بزراعتها بذرةٍ تحتاج عمراً لكيّ تنمو وتُثمر ، مع حكمةٍ ووعيٍّ ينضجان بكل حكاية.. لكنها ايضاً شعرت بالراحة ، لامتلاكها القدرة الذهنيّة على المتابعة حتى النهاية .. 


وبدأت بقصتها التي استمرّت بكتابتها طوال الليل .. والتي لن تكون ليلتها الأخيرة ، فالسهر المُرهق سيصبح عادتها لثلاثين سنةٍ القادمة!

 

هناك 11 تعليقًا:

  1. هي قصة خياليّة بين التفائل والإحباط التي يمرّ بها ايّ كاتب !

    ردحذف
  2. i want to believe الحياه ليست دار عدل
    وفي نهاية كل نفق لا نجد سوى خازوقا جديدا لذا توقفت منذ زمن عن الوهم اما من اراد ان ينتظر حسنا من حقه ان يمني نفسه
    ولربما تأتي المنية بغتة ...فنساق من فرشا الى الاكفان

    ردحذف
    الردود
    1. (الحلم ببلاش) دعنا نتفاءل قليلاً .. وكما يقولون : ((أقداركم تؤخذ من أفواهكم)) .. من يدري ما يُخبئ لنا القدر !

      حذف
  3. انت تصفين نفسك بالقصة يا امل تروين ڨصتك

    ردحذف
    الردود
    1. نعم قصتي .. اضحك على نفسي عندما كنت متفائلة جداً مع ثاني قصة لي (آلام الحرب) عن الحرب الأهلية في لبنان .. حتى انني قابلت ممثليّن ومنتجيّن ومخرجة ، وكلي جرأة لتحويلها الى فيلم .. بل وكتبت خطاب الأوسكار بسنة 2005 .. فخطرت ببالي هذه القصة بين تفائل واستعجال الشباب ، وبين حكمة وتروي كبار السن

      حذف
  4. مؤسف و مؤلم حين الانسان يتأمل و يحبط هل فعلا قابلتي منتجين

    ردحذف
    الردود
    1. نعم ، وبعد ان عرفوا ان لدي القليل من القصص ، الغوا المقابلة .. المهم كان درساً مهماً بالحياة

      حذف
  5. امل ، انا اشعر ان هناك رابط بيني و بينك لا اعلم ماهو تحديدا لكن ماتكتبينه يهيج مشاعر بداخلي , انا فتاة عشرينية ابحث عن الايمان وارغب ان اصبح كاتبة لكنني عالقة في وظيفتي و مبتعده عن قلمي.. اشعر انني اود التحدث اليكِ.

    ردحذف
    الردود
    1. هذا إيميل المدونة : amal_shanouhawriter@hotmail.com
      من الآن اخبرك انه مشوار طويل ومرهق .. لكن ان كنت تحبين موهبتك ، فابدأي بالكتابة قريباً .. بالتوفيق لك

      حذف
  6. لكنك تكتبين قصص قصيرة و ليس طويلة فلم افهم كيف كان للمنتجين تحويلها الى فلم و بخصوص الخيبة التي قلت لك عنها و الله كما بقال باللبناني يا امل انا اؤمن بهذا المثل اللي ما الو حظ لا يتعب و لا يشقى و هذا ينطبق علي لا اعلم لما الله سبحانه يعطي حظ و و يفتح الطريق لأشخاص و لأشخاص لا احيانا و استغفر الله لكني اشكك بعدله و الله يغفر لي على هذا التفكير

    ردحذف
    الردود
    1. انا بدأت الكتابة بعام 1997 ، والى عام 2014 كنت اكتب القصص الطويلة .. وألّفت بحدود 25 قصة ، جميعها تزيد عن مئة صفحة ، ومنها من وصل 700 .. لكن بعام 2015 تعرّفت على موقع كابوس ، ومن وقتها تحوّلت للقصص القصيرة

      وانا اؤمن بمقولة : لكل مجتدٍ نصيب .. والله لن يضيّع تعب عباده ومجهوداتهم ، برحمته وعدله .. ثقي بالله ، فهو رحيم بعباده .. تحياتي لك

      حذف