الخميس، 6 ديسمبر 2018

اولاد الشوارع

تأليف : امل شانوحة


 
سنُغيّر مصيرنا بأيدينا !!

بين يومٍ وليلة أصبح جاكي (13 سنة) ابن شوارع .. فأمه توفيت منذ سنة بفقر الدم .. ووالده المُدمن باع كوخهم الصغير لشراء المخدرات , وعلم بالأمر بعد عودته من المدرسة ليتفاجأ بصاحب المنزل الجديد وقد رمى بأغراضه خارجاً ! فسأله بقلق عن والده ..فأجابه : بأنه ذهب الى الجحيم 

وظلّ جاكي يبحث عن والده لأيام , دون ان يجده .. فبعضهم أخبره : بأنه مات بجرعةٍ زائدة , والبلدية أزالت جثته من الشارع ..والبعض الآخر قال : بأنه شاهده يترنّح قرب النهر , وربما وقع فيه وجرفه التيّار الى البحر .. 

في جميع الأحوال بات جاكي بلا مأوى , يبيت في الشوارع بحثاً عن لقمة العيش .. وبعد تخلّيه عن حلم الدراسة , بحث عن العمل في الكثير من محلاّت قريته الفقيرة .. لكنهم رفضوه حين طلب السماح له بالمبيت في محلّهم ليلاً , خوفاً على بضائعهم من السرقة.. 
وظلّ على هذه الحالة لأسابيع , يأكل بقايا الطعام المرمية في حاويات الزبالة كالقطط والكلاب ! 

حتى أتت ليلةٌ باردة من فصل الشتاء بالهند , كان فيها جاكي يرتجف برداً بين الحاويات بحثاً عن شيءٍ يأكله .. وإذّ بحافلةٍ صغيرة بنوافذٍ سوداء تتوقف بجانبه , ليقول له السائق باشمئزاز :
- يا ولد !! كيف تأكل من الزبالة المُبلّلة بالمطر ؟!
- لأنني جائع ولا أملك المال
- واين اهلك ؟
فأجاب جاكي بحزنٍ وانكسار : أنا يتيم 

وجاءت ردّة فعل السائق مُفاجئة ! حين قال بنبرة المُنتصر , مُبتسماً ابتسامةٍ خبيثة : 
- ممتاز !! اذاً أصعد الى الحافلة 
الولد بخوف : هل انت من رجال الحكومة ؟!
- لا تخفّ , لن أسّجنك .. بل سآخذك الى قصرٍ فخم لتتناول أشهى المأكولات ..
الولد بتردّد : لكني ..
السائق بنبرةٍ آمرة : هيا إصعد وانضمّ لأصدقائك .. اساساً مالذي لديك لتخسره ؟

وتفاجأ جاكي حين رأى الحافلة مليئة بأطفال الشوارع ! بملابسهم الرثّة ووجوههم الشاحبة من أثر الجوع والمرض 

والصدمة الأكبر !! حين أوصلهم السائق الى قصرٍ متواجد بأطراف المدينة , بدى من حديقته المُهملة انه مهجور ! حيث نمَت الأعشاب البريّة في كل مكان , وكان مسبحها الصغير بحاجة الى ترميم .. وفي زاويته بئرٌ قديم مُغطّى بلوحٍ من القصدير الصدئ !
لكنه كان مقبولاً من الداخل , رغم ان صالته الكبيرة خلَت من الأثاث !

وهناك استقبلهم رجلٌ أربعيني قام بتفحّصهم بنظراته , بعد ان جعلهم السائق يصطفّون بجانب بعضهم في طابور .. 
من بعدها قال للسائق :
- 12طفل .. الدفعة الأولى لا بأس بها ! أحسنت !!
السائق بفخر : وجدتهم مُجتمعين كالذباب امام محلّ يقدّم الحلوى المجانية للمارّة بمناسبة افتتاحه ..اما هذا الولد فكان يأكل من حاوية الزبالة , وهو أكبرهم كما تلاحظ 
فاقترب منه الرجل وسأله :
- ما اسمك ؟
الولد بقلق : جاكي 
- وهل انت يتيم ام لقيط ؟
- لا يتيم , فوالدتي ماتت منذ فترة .. وابي لا أعرف اين هو ! لأنه مدمن مخدرات
- اذاً هو انسانٌ ميت بجميع الأحوال , فلا تفكّر به كثيراً 

ثم نادى شخصين آخرين لأخذ الأطفال الى غرفة تبديل الملابس , بعد إجبارهم على الإستحمام .. ثم قُدّم لهم طعامٌ لم يتذوقوا مثله من قبل , حتى ان بعضهم تعرّف على مذاق الدجاج لأول مرة في حياته !
ومن بعدها أُدخلوا الى غرفةٍ كبيرة بالطابق العلوي : بها عدّة أسرّة فوق بعضها البعض .. ليُسرع كل واحدٍ منهم باختيار سريره بحماسٍ وسعادة , حيث ان معظمهم تعوّد على النوم على أرصفة الشوارع الباردة .. وناموا على الفور من شدّة التعب الذي عانوه طوال النهار
***

قبيل فجر تلك الليلة .. شيئاً ما أيقظ جاكي من نومه , فنزل الى الأسفل ليقف قرب غرفة المكتب المُضاءة .. وهنلك سمع قائدهم وهو يخطّط مع شركائه على طريقة تقسيم الأولاد .. قائلاً :
- انت يا خان , ستُدرّب البنات الصغيرات على الرقص لكيّ..
خان مقاطعاً : دائماً تسلّمني هذه المهمّة , اريد شيئاً آخر
فقال صديقه ساخراً : انت شاذّ , والرقص سهلٌ عليك
خان بعصبية : وما ذنبي ان كان قائدنا القديم إختارني دميته بعد إختطافي من الشارع ؟!!

القائد بحزم : توقفا عن الشجار !! جميعنا تعرّضنا للقساوة في طفولتنا المُشرّدة , فلا تنكأوا جراح الماضي .. ودعوني أُكمل كلامي .. كما قلت سابقاً , خان سيُعلّم البنات الرقص لنستخدمهنّ بعد بلوغهنّ في بيوت الدعارة , فالرقص يجذّب الزبائن .. وانت يا كاران !! عليك ان تختار من الصبية من يملُك صوتاً عذباً فالغناء ينفع في الشحاذة , وكذلك من لديه إعاقةٍ جسديّة .. اما الأولاد الوسيمين , فأنتم تعرفون مصيرهم

فسكت خان الشاذّ بامتعاضٍ وقهر ..ثم أكمل القائد أوامره :
- اما الأولاد المتمرّدين والخبثاء بالفطرة , سنعلّمهم السرقة .. وسأوُكلّ راجّ بهذه المهمّة 
راجّ : لا تقلق ايها القائد , فأنا دائماً أخترع طرقاً جديدة للسرقة
القائد : ولا اريد توصيتك , في حال إعتقلت الشرطة أحدهم..
فيُكمل راجّ كلامه : نتخلّى عنه فوراً 
السائق : اساساً لا خوف من ان يفتنوا علينا لأنهم لم يروا الطريق الى القصر , بعد ان طلبت مني تجليد نوافذ حافلتي بالأسود 

القائد : ممتاز !! .. ماذا بقيّ لديّنا ؟ .. آه نعم .. بما ان الأولاد يحتاجون دائماً الى قائدٍ في مثل عمرهم يلتجأون اليه , فسأدعّ الولد جاكي قائد المجموعة .. (ثم تفحّص قائمة اسماء أطفال الشوارع المُسجلّة عنده) .. أظنّنا إنتهينا الآن !! يمكنكم الذهاب الى غرفكم 
السائق : وماذا عني ؟  
القائد : انت أحضرتَ لنا عدداً لا بأس به من الأولاد لنبتدأ بهم مشروعنا , لكنهم بالتأكيد لا يكفوننا 
السائق : فهمت !! أعدك ان أجمع المزيد من أطفال الشوارع , فهذا القصر المهجور الذي وجدّته انت , يسعّ للمئات منهم ..
كاران : ولا أظنك ستتعب في إيجادهم , ففقراء الهند بالملايين
القائد : جيد , اذاً إتفقنا على كل شيء ..ألقاكم غداً مساءً  

فأسرع جاكي الى غرفة النوم المُشتركة وهو يترجفّ رعباً , بعد معرفته بوقوعه في فخّ عصابةٍ تنوي إستغلاله هو واصدقائه الجدّد بأسوء الطرق !
وظلّ يبكي في سريره ويندب حظّه السيء , الى ان أشرقت الشمس
*** 

ومع بداية اليوم الجديد , ابتدأ العذاب الحقيقي للأطفال .. فالتشرّد واليُتم والجوع سابقاً لم يكن صعباً امام ما يطلبونه منهم افراد العصابة الخمسة .. حيث كان عليهم تعلّم طرق الشحاذة والسرقة .. اما الفتيات الأربعة فقد بدأنّ بحماس دروس الرقص (في علّية القصر) دون ان يعرفنّ ما ينتظرهنّ في المستقبل !

امّا جاكي فكان يشعر بثقل مسؤوليته تجاه الصغار والذي انحصر دوره في مراقبة الأطفال من بعيد , وإعادتهم بنهاية اليوم الى القصر , وأخذ الأموال التي جمعوها لتسليمها لقائد العصابة ..
*** 

وظلّ الأطفال على هذه الحالة لشهورٍ طويلة , تمّ القبض فيها على ثلاثة منهم بعد أن مسكتهم الشرطة بالجرم المشهود وهم يسرقون إحدى المحال التجارية , ليتمّ إيداعهم في سجن الأحداث .. وقد صبّ القائد غضبه على جاكي الذي كانت مهمّته مراقبة الشارع اثناء قيامهم بالسرقات..
وظلّ جاكي طوال الثلاثة ايام التي حُبس فيها بقبو القصر المُعتمّ يُفكّر بطريقة يُخلّصّ بها أصدقائه من هذا الكابوس المرعب
***  

ومرّت السنوات دون أيّ تغير في مصيرهم المجهول ! 
وفي ظهر إحدى الأيام .. عاد جاكي الى القصر بعد حصوله على رخصة القيادة , بعد بلوغه سن 18 .. ورغم سعادته بتسلّمه حافلة العصابة , الا ان أحلامه بالترفيه عن رفقائه تبدّدت , بعد توكيله بمهامّ السائق (الذي مات قبل شهر بجرعة مخدراتٍ زائدة) والذي بسببه تزايد أعداد الأولاد في القصر الى 50 طفلاً : ثلاثة منهم إختطفهم من ذويّهم اثناء خروجهم من المدرسة !
*** 

ونفّذ جاكي مهمّته الأولى بعد مروره مساءً بطفلين نائمين على الرصيف , فأغراهما بلوحيّ شوكولا لركوب حافلته
ورغم سهولة جمع المشرّدين الأطفال من شوارع الهند الفقيرة , الا ان جاكي كان يشعر بتأنيب الضمير وهو يُوصل الطفلين الى القصر الذي يعلم بأنهما سيعيشان فيه اسوء كابوسٍ في حياتهما , لإنضمامها لعصابةٍ تميّزت بقساوتها وعقاباتها المتكرّرة دون مراعاة سنّهم الصغيرة !

لكنه ايضاً لا ينكر فرحته بحصوله على اول مكافأة مالية في حياته بعد إتمام مهمّته الأولى , والتي كانت كافية لإحضار الحلوى لأصدقائه الذين يتطلّعون اليه كأخٍ حنون , بعكس بقيّة افراد العصابة 
***  

وبعد بلوغه سن العشرين , وفي إحدى الأيام .. شعر جاكي بحالة من الإرتباك والقلق تسري بين افراد العصابة الأربعة الكبار ! فتنصّت عليهم ليكتشف بأن هناك عصابةً أخرى (هي الأقدم في هذا المجال) تهدّدهم بالقضاء عليهم ان لم يسحبوا اطفالهم من الشارع الذي يسيطرون عليه منذ سنوات ! 

وقد سمع القائد (من خلف باب المكتب) وهو يقول لشركائه بقلق :
- أظنّ ان هذه الأسلحة والذخيرة تكفي لإبعادهم من هنا 
راجّ : وهل تظنهم سيقاتلوننا في القصر ؟
القائد : إحتمال وارد .. لذلك علينا التجهّز لكل شيء
خان : وماذا عن الأطفال ؟
القائد : أظنّ الملاعيين سيواجهونا صباحاً واولادنا في الشوارع .. لكن ان هاجمونا مساءً , فعليك ان تحبسهم في القبو لحين انتهاء الأزمة
فأومأ خان رأسه إيجاباً بقلقٍ شديد !
***

وكان يبدو الوضع في الأيام التالية كالهدوء الذي يسبق العاصفة ! 
وحصل ما كان يتوقعه القائد , حيث هاجمتهم العصابة الثانية صباحاً والقصر خاليٍ الا من رجاله الأربعة , بالإضافة الى جاكي الذي أسرع بالإختباء في حمام مكتب قائده الذي لم يلاحظ وجوده لانشغاله بتهريب النقود داخل حقيبته , تاركاً اصدقائه الثلاثة منهمكين بإطلاق النار على العصابة المتواجدة في حديقة القصر الذي فاق عددهم 12 رجلاً مسلحاً بأقوى الذخيرة ..

لكن قبل ان يهرب القائد بأمواله , أُصيب برصاصةٍ إخترقت زجاج مكتبه ليخرّ ميتاً على الفور , بينما كان جاكي يراقب (من فتحة قفل الحمام) كل ما يحصل بخوفٍ شديد !  
وفجأة !! توقف إطلاق النار .. وسمع جاكي صوت قائد العصابة الثانية , يقول من الخارج :
- أظنّنا قتلناهم جميعاً .. هيا اقتحموا القصر !! وآتوني بأموالهم 

وما ان سمع جاكي ذلك , حتى خرج مُسرعاً من الحمام لأخذ الحقيبة المليئة بالمال .. ثم إختبأ مجدّداً خلف ستار حوض الإستحمام 
وهناك سمعهم وهم يبحثون في المكتب وفي كل مكانٍ في القصر , لكنهم لم يجدوا مالاً او اطفالاً يضمّوهم الى عصابتهم 
وسمع قائدهم يقول لهم بغضب :
- وهل بحثتم في القبو والعليّة والحمامات !!
- نعم سيدي , في كل مكان .. آه لحظة ! لم نبحث في حمام المكتب

وارتجف جاكي من الخوف وهو يحتضن الحقيبة , مُدركاً بأنها نهايته ! 
لكن قبل ان يفتحوا باب الحمام , سمعوا صافرات سيارات الشرطة تقترب من المكان (بعد ان أبلغهم إحدى المارّة : بسماعه طلقات نار قرب القصر المهجور) ..فأسرع القائد مع عصابته بالهروب من القصر .. 

وسمع جاكي محرّكات سياراتهم تبتعد عن المكان .. والغريب ان رجال الشرطة لم تحضر للمكان رغم مرور ساعةٍ أخرى !
ومن بعدها استجمع قواه للخروج من الحمام , ليقف حائراً امام ما عليه فعله قبل عودة الأطفال الى القصر مساءً !
فترك حقيبة المال في حوض الإستحمام , بعد قفله لباب الحمام .. 

ثم قام بمجهودٍ كبير في حمل جثث رجال عصابته الأربعة ورميهم داخل البئر المهجور الذي أعاد إغلاقه بالغطاء القصديري , بعد ان غطّاه بأغصان الشجر اليابسة .. 

ومن بعدها قام بتنظيف الدماء عن أرضيّة الصالة والمكتب , وتكنيس زجاج النوافذ المُبعثرة كيّ لا يتأذّى الصغار .. 
وقد أتعبه ذلك كثيراً , لأن معظم النوافذ لم تسلم من الطلقات النارية العشوائية , فيما عدا الغرف الداخلية والمطبخ وغرفة نوم الأولاد في الطابق العلويّ ..  

وما ان تهالك على الكنبة ليرتاح من يومه العصيب , حتى وصل الأولاد الى القصر مع غروب الشمس , بعد ان جمعهم كبيرهم الذي بلغ قبل ايام عامه 13 .. والذي اقترب منه جاكي مُهنّئاً :
- أرى انك لم تنسى أحداً .. أحسنت !!
المراهق الصغير : نعم فمهمّتي تجميعهم , وكانت هذه مهمّتك قبل ان تصبح سائقنا
جاكي : لا لم أعد سائقكم , بل قائدكم الجديد
الجميع بدهشة : ماذا !

وأخبرهم بأن الرجال الأربعة سافروا بمهمّةٍ ضرورية الى الخارج , بعد ان أوكلوه بمهمّة الإنتباه عليهم.. 
أحدهم بسعادة : أتقصد ان القصر أصبح لنا وحدنا ؟! 
جاكي : نعم 
المراهق الصغير : أحقاً هذا ما حصل يا جاكي ! ام انه جرَت مشاجرة بينكم اثناء غيابنا ؟
جاكي وهو يُخفي قلقه : ولماذا تقول ذلك ؟ 
المراهق : لأني لاحظت بأن نوافذ الصالة بلا زجاج ! 
جاكي بارتياح : آه تقصد هذه .. لا ابداً .. لكن بعد ذهابكم حصلت هزّةً ارضيّة , أطاحت ببعضها 
المراهق : لكننا لم نشعر بشيء !
جاكي : هي هزّةٌ بسيطة حصلت حول هذه المنطقة فقط .. هذا ما قالته الإذاعة 
طفلة : وهل سيبقى قصرنا دون نوافذ ؟
جاكي : لا بأس , طالما الجوّ حارّ .. لكني أعدكم ان أصلحهم قريباً .. هيا لا تعبسوا هكذا , اساساً غرفة نومنا لم يُصيبها شيء والحمد الله

أحدهم : دعونا من هذا الكلام الآن , فأنا حقاً جائع 
جاكي : أظننا جميعاً جياع بعد هذا اليوم الطويل .. لكننا لن نتناول الخبز اليابس والحليب كما نفعل كل يوم , بل سأطلب من مطعم البيتزا ان يُوصل طلبية كبيرة الى هنا
فصرخ بعضهم بحماس : بيتزا !!!!
بينما تساءل أكثرهم : وما البيتزا ؟!
جاكي : انه طعامٌ لذيذ
المراهق الصغير بقلق : أخاف ان يعاقبك القائد حين يعلم بإسرافك في أمواله ؟
جاكي : لا تقلق , لن يعرف شيء

ونام الأطفال سعداء تلك الليلة بعد هذه الوجبة اللذيذة .. بينما ظلّ جاكي مستيقظاً في المكتب المُقفل لعدّ الأموال , وهو يُخطّط لمستقبل الأطفال الذين أصبحوا أمانةً في عنقه
*** 

وكان اول قرارٍ اتخذه في اليوم التالي : هو إخبار الإطفال بإيقافه للشحاذة وعمليات السرقة , لأنه سيُسجّلهم في المدارس الحكومية لإكمال دراستهم , مما آثار دهشتهم لتخلّيه عن مصدر عيشهم الرئيسي الذي أُجبروا على القيام به لسنواتٍ طويلة !  
فسأله أحدهم : وماذا نفعل اليوم ؟!
جاكي : إسمعوني جيداً .. أحتاج لبعض الوقت لتسجيل كل واحدٍ منكم في مدرسته الحكومية ..لكن عليّ اولاً القيام بمهمّةٍ مستعجلة  
***

وكانت مهمّته الأولى : إعادة الأولاد الثلاثة المختطفين الى مدارسهم , بعد نسيانهم لعناوين منازلهم خلال الأربعة سنوات التي قضوها في القصر.. 

ووصل جاكي الى المدرسة الأولى , قائلاً :
- جيد انكم مازلتم تحفظون اسماء مدارسكم .. والآن يا كابيل لنذهب الى مديرك .. أتمنى ان يكون مازال محتفظاً بسجلّك الذي فيه عنوان أهلك .. سنشتاق اليك يا صغيري 

فحضنه كابيل (12 سنة) وهو يبكي , وصديقاه يشعران بألم الفراق .. فقال لهم جاكي :
- هيا كفّكفّوا دموعكم !! وحاولوا ان تستفيدوا من تجربتكم القاسية لتطوير مستقبلكم .. وكما وعدتموني , لا تخبروا أحداً بشأن القصر كيّ لا تقبض الشرطة عليّ , ويرموا بأصدقائكم في دور الأيتام سيئة السمعة
فأومأ الأولاد الثلاثة رأسهم إيجاباً .. 
ونزل جاكي وكابيل من الحافلة متوجهان الى مدرسته ..

وقد أسرع مدراء المدارس الثلاثة بالإتصال بالأهالي الذين قدموا مُسرعين لاستلام اطفالهم الذين لم يروهم منذ سنوات ! 
بينما كان جاكي يراقب الوضع من بعيد , بعيونٍ دامعة ..وهو يقول:
- هنيئاً لكم .. على الأقل لديكم اهالي يشتاقون اليكم , بعكسنا نحن !
***

ومرّت الأيام .. تنقّل فيها جاكي بين المدارس الحكومية للبحث عن أماكنٍ شاغرة لإخوانه الصغار الذي كان عددهم 47 فتى وفتاة ! 
ولم يكن الأمر سهلاً .. لكنه استطاع بخلال شهرين تسجيلهم جميعاً , ليبدأوا التعلّم مع بداية السنة الدراسية , بعد ان اشترى لهم كل مستلزمات الدراسة ..وكانوا بنهاية النهار يعودون الى القصر ليذاكروا دروسهم .. وبعد العشاء ينامون وهم يحمدون الله على تسلّم جاكي القيادة .. دون ان يكتشفوا يوماً مكان الجثث , بعد ردمه للبئر وتسويته بالأرض .. 

كما قام جاكي في الأسابيع التالية بعدّة إصلاحاتٍ في القصر ليناسب اسلوب حياتهم الجديد 
***

وبعد مرور عدّة أشهر .. لاحظ جاكي بأن الأموال التي معه قلّت كثيراً , خاصة بعد توقف الأطفال عن العمل ..فكان لابد من إيجاد مصدر رزقٍ جديد ..
ومن حسن حظه ان وجد بقالةً صغيرة تُوفيّ صاحبها العجوز دون ان يترك ورثة .. وقد عُرضت بالمزاد العلني مع بضائعها , ليشتريها جاكي بما تبّقى معه من الثروة التي جمعتها العصابة من تعبهم طوال السنوات الماضية..
وقد أصرّ بعض الأولاد (الذين بلغوا سن المراهقة) على مساعدته في محلّه التجاري لعدم رغبتهم في إكمال الدراسة , والذين ساعدوه في ازدهار المحل .. 
***

وخلال السنوات العشر التالية , استطاع جاكي شراء المحلّات المجاورة لتتحوّل بقالته الى سوبر ماركت شاملة يتوافد عليها المتسوقون من سكّان القرى المجاورة ..ومع هذا المدخول الجيد إستطاع معظم الأطفال إكمال دراستهم الثانوية , وبعضهم تخرّج من الجامعات .. وأصبح منهم تجاراً وموظفيّ حكومة .. ورغم انتقال معظمهم الى منازلٍ أخرى : امّا بسبب زواجه او مكان عمله , الا ان جميعهم لم ينسوا فضل جاكي عليهم .. حيث اجتمعوا من جديد في حفل زفافه , الذي من بعدها إنتقل مع عروسته الى بيتهما جديد .. ليكون جاكي آخر من ترك القصر الذي فيه الكثير من ذكرياته السيئة 
***

بعد سنوات .. أمرت الحكومة بهدم القصر , دون ان يكتشفوا الجثث المدفونة هناك .. 
ووقف بعضاً من اولاد الشوارع (سابقاً) ليشاهدوا عملية الردم , وهم يستذكرون ما عاشوه في ذلك القصر من ايامٍ سيئة وأخرى جيدة .. وكلمات جاكي (الذي توفي منذ وقتٍ قصير بحادث سير) مازالت عالقة في رؤوسهم , حين قال لهم :
((لم يكن ذنبنا إن عِشنا طفولتنا كأولاد شوارع .. لكن بأيدينا تغير المستقبل للأفضل , بعد تسلّحنا بالعلم والعمل الشريف))

فهنيئاً لهم بأخيهم الكبير الذي أراهم الجانب المُشرق من الحياة الكئيبة التي عاشوها كأطفال شوارع !  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

التوأمتان المتعاكستان

تأليف : امل شانوحة  الطيّبة والشريرة دخلت السكرتيرة الى مكتب مديرها (جاك) لتجده يفكّر مهموماً :   - إن كنت ما تزال متعباً ، فعدّ الى قصرك ...