الثلاثاء، 26 ديسمبر 2017

المُتهمة الصغيرة !

تأليف : امل شانوحة


 
ارجوك إنقذني من هؤلاء الوحوش  

وصل جاك (الطبيب النفسي) الى العنوان المحدّد الذي أعطاه ايّاه صديقه الصحفي الذي طلب منه القدوم الى هناك لرؤية فتاةٍ تعاني من عقليّة أهل قريتها المُتخلّفة (لكنه لم يوضّح له مشكلتها معهم) 

ورغم اتصالات جاك المتكرّرة الا ان جوّال صديقه ظلّ مُغلقاً بعد تخلّفه عن الموعد المتفق بينهما ! لذا قرّر الطبيب الدخول الى القرية وحده لمعاينة حالة الفتاة النفسية التي ستكون (على حسب اقوال صديقه) مادةً دسمة في كتابه الطبّي الذي يقوم بتأليفه هذه الأيام .. 

وقد عبَرَ اولاً الغابة الكثيفة , الى ان وصل الى اكواخٍ خشبية .. لكن الأصوات كانت قادمة من بعيد , فتوجّه نحوها .. ليجد سكّان القرية مجتمعين في ساحةٍ تبدو وكأنها سوقهم الشعبي , وكانوا يقومون بتزينها تحضيراً لحفلٍ ما ! 
لكنهم صمتوا جميعاً فور رؤيتهم للشاب الغريب الذي اقتحم مكانهم السريّ دون استئذان ! لهذا لم يردّوا عليه السلام بل اكتفوا بالتحديق به بغضب لعدم احترامه خصوصيتهم .. 

وما ان وقف الطبيب في منتصف الأسواق حتى شاهد المفاجأة التي كان أخبره عنها صديقه (الذي إختفى دون مبررّ !)  
حيث وجد فتاةٌ (تبدو وكأنها في الثانية عشر من عمرها) تطلّ من نافذة بأعلى منزلٍ مهجور , وتنظر ناحية السوق الذي اكتظّ بأهل قريتها الذي لا يتجاوز عددهم المئة شخص .. 
فتسمّرت عينا جاك على نظراتها الحزينة اتجاهه وكأنها تترجّاه ليفكّ عنها الرباط القماشي الذي التف حول جسمها بإحكام , وكأنها بقيت مُقيدة هناك لمدةٍ طويلة !
***

وهنا وصل رجلٌ يبدو وكأنه رئيس القرية , لأنهم أحنوا رؤوسهم احتراماً له عند اقترابه منّي ..  وسألني مستفسراً : 
- مالذي أتى بك الينا ايها الغريب ؟ وكيف عرفت بمكاننا ؟!
فردّدت على سؤاله بسؤال : ولما تحاولون الإختباء داخل الغابة ؟! 
فأجابني أحد الرجال بنبرةٍ غاضبة : لكيّ نُبعد الطّفيليين امثالك عنّا !! فنحن تعاهدنا على العيش هنا دون وسائل التكنولوجيا المضرّة 
وأكمل رئيسهم قائلاً : نعم ..لقد قرّرنا جميعنا ترك الحضارة وراءنا , ولهذا اخترنا هذا المكان البعيد عن أعين الجميع , وخاصة الصحافة

فأجبته : لكن صديقي الصحفي هو من أخبرني عن مكانكم هذا , وأكيد سينشر قريباً مقالاً .. 
فقاطعني قائلاً بحزم : لقد حللّنا هذه المشكلة 
فسألته بدهشة وقلق : ماذا تقصد ؟! 
- دعك منه الآن , واخبرنا .. مالذي أتى بك الينا ؟

فأشرت الى الفتاة الصغيرة التي كانت تبكي بصمت وهي تحدّق بي بحزن .. وقلت لرئيسهم : 
- لقد أتيت لأجلها 
فشهقت إحدى النسوة المجتمعات حولي , قائلةً بفزع : 
- أأتيت لتنقذ الشيطانة ؟!

وقد ضايقني كلامها جداً , فقلت بنبرة تهديد : شيطانة ! انها فتاةٌ صغيرة .. واريد ان اعرف الآن سبب عقابكم لها , والاّ سأبلّغ عنكم الشرطة !! 
فضجّت الجموع الغاضبة , لكن رئيسهم استطاع تهدئتهم بإشارةٍ منه .. وقال لي : بل هي شيطانة بالفعل !! لأنها ابنة مشعوذة , ووالدها أحد الشياطين 

وهنا لم استطع تمالك نفسي وضحكت ساخراً من سخافتهم , مما زاد من غضبهم .. وقلت لهم : ان كانت شيطانة كما تقولون , فلما لم يأتي ابليس ويحرقكم جميعاً وينقذها منكم ؟!! 
فشدّني رئيسهم من قميصي بعنف , وقال لي بنظرةٍ أرعبتني : 
- هذه الفتاة التي تراها هناك .. تبلغ من العمر 35 سنة .. فهي عاشت معنا لسنواتٍ عديدة , لكن شكلها لم يتغير ابداً !

وهنا فهمت كل المشكلة , فأنا بالنهاية دكتور .. وقلت لهم : 
- لحظة لحظة ! الم تكونوا يوماً من سكّان المدينة , قبل ان تقرّروا العودة مئة سنة الى الوراء ؟ 
فقال رئيسهم : نعم , لقد تركنا مدينتنا منذ زمنٍ طويل 
- اذاً الم تسمعوا يوماً بمرض يدعى ((الخللّ في هرمون النمو)) ؟ 
فقالت لي احدى النسوة : لكنها ليست قزمة 
فقلت في نفسي : ((يا الهي ! ما كل هذا الغباء)) 

ثم بدأت بالشرح لهم :
- اسمعوني جيداً .. انا طبيبٌ نفسي , ودرست عن هذه الحالات النادرة ..والفتاة التي تخافون منها لا تشكو من ايّ خللٍ في عقلها , كل ما هنالك ان جسمها توقف عن النمو في عمر 12 سنة .. فهل يُعقل ان لا احد منكم قرأ او شاهد في التلفاز او الإنترنت عن هذا المرض ؟! 

فأشاروا برؤسهم (بلا) .. فأخرجت جوالي كيّ أريهم بعض الأشخاص الذين عانوا من نفس مشكلتها حول العالم , لكنه لم يكن هناك انترنت في هذا المكان المعزول .. والأسوء انهم استنكروا إخراجي لجوالي امامهم , فهم يعتبرونه من المحرّمات في عقيدتهم المتخلّفة .. حين قال لي رئيسهم بنبرة تهديد : 
- الأفضل ان تضعه في جيبك قبل ان أحطّمه لك !! 

ثم عمّ السكوت المُقلق بيننا , الى ان قطعه صوت رجلٍ عجوز يقول لي :
- انت تقول انها بشريّة وليست شيطانة , اليس كذلك ؟ 
فقلت له : نعم يا عمّ , هي انسانة مثلي ومثلك
ففاجأني قائلاً : اذاً كيف تفسّر انها لا تدخل الحمام او تأكل او تشرب منذ سنواتٍ طويلة ؟

فضجّت الجموع الموافقين على كلام العجوز .. لكني بالطبع لم اصدّق هذه الخرافة , بل اظنّ ان رئيسهم (الذي أخذ على عاتقه مهمّة مراقبة الشيطانة) كان يطعمها بالسرّ لكيّ يسيطر عليهم بأفكاره الغبية , هذا اذا لم يكن يستغلّ جسدها الصغير ايضاً .. 
فقلت في نفسي : ((من الأفضل ان أتوقف عن مجادلة الحمقى , الى ان أجدّ طريقة أحرّر فيها المسكينة من قبضتهم)) 
وقلت لهم مُصطنعاً الغباء : 
- حقاً ! طالما انها لا تأكل ولا تقوم بأفعال البشر , فهي اذاً شيطانة .. لكن عندي فضول لأعرف الطريقة التي قبضتم بها عليها ؟ 

فأجابني رئيسهم وعلى وجهه ابتسامة المُنتصر : انا من سجنتها بعد مراقبتي لها لفترةٍ طويلة , فهي تعوّدت على الخروج ليلاً لزيارة قبر والدتها والتكلّم معها بكلامٍ غير مفهوم .. وكأنها لغةٌ شيطانية ! فعرفت حينها انها ليست ببشريّة
- مع انني لا ارى مشكلة في زيارة البنت لأمها التي افتقدتها .. لكن اخبروني.. مالذي فعلته امها بالضبط كيّ تلقبوها بالمشعوذة ؟ 
فقالت لي احدى النسوة : الجميع يعرف بأن والدتها تمتهنّ الشعوذة , وهي اساساً لم تنكر ذلك وقت إحراقنا لها  

فأصابتني الدهشة والخوف : ماذا ! أأحرقتم الأم ؟! ... هذا إجرام !!! 
فقال رئيسهم : هي التحقت بجماعتنا عندما كانت حاملاً .. ثم انجبت هذه الطفلة .. ومن بعدها اختفت لشهرين فقط , لتعود الينا وابنتها بهذا الحجم الذي تراه  
وأشار الى الفتاة التي مازالت تنظر الينا من فوق ..

وهنا قال رجلٌ من الجموع : طبعاً , فأولاد الشياطين يكبرون بسرعة 
فقلت لهم بعصبية : ما هذا التخلّف ؟!! ربما كانت هذه ابنتها الكبرى التي كانت تعيش مع طليقها مثلاً ..
امرأة : واين طفلتها اذاً ؟ 
- ربما ماتت ولم تخبركم عنها !!

وهنا قالت لي امرأة اخرى : انا كنت القابلة التي ولّدتها .. والطفلة التي انجبتها تحمل نفسم الوحمة التي على ذراع هذه الفتاة , ومن المستحيل ان تملك الأختان نفس الوحمة وفي نفس المكان ! 
الرئيس : لأنها نفس الطفلة , لكنها كبرت بسرعة .. ومن ثم توقف نموها بعد ذلك .. فهل تعلّمت في الطبّ ما يُفسّر هذه الظاهرة الغريبة ؟
الطبيب : اعتقد انها تعاني من خللٍ هرموني نادر .. دعوني آخذها معي لأفحصها عند طبيب الغدّد ..

لكني تفاجأت بالرئيس يوجّه مسدسه نحو رأسي ! ويقول مهدداً :
- اذا اقتربت منها , سأقتلك وادفنك قرب والدتها .. فنحن بالكاد استطعنا السيطرة على هذه الشيطانة التي حوّلت حياتنا الى جحيم 
فقال رجلٌ آخر : نعم .. فبسبب هذه الحقيرة , ذبُلَ محصول ارضي بالكامل
وقالت امرأة بحزن : ومات طفلي بعد رميه لحجرةٍ صغيرة عليها , واطفال القرية يشهدون على ذلك
ورجلٌ آخر : كما انتشرت الأمراض بيننا دون سبب ! وقد تعبنا كثيراً الى ان عرفنا انها مصدر تلك الأوبئة 

ثم قالت سيدة لي : وبعد ان سجنّاها في تلك العلّية , لم تعدّ تصيبنا ايّة مشكلة 
رئيسهم : هذا صحيح ..لقد عانينا الأمرّين الى ان اكتشفنا بأنها مصدر تعاستنا , وسُجنُها كان قراراً جماعيّاً ..
فصرخت عليهم بغضب : يا الهي ! كفّوا عن هذه الخرافات !! 

وإذّ بالأصوات ترتفع مُطالبين رئيسهم بقتلي لحفظ اسرار القرية .. وحينها اعتراني خوفٌ كبير ! 
لكن لحسن حظي انتهى الموقف المُربك بعد قدوم الأطفال الينا .. حيث قال احد الصغار للرئيس : 
- سيدي اين الحفلة ؟! الم تخبرنا ان نأتي بهذا الوقت لنحتفل جميعنا ؟
وكان رئيس القرية أسرع في إخفاء مسدسه بعد حضور الأطفال , ثم همس لي قائلاً :
- إحمد ربك ان لدينا اليوم احتفالاً شعبي , والاّ لقتلتك على الفور !! 
ثم رفع صوته قائلاً للجميع :
- حسناً يا اصدقاء !! دعونا نحتفل اولاً , ثم نحلّ مشكلة هذا المتطفّل المزعج 
***

والغريب في الموضوع انهم سمحوا لي بالإحتفال معهم ! حتى انهم قدّموا لي الغداء .. 
في البداية رفضت تناول ايّ شيء لخوفي ان يدسّوا به السمّ .. وقد فهم الرئيس سبب تردّدي , فأخذ قطعة لحم من صحني وأكله امامي ..ثم همس لي قائلاً :
- نحن لا نعاقب احداً دون محاكمةٍ عادلة ..فتناول طعامك قبل ان يبرد 
وقد أربكتني نظراته الحادّة ممّا أجبرني على الإحتفال معهم , لأني لم أرغب في تحدّيهم أكثر من ذلك 

وبصراحة اللحم لم يُعجبني بالمرّة ! فقد كان صعب المضغ ومالحاً للغاية .. لكن الطباخة العجوز برّرت لي ذلك بإنه لحم غزال كبيرٌ في السنّ ..فشكرتها وأكملت طعامي مُجبراً ..
***

وقد طال زمن الإحتفال الى ان حلّ المساء .. فانتظرت حتى انشغل الجميع بالحفل الموسيقي .. ثم تسلّلت من بينهم ناحية المنزل المهجور .. واقتحمت بابه الخشبي الذي لم يتطلّب مني سوى دفعتين قويتين بالكتف لكسر قفله الصدىء .. 

وصعدت مباشرةً للعلّية , فوجدّت المسكينة نائمة فوق فراشٍ من القشّ , ويداها مربوطتان للخلف بالقماش , وكانت شديدة الهزال .. 
فحملتها بين ذراعيّ ونزلت بها الأدراج , مُبتعداً عن الكوخ .. 
وكنت أدعي ربي بخوف أثناء توغّلي داخل الغابة المظلمة , الى ان وصلت اخيراً الى سيارتي المركونة على جانب الطريق.. 

ثم وضعت الصغيرة النائمة بالمقاعد الخلفية .. وانطلقت كالمجنون لأبتعد قدر المستطاع عن القرية المجنونة التي أنوي ذكر قصتهم في كتابي الذي سأنشره قريباً 
***

ووصلت مع تباشير الصباح الى محطة بنزين , امامها مطعمٌ صغير .. فقلت في نفسي , وانا انظر اليها من خلال مرآتي :
((المسكينة ! مازالت نائمة الى الآن , يبدو ان الجوع أنهك قوتها .. سأحضر لها الطعام)) 

وما ان طلبت الطعام حتى تذكّرت انني لم افكّ قيودها بعد ! لأن كل همّي كان الإبتعاد عن ذلك المكان المخيف .. فقلت في نفسي :
((عليّ الإسراع بطلب الطعام قبل ان يراها احد مُقيدة في سيارتي ويظنّ بأنني اختطفتها ! .. من الجيد انني ركنت سيارتي بعيداً عن عمّال المحطة)) 

لكن الغريب انني فور خروجي من المطعم , وجدتها تجلس بهدوء في المقعد الأمامي , ومن دون قيود ! 
فطالما انها تستطيع تحرير نفسها , فلما لم تفعل ذلك وهي محتجزة بتلك الغرفة ؟! .. او ربما كانت خائفة من عقاب رئيس القرية في حال فعلت ! ..حسناً لا يهمّ .. لأذهب واعطيها الطعام .. 

ثم جلست بجانبها بالسيارة وبدأنا بتناول قطع الدجاج المقلي ..لكنها أنهت طعامها قبلي بعد ان تناولته بنهمٍ شديد.. فسألتها بشفقة :
- منذ متى لم يطعموك ؟
- منذ وقتٍ طويل 
- الملاعين !!

وقبل ان اكمل المسير , قلت لها :
- عزيزتي .. إدخلي الحمام قبل ان نتحرّك , فرحلتنا ما تزال طويلة 
- لقد دخلت قبل قليل
- متى ؟!
- عندما دخلت المطعم
- آه فهمت !

وبعد ان مشينا عدّة امتار , اقتربت من حاوية نفايات موجودة على جانب الطريق .. وابطأت السرعة لكيّ نرمي به بقايا الطعام .. وقد لمحتها لثوانيٍ وهي ترمي بصحنها البلاستيكي الذي بدا لي فارغاً ! بعكس صحني الذي امتلأ ببقايا الدجاج .. فهل أكلت العظام ايضاً ؟! .. لا طبعاً , هذا مستحيل .. لكن يبدو ان كلام اهل القرية الأغبياء أثّر في تفكيري .. لأكمل طريقي بهدوء..
***

ثم عمّ الصمت بيننا طوال الرحلة .. الى ان حلّ المساء , وحينها سألتها : 
- كم كان عمرك حين توفيت امك ؟
- هي لم تتوفّى , بل احرقوها امام عيني
- أحقاً ! يالهم من مجرمين .. وكم كان عمرك وقتها ؟!
- بعمري الحالي

ورغم انني لم افهم قصدها ! الاّ انني فضّلت السكوت بعد ان بدا الحزن واضحاً على وجهها ..
فقلت في نفسي : ((والله سأبلّغ عنهم الشرطة فور وصولي للمدينة))
لكنها فاجأتني قائلة : لا تفعل !! فهم سيختفون جميعاً من هناك

وقد أربكني جوابها كثيراً ! فأولاً : كيف سمعت ما يدور في ذهني ؟! وثانياً : ماذا تقصد بيختفون ؟! هل قصدها انهم سيغيّرون مكانهم بعد إكتشافهم لرحيلنا ؟ .. لا ادري ..المهم الآن ان أُوصلها لمؤسسةٍ ما تهتم بها.. لأنه في حال إفترضنا انها بالفعل امرأة بالغة بجسمٍ صغير ! فمن الخطأ ان تعيش معي خوفاً من ان تقع في حبي , وأتورّط انا لاحقاً بتهمّة الإعتداء على طفلة , فهي بالنهاية لا تملك اوراقاً رسمية تُثبت عمرها الحقيقي .. هذا في حال كان كلام رئيس القبيلة عنها صحيحاً !
وبينما انا شاردٌ بأفكاري , تفاجأت بقولها : 
- ليس مسموحاً لي أن احبك , لأن ابليس سيعاقبني ان فعلت

وهنا تجمّد الدم في عروقي ! 
وما ان التفتّ اليها , حتى رأيت عينيها قد تحوّلتا لعينيّ قطة ! 

ولا ادري ما حصل بعدها .. فكلّ ما اتذكّره هو انني خرجت من سيارتي المحطّمة وانا انزف من جبيني وانفي بعدما ارتطمت بقوة في سور الجسر .. لكن الأسوء هو ما رأيته في جنح الظلام .. حيث كانت الطفلة تقف فوق حافّة السور وكأنها تنوي الإنتحار ! 
فاقتربت منها ببطأ , وانا ارتجف قائلاً :
- لا تقفزي ارجوك .. يا 
فأجابتني بهدوء وهي تُمعن النظر في البحر الموجود اسفل الجسر
- اسمي انجيلا 
- لا تقفزي يا انجيلا .. ستموتين ان فعلتي
لكنها لم تجيبني .. 

فقلت لها :
- لا ادري ما فعله الحقير بك , ولا افهم ما حصل لنا قبل قليل .. لكني اعتذر منك , فقد فقدّت السيطرة على السيارة بعدما تخيّلت عينيك ..
فأكملت عني قائلة : ما رأيته كان حقيقياً 

ثم قفزت بخفّة ناحيتي , مُبتعدةً عن السور .. وأمسكت يدي بقوةٍ تُشابه قوة الرجال ! وقالت لي : 
- لا تنظر اليّ هكذا , فأنا لست شيطانة كما يقولون عني  
- أعرف هذا .. لكنك..
فقاطعتني مُبتسمة : بالحقيقة .. انا مجرّد جنّية صغيرة
فصرخت بصدمة : ماذا !

وحاولت إبعاد يدي , لكنها كانت تقبض عليها بقوة .. وقالت لي :
- لا تخف منّي يا جاك .. فأنا تطوّعت للبحث عنك 
فسألتها بخوف : ماذا تقصدين ؟!
فتنهّدت بضيق ثم قالت : المشكلة ابتدأت مع تلك المشعوذة الغبية
- تقصدين امك ؟!
- ليست امي ... بل امك انت !!
- ماذا تهلوسين يا فتاة ؟! فأهلي توفيا في حادث ..
فأكملت عني قائلة : بحادث سيارة فوق هذا الجسر بالذات ..وتحديداً في المكان الذي ارتطمت به سيارتك قبل قليل .. اليس كذلك ؟

وقد صدمني كلامها جداً ! لأني تذكّرت الآن ما قاله لي ذلك الشرطي الذي قدِمَ الى غرفتي في المستشفى الذي أعمل فيها 
الفتاة : اتريد ان تعرف ما حصل لهما ؟ 

فالتزمت الصمت , بعد ان شلّ كلامها الغير منطقي تفكيري تماماً ! فأجابتني قائلة : 
- والدك شاهدني ايضاً لكن بشكلي الحقيقي المخيف , وكنت أقف في منتصف هذا الجسر , فارتبك المسكين وارتطم بسور الجسر , لكن حادثته كانت اقوى من حادثتنا بسبب الأرض الزلقة من المطر الذي تساقط بغزارة ذلك اليوم .. فمات هو ووالدتك على الفور 
فسألتها بغضب : ولما قتلتهما ؟!!
- لأنهما كانا سيُصعّبان عليّ مهمّة إعادتك الى بيتك الحقيقي 
- انا لا افهم شيئاً !
- على كلٍ لا تحزن كثيراً عليهما , فهما ليسا والداك الحقيقيين .. بل اهلك بالتبني ..وقبل ان تقاطعني , سأخبرك القصة كاملةً ..

فاستمعت اليها وقلبي يرتجف بقوة , لأنه طوال سنوات مهنتي في الطب لم أقابل يوماً فتاةً مريضة نفسية بهذا الشكل المخيف ! 
الفتاة : امك الحقيقية كانت من نسلٍ نادر من الجن , حيث أُبيد جميع شعبها بحروبٍ قديمة مع ابناء ابليس ..ولكيّ لا تُفنى هذه السلالة نهائياً قام ابليس بالزواج من امك , لكنها هربت من مملكتنا بعد حملها بك , لأن حلم حياتها كان ان تعيش كبشريّة ! ولكيّ لا نقتفي أثركما قامت بوضع تعويذة داخل قلادتها وقلادتك التي تلبسها في رقبتك الآن 
- هذه كانت هدية من والدي !

- لا ليس صحيحاً .. والآن إخبرني .. هل أزلت يوماً هذه القلادة من رقبتك ؟
- لا .. وكلما حاولت , أغيّر تفكيري فجأة !
- طبعاً فأمك تُجيد الشعوذة , لكنها كانت غبية جداً عندما قرّرت التخلّي عن هويتها الشيطانية 
- لنفترض ان كلامك صحيح , فأين هي امي الآن ؟
- ماتت كامرأةٍ فقيرة , وتمّ ارسالك الى دار الأيتام حيث تبنّاك والداك .. المهم دعني أكمل لك القصة .. (وتنهّدت قليلاً) .. يبدو ان أمك وضعت تعويذة أخرى في عقدك تمنعك من إزالتها من رقبتك 

فقاطعتها قائلاً : لا هذا غير صحيح , فصديقي الصحفي أخذها مني قبل عدة ايام
بابتسامةٍ ماكرة : وجيد انه فعل .. أتذكر اين ازالها ؟ 
ففكّرت قليلاً ثم قلت : كنّا حينها نسبح في البحر  
- هذا صحيح , فالبحر يُلغي جميع التعويذات السحرية .. وعندما ازال قلادتك لبعض الوقت استطعنا سماع حديثكما بوضوح , وكان يخبرك وقتها عن اهل قرية الذي صادفهم اثناء رحلته , والذين يكرهون التكنولوجيا ويختبئون داخل غابةٍ سرّية .. وعلى الفور أرسلني ابليس مع اصدقائي الجنّ للسيطرة على اهل القرية قبل وصولك اليهم 

- أتقصدين ان جميعهم ملبوسين من قِبَل الشياطين ؟!
- نعم .. وقد حبست نفسي داخل الغرفة , وارسلت اليك رسائل ضمنية عن طريق التخاطر لكي تأتي وتنقذني من هناك 
- يعني كل قصتك كانت مُختلقة ؟
- هذا صحيح .. لكن فضول صديقك الصحفي كان على وشك ان يفسد علينا المخطط حينما وصل الى القرية قبلك
فسألتها برعب : وماذا حصل له ؟!
فأجابتني بابتسامةٍ مُستفزة : إخبرني انت .. كيف كان طعم لحم الغزال ؟ مالحٌ قليلاً , اليس كذلك ؟

فأمسكت ذراعها وهززّتها بعنف : ماذا تقصدين ؟!! هل قتلتموه ايّها الملاعيين ؟
بابتسامةٍ ماكرة : نحن قتلناه فقط , لكنك الوحيد الذي أكل من لحمه ايّها المتوحّش !
وقبل ان أعيّ هذا الكمّ من الخزعبلات في عقلي الذي يكاد ينفجر , فاجأتني بإمساكها يديّ بقوة .. 

وبخلال ثوانيٍ .. وجدت نفسي أقفز معها , لأقف مندهشاً قربها عند حافّة الجسر ! حيث كان جسمي يترنّح من شدّة الرياح , وانا احاول التوازن  بصعوبة .. فقلت لها بصوتٍ مرتجف وبخوفٍ شديد :
- توقفي يا انجيلا !! فأنا لا اريد الإنتحار

- ومن قال اننا سنموت .. انا فقط سآخذك الى والدك .. فإبليس مُشتاقٌ اليك كثيراً , وينتظرك منذ سنواتٍ طويلة .. وإحدى قصوره تقع تحت هذه البقعة من البحر تحديداً 
وأشارت ناحية البحر المظلم الهائج .. 

فصرخت بعلوّ صوتي , وانا احاول التحرّر من قبضتها العنيفة : 
- اتركيني يا مجنونة !!! انا انسانٌ عادي , ولست شيطاناً مثلك .. انا انسان .. انسسسسسسسسسسسسان !!!!!
***

وكانت تلك صرخة الشاب الأخيرة قبل ان يختفي أثره معها بين الأمواج العاتية .. فهل كان ذلك انتحاراً لطبيبٍ نفسيّ برفقة طفلةٍ مجنونة , ام انها أتمّت مُهمّتها بنجاح وأعادته الى والده ابليس بعد طول انتظار ؟!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

التوأمتان المتعاكستان

تأليف : امل شانوحة  الطيّبة والشريرة دخلت السكرتيرة الى مكتب مديرها (جاك) لتجده يفكّر مهموماً :   - إن كنت ما تزال متعباً ، فعدّ الى قصرك ...