الجمعة، 16 نوفمبر 2018

العين الحسودة

تأليف : امل شانوحة

معاناة من ابتُليّ بهذه الموهبة المؤذية 

لم يعلم سمير بقدراته المدمّرة الا في السن التاسعة .. وكانت اول تجاربه مع صديقه في المدرسة الذي أجاب على معظم اسئلة الأستاذ التي طرحها على طلاّب الفصل .. 
فقال سمير في نفسه بامتعاض :
- ليتك تُكرمنا بسكوتك ايها المتذاكي

ليسقط الولد على الفور مغشيّاً عليه ! ويُنقل الى غرفة التمريض بالمدرسة التي بقيّ فيها الى نهاية الدوام ..
وظنّ سمير إن ما حصل كان مجرّد صدفة .. وشكر ربّه انه لم يسمعه أحد 
***

لكنه لم يدرك بأن عائلته لاحظت موهبته المشؤومة منذ صغره , بعد ان أخذه والده الى رحلة البرّ مع اصحابه في سن السابعة , حيث تسبّبت عينه الحارّة بقتل صقر صديقه الذي كان يصطاد الأرانب ببراعة .. فحمّد الأب ربّه بأن اصحابه لم يلاحظوا ذلك .. لكن من يومها بدأ يعامله بجفاء .. 

وفي أحد الأيام .. تجرّأ سمير وسأله :
- لما لا تحبني يا ابي كبقيّة أخوتي ؟!
- لأنك بذرةٍ شيطانية , تُدمّر كل شيء بعينك الحاقدة .. لذلك نتجنّب إخبارك بأمورنا الجيدة , ونخاف أخذك معنا الى المناسبات المهمّة ..وانا نادمٌ بالفعل لإنجابي ولدٌ مثلك 
قال ذلك بلؤمٍ شديد , وتركه مصدوماً من قساوته الغير مبرّرة !
***

ولأنه شعر بأنه منبوذ من عائلته , إزداد الحقد في قلبه .. وبدأ يستشعر شيئاً فشيئا بقواه الداخلية .. لكنه مع هذا , حرص ان لا يستخدمها في أذيّة الآخرين قدر الإمكان , فهي موهبة صعبٌ التحكّم بها .. 
***

لكنه فقد أعصابه بعد حصول اخته الصغرى على الكثير من الهدايا في عيد ميلادها , بينما لم يحصل هو الا على لعبةٍ واحدة من امه في عيد ميلاده الفائت ! 
لذلك نظر اليها من بعيد وهي تفتح ألعابها بحماس , قائلاً في نفسه بغضب:
- أتمنى ان تختنقي بإحدى القطع الصغيرة في لعبتك 

وبالكاد أدار ظهره , حتى سمعها تختنق ! وشاهد والديه وهما يحاولان جاهداً إخراج القطعة المحشورة في حلقها .. وتنفّسوا الصعداء بعد بصقها لها بصعوبة 
فقال سمير بنفسه بقلق :
((بدأ الأمر يخرج عن سيطرتي , يا الهي ما العمل ؟!))
وفضّل كتمان الموضوع كيّ لا يعاقبه والده ..
***

وحين وصوله للمرحلة الجامعية , كان قرأ الكثير عن العين الحاسدة وتجارب الناس التي تدمّرت حياتهم بعد إصابتهم بها ..وعلِمَ انه لا يمكنه التحكّم بذلك الشعاع الملعون الذي يخرج من عينه ويحطّم كل شيءٍ جميلٍ يراه .. لذلك حاول إخفاء ذلك عن أصدقائه خوفاً من خسارتهم , وصار قليل الكلام , حتى وصفوه بالشاب الخجول
***

الا ان الأمور أخذت منحنى سلبي بعد انضمام شابٍ مُترف لمجموعتهم .. حيث كان وليد شاباً مدللاً يحب إبداء التعليقات بنقدٍ جارح , وجّهها تحديداً لشخصية سمير الضعيفة الذي تفنّن بإحراجه امام بقيّة رفاقه كنوع من دعابته الساخرة ..
***

وفي إحدى الأيام .. ضاق سمير ذرعاً بانتقاداته اللاذعة , خاصة بعد ان قال له امام الجميع :
وليد بسخرية : هاى سمير !! كم شخص حضر حفلة عيد ميلادك البارحة ؟ ..أقصد بخلاف امك .. (وضحكوا جميعاً , ثم أردف قائلاً) .. برأيّ لا تتكلّف ثانيةً بطبع بطاقات الدعوه , فلا أحد سيذهب لحفلة لا يقدّم فيها سوى الحلوى الرخيصة .. 
سمير بغضب : ومن قال لك انّي فقير ؟
وليد بازدراء : سيارتك يا رجل تكاد تتهالك عند سيرها , اما انا .. فسيارتي موديل هذه السنة , والتي ستظلّ تحلم بركوبها يوماً من الأيام 

وهنا أحسّ سمير بنار تتأججّ داخل عينيه , فقال بغضب :
- أتمنى ان تتحطّم سيارتك الفارهة كقطع خردة !!
ثم ذهب , وسط دهشة الجميع !
***

في اليوم التالي .. وفور دخول سمير قاعة الجامعة , إنتبه الى نظرات اصدقائه الخائفة الذين كانوا يحاولون تجنّبه كلما اقترب منهم !
الى ان تجرّأ أحدهم قائلاً :
- سمير .. انت شخصٌ جيد , لكننا نتمنى ان تجد مجموعة أخرى تدرس معها
سمير بدهشة : ولماذا ؟!
- وليد الآن في المستشفى وحالته صعبة بعد ان ارتطمت سيارته بعامود الكهرباء
وقال الآخر : ماذا فعلت به يا رجل ؟ لقد تناثرت سيارته في كل مكان ! فهل عينك حارّة ؟
سمير بارتباك : لا طبعاً .. ما ذنبي ان كان الأحمق لا يجيد القيادة !
ورغم محاولته إنكار التهمة عنه , لكنهم فضّلوا الإبتعاد عنه ! 
***

ثم بدأ صيته السيء ينتشر بين الطلاب الذي حاولوا تجنّب حتى النظر اليه خوفاً من عينه الحارقة , ممّا أحزن سمير كثيراً والذي أصبح وحيداً في الجامعة 
حيث قال في نفسه بحزن , وهو يخفي دموعه : ((وحيدٌ في المنزل ووحيدٌ في الجامعة .. ما ذنبي انني خُلقت بعينٍ شيطانية ؟!))
***

وبعد شهرين من وحدته الخانقة .. وبينما كان يجلس وحيداً في ساحة الجامعة , إقترب منه شاب وسأله :
- هل انت سمير المشهور ؟
سمير باستغراب : المشهور ؟!
الشاب : أقصد الذي عينه تصيب ؟
فسكت سمير بامتعاض .. لكن الشاب لم يبتعد عنه , بل جلس بجانبه وهو يقول : 
- لا تخف , انا مثلك تماماً
سمير بدهشة : أحقاً ! هل عينك تصيب ايضاً ؟
الشاب بسعادة : طبعاً !! ولي الفخر بذلك

سمير باستهجان : وعلامَ تفتخر ؟! على أذيّة من تحب
الشاب : انا لا أؤذي الاّ من أكرهه .. او على الأقل , من لا يهمّني أمره .. فمثلاً .. إنظر الى تلك الفتاة .. الا تبدو مغرورة وهي تمشي بذلك الكعب العالي ؟ .. سأريك الآن قدراتي ..
ثم ركّز الشاب عينه على قدميها , قائلاً : 
- واو !!! ما هذا الحذاء الجميل ؟

وإذّ بكعب حذائها ينكسر على الفور وتسقط على الأرض ! فتُسرع صديقتها لمساعدتها على الوقوف .. بينما ضحك الشاب بصوتٍ عالي .. 
وهنا سمع سمير , الفتاة تقول لصديقتها بعصبية :
- الآن عرفت لما انكسر حذائي , انها عين سمير اللعينة !!
فقال لها سمير بصوتٍ عالي : لا ليس انا !! صدّقاً
لكنهما اسرعا بالإبتعاد عنه .. 

فقال سمير للشاب غاضباً :
- ارأيت ماذا فعلت !! لقد ظنّت بأنه انا !
الشاب بلا مبالاة : لا بأس .. فقريباً سيتعرّفون على قدراتي , وأنافسك على اللقب
سمير بغضب : انا لا اريد هذا اللقب من الأساس !! بل أبحث دائماً عن وسيلة تخلّصني من هذه الموهبة الملعونة
- ولما لا تستفيد منها , كما أفعل انا ؟ 
- وكيف ؟!
الشاب : كل من يغضبني , أعاقبه على الفور 
- الا يؤنّبك ضميرك ؟!
- ابداً , فهم استحقوا ذلك .. على فكرة , كنت معروفاً جداً في جامعتي والكلّ يهابني هناك , ويحسب لي ألف حساب

سمير : وهل انتقلت حديثاً الى هنا ؟
- نعم , قبل يومين .. وإسمي جلال
- وبرأيك يا جلال , الا يوجد حلّ للتخفيف من قوّة الشعاع ..
جلال مقاطعاً : بلى .. ان تُعطي ماء وضوئك للمحسود , فيتعالج على الفور .. ستجدها مذكورة بالأحاديث النبوية 
- وهل جرّبتها ؟
جلال : ليس بإرادتي .. ففي يوم تفاجأت بأهل العريس يطلبون ماء وضوئي , بعد ان قلت لأبنهم في يوم عرسه : انه يبدو نشيطاً كالحصان .. ويبدو انه نام في الصالة ليلة عرسه 
وضحك ساخراً من الموقف .. 
سمير مُستنكراً : هذا ليس مضحكاً بالمرّة , يا جلال !

وهنا مرّ أحد الأساتذة من امامهما , فسأله جلال : 
- لحظة ! هل هذا استاذك ؟ 
سمير : نعم , وهو لئيمٌ جداً معي
- اذاً سأنتقم لك
- لا توقف !!
وفجأة ! سقط الأستاذ ارضاً بعد ان إنكسرت رجله من دون سبب ..

ومن يومها حلّت اللعنة على سمير بعد ان كرهه الأساتذة ايضاً .. حتى أوشك على ترك تعليمه قبل سنة من تخرّجه , حيث كان الجميع يرفض إعطائه الملخّصات او إجابته عن أيّ سؤال يتعلّق بالمادة .. ولم يجد صديقاً سوى جلال الذي ايضاً ذاع صيته سريعاً بالجامعة , وأصبحا منبوذان من قِبَل الجميع .. 

الفرق الوحيد بينهما : ان جلال كان سعيداً بقدراته , بينما سمير يلعن موهبته التي أبعدته حتى عن إخوانه بعد ان لاحظوا مرض أطفالهم كلما زاروه.. 
لذلك قرّر السفر فور تخرّجه الى اوروبا , لعلّ الأجانب لا يصدّقون بهذه الأمور ..
***

وقبيل حفلة التخرّج , وفي القاعة التي يتدرّبون فيها ..قال جلال بصوتٍ عالي :
- هآ نحن أخيراً تخرّجنا , ولم يعدّ يهمّني لوّ احترقت الجامعة بمن فيها !!!

وإذّ بشرارة تخرج من مكبّر الصوت (الذي يُصدر منه موسيقى التخرّج)  لتشتعل الستارة التي بجانبه .. ولم يمضي ثوانيٍ , حتى وصل الحريق الى الكراسي المدهونة حديثاً ..وعلت صيحات الفزع بين المتخرّجين !!! 
وبالكاد استطاعوا كسر النافذة العلوية لإخراج الطالبات اولاً , ثم الشباب ..

وبعد خروجهم ..لاحظ سمير صديقه جلال واقعاً على الأرض بعد ان اختنق بالدخان .. فحاول إخراجه , لكنه لم يستطع سحبه لثقل وزنه .. وهنا صرخ أحدهم من خلف النافذة :
- سمير !! يبدو انه مات , أتركه وانقذ نفسك ..هيا أخرج فوراً!! 

وبالفعل تركه لإنقاذ نفسه .. لكن قبل خروجه , سقط جزءاً من الستارة المحترقة على وجهه .. ثم حلّ الظلام فجأة ! 
*** 

حين استفاق سمير في المستشفى , كانت الضمّادة حول عينيه ..لكنه سمع بوضوح بكاء افراد عائلته من حوله , وبعض اصدقائه القدامى .. حيث قال لهم الطبيب :
- أعتذر منكم , لم استطع إنقاذ نظره

وما ان سمع سمير ذلك , حتى أطلق ضحكةً مجلّجلة .. وسط دهشة الجميع ! قائلاً بارتياح , بصوتٍ متهدّج :
سمير : أشكرك يارب لأنك خلّصتني من عيني الحارّة !! هآ انا سأعود محبوباً لديكم , ولن تخافوا القرّب مني .. وستتركون أطفالكم يلعبون حولي ..وستحدّثوني عن أخباركم السعيدة , وتشاركوني أحلامكم المستقبلية ..وانت يا ابي !! لن تصفني بإبن الشيطان ثانيةً , وستعاملني كإبنك كما كنت تفعل بالماضي .. وأصدقائي لن يبتعدوا عنّي ..ولن أضّطر للعيش وحيداً في الغربة .. سأعيش معكم معزّزاً مُكرّماً , طوال حياتي .. اليس كذلك يا أحبّائي الأعزّاء ؟!!

فنظر الجميع لبعضهم بحسرة , وهم يشعرون بتأنيب الضمير لسوء معاملتهم له , بعد ان أحسّوا لأوّل مرة بمعاناته المريرة التي لم يشعر بها أحد طوال سنوات حياته ! 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

التوأمتان المتعاكستان

تأليف : امل شانوحة  الطيّبة والشريرة دخلت السكرتيرة الى مكتب مديرها (جاك) لتجده يفكّر مهموماً :   - إن كنت ما تزال متعباً ، فعدّ الى قصرك ...