الأربعاء، 29 نوفمبر 2017

ابنة العدوّ !

تأليف : امل شانوحة


لما لم تقتلها حسب أوامرك العسكرية ؟!

بعد سنواتٍ من انتهاء الحرب العالمية الثانية , وتحديداً في سنة 1962 (ايّ بعد سنة من بناء الجدار الفاصل بين الإلمانيتين).. 
وفي ليلة باردة .. قال الوالد (الضابط الإلماني السابق في فرقة المتفجرّات) لإبنته بقلقٍ شديد :
- انها لمُجازفةٍ خطيرة يا اماندا ! أمازلتي مصرّة على قرارك؟ 
فأجابته ابنته , البالغة من العمر (19) سنة : 
- ابي .. خطيبي ينتظرني في الجهة المقابلة , وعلينا الذهاب الى هناك هذه الليلة , والاّ ضاعت فرصتنا بالهروب ! 

فهي كانت إتفقت مُسبقاً مع خطيبها على اللحاق به بعد تخرّجها من المدرسة , بينما فضّل هو متابعة دراسته في برلين الغربية , تماماً كما فعل أكثر من ثلاثة ملايين شخص هربوا الى الجهة المقابلة أبّان صدور القرار ببناء الجدار الفاصل , وقد لُقّبت المنطقة المحيطة به لاحقاً بقطاع الموت ! 
اما الحياة في برلين الشرقية فكانت شاقة على المواطنين الإلمان لخضوعها للحكم السوفيتي الشيوعي الفقير ..

ولهذا السبب قرّرت اماندا الهروب مع والدها من هذا الجحيم من خلال إحدى الأنفاق السرّية المتجهة لبرلين الغربية , والتي كانت خاضعة في تلك الأيام لحكم الحلفاء (اميركا وانجلترا وفرنسا).. 
وقد وصلا في آخر الليل الى ذلك المرحاض الخارجي (الذي يبعد 100 متر عن قبو مخبزٍ قديم في برلين غربية , والمحفور اسفله النفق السرّي) والذي مرّ من خلاله في غضون الأشهر السابقة عشراتٍ من العائلات برلين الشرقية الى الجهة الأخرى 
***  

وعبر الأب وابنته النفق على أمل الوصول الى الطرف الثاني دون ان يلاحظهما ايّاً من الحراس الحدود الذين يقومون بدوريّات حراسة فوق رأسهما مباشرةً .. واضعاً الأب قناع الأكسجين على وجهه , الذي كان استخدمه سابقاً في الجيش بسبب معاناته من مرض الربو , والذي من الممكن ان تزداد مضاعفاته في ذلك المكان الضيق المليء بالغبار ! 

وبعد ساعة محفوفة بالمخاطر , وصلا اخيراً مع تباشير الصباح الى الطرف الآخر.. 
وقد تمّ اللقاء بين اماندا وخطيبها .. لكن شيئاً حصل عكّر صفوّ الجميع .. حين اقتربت ام العريس باتجاههم , ولم تكن اماندا قد تعرّفت بعد على حماتها , والتي قالت لوالد الفتاة بدهشة :
- أهذا انت يا مايك ؟!
والد اماندا بصدمة : ماري ! لقد أخبروني بأنك ميتة ؟!

ابن السيدة (العريس) : ماذا يحدث يا امي ؟! هل تعرفين عمّي ؟!
وهنا تغيّرت نبرة السيدة ماري وقالت بغضب : هذا ليس والد خطيبتك , بل هو والدك الحقيقي يا كارلوس !!
مايك بصدمة : ماذا ! أكنتِ حاملاً مني عندما ..
ماري بعصبية : أكمل !! لما سكتّ فجأة .. عندما تركتني وحدني لأواجه غضب اهلي والمجتمع !!!
والد اماندا بتلعثم : ماري اهدئي قليلاً لو سمحتي ..

ماري بغضب : اهدأ ! .. لطالما اخبرتك إنني من مجتمع متمسّك بتقاليده القديمة , ولهذا طردوني من قريتي بعدما تخلّفت عن حضور عرسنا .. فانتقلت مُجبرة الى برلين الغربية لأربّي ابني بمفردي 
ابنها كارلوس متفاجىء : لحظة امي ! الم تقولي لي بأن والدي متوفّي ؟!
امه بقهر : هو مات فعلاً عندما تخلّى عنّا

الصبية اماندا : ابي ! ماذا تقول هذه السيدة ؟! انا لا افهم شيئاً 
فاقترب والدها من السيدة ماري وقال لها : انا لم اتخلّى عنك , لكن في يوم عرسنا أخذني الجيش بمهمّةٍ سرّية الى فرنسا بعد احتلالنا لها
السيدة بغضب : كاذب !! انت مصاب بالربو , ومُعفى من الجيش
اماندا : لا يا خانم , ابي حارب فعلاً .. صحيح هم رفضوه في البداية , لكنهم استدعوه من جديد بعدما قلّ عدد الجنود 
ابوها : كما انني كنت جيداً بتركيب العبوات الناسفة واتقنّ اللغة الفرنسية , ولهذا اخذوني الى هناك .. لكنهم منعوني من اخبار احدٍ بيوم سفري 

ابنه بقهر : ان كان كلامك صحيحاً , لما لم تعدّ الينا بعد انتهاء الحرب ؟!
الأب : بل عدّت الى قرية والدتك , لكنهم اخبروني بوفاتها بحمّى التيفوئيد ..ولم اكن اعرف حينها أنها كانت حاملاً بك يا بنيّ .. احلف لك
السيدة بغضب: اذا كنت تقول الحقيقة , فاخبرنا بنوعيّة مهمّتك في فرنسا ؟ 

فنظر الأب الى ابنته اماندا بقلق , ثم أخفض رأسه قائلاً :
- اعتذر .. لا استطيع البوح بهذا السرّ , حتى بعد انتهاء الحرب
السيدة بصوت عالي : طبعاً لا تستطيع !! لأن الحقيقة هي انك تزوجت هناك , ولهذا ملامح ابنتك فرنسية  
فارتبك الأب كثيراً , وحاول تغيّر الموضوع ..
- المهم الآن .. انني أطمأنيت على حبيبتي اماندا , لأنها ستتزوج منك يا بنيّ 

العريس : وكيف تريدني ان أتزوجها وهي اختي ؟! 
الأب : بل يمكنك الزواج بها , فهي ليست اختك 
فتصرخ السيدة بغضبٍ شديد : ماذا تقصد بكلامك هذا ؟!! أتشكّ إنني خنتك ايها اللعين !!
الأب بارتباكٍ واضح : لا ! لم اقصد هذا .. (ثم تنهّد بضيق) ..عليّ الذهاب
السيدة ماري : أستهرب ثانيةً ؟!! 
ابنته وهي تمسك بيده : ابي ! الى اين ستذهب ؟ الم تعدني ان نعيش جميعنا هنا ؟

ابوها وقد ترقّرقت الدموع في عينيه : لقد غيّرت رأيّ يا اماندا .. سأعود الى بيتي في المنطقة الشرقية 
ثم ربت على كتف ابنه وقال له : انتبه عليها جيداً يا ولدي 
وأخذ حقيبة ملابسه الصغيرة , ثم اسرع نحو المخبز المهجور (المحفور تحته النفق , الذي قدم منه) ..
فصرخت السيدة بعلوّ صوتها : أهرب ايها اللعين !! لطالما تخلّيت عن مسؤولياتك !!!

فأيقظ صوتها العالي جندي الحدود المتواجد في برج المراقبة القريب من الجدار .. وعلى الفور !! اتصل باللاسلكي بجنود الدورية في برلين الشرقية ليخبرهم بوجود هاربين 

في هذا الوقت .. اسرعت البنت للحاق بوالدها وهي تمسك قناع الأكسجين 
العريس يناديها : الى اين تذهبين يا اماندا ؟!!
اماندا بقلق : لقد نسيّ ابي قناعه معي , وربما يصاب بأزمة ربو في النفق 

وقبل ان يلحق بها الشاب , شدّت امه يده وهي تقول : 
- انظر فوق الى برج المراقبة !
فشاهدا ضوء الإنارة تقترب منهما (فالشمس لم تكن سطعت بعد في هذا الجوّ الغائم) .. 
امه بخوف : علينا الإبتعاد فوراً من هنا , قبل ان يطلقوا النار علينا !!
ابنها بقلق : وماذا عن اماندا ووالدي ؟ 
وهنا سمعا صوت انفجار لقنبلةٍ يدوية !!
امه : يبدو انهم امسكوا بهما ! 

وماهي الا دقائق معدودة , حتى سمعا دويّ انفجارٍ قويّ !!!!
الأم وهي تُخفي حزنها على عشيقها القديم : ومع هذا الإنفجار , اظنهما قُتلا يا بنيّ .. (ثم قالت بصوتٍ منخفض) سامحك الله يا مايك , يا حبيبي الخائن

وبصعوبة استطاعت إبعاد ابنها عن المكان , بعد ان انتابه حزنٍ شديد على اخته التي كانت في يوم من الأيام محبوبته التي ينوي الزواج بها !
***

امّا الذي حصل بالفعل في الجهة المقابلة (برلين الشرقية) فكان كالتالي : 
حيث استطاعت اماندا اللحاق بوالدها داخل النفق , وقد وجدته هناك يسعل بشدّة بعد ان ضاق صدره بدون قناع الأوكسجين , ولذلك استطاع الجنود في الأعلى تحديد مكانهما بالضبط , فرموا بقربهما قنبلة يدوية أحدثت فتحة في سقف النفق , ومنه قاموا بسحبهما الى الأعلى ..

ثم اقتادوهما الى قسم الإستجواب , الموجود قرب برج المراقبة ..
وقد أمر قائد الجيش لاحقاً باطلاق صاروخ آر بي جي (الروسي الصنع  الذي بدأ استعماله في نفس هذه السنة) باتجاه النفق السرّي لردمه بشكلٍ نهائي .. 
***

وفي مكتب ضابط الحدود .. بدأ العسكري بتعذيب مايك (رغم عمره البالغ 52 سنة) بركله وضربه بقسوةٍ بالغة , فصرخت ابنته بخوف :
- لا تضربه !! فهو ايضاً كان جندي سابق في الجيش
الضابط بلا مبالاة : جميع رجال الألمان كانوا جنوداً سابقين .. مالجديد ! 
ثم قال للعسكري : اربط هذه الفتاة بغرفتي , لأستمتع بها لاحقاً

وهنا صرخ والدها بخوف : ايّاك ان تلمسها !!!
الضابط باستغراب : ايّاني ! .. وهل ستمنعني عنها ايها العجوز ؟
ثم قام بصفعه بقوة , لكن ابوها قال بنبرةٍ صارمة وواثقة :
- كنت فقط احذّرك ..لأنك ان لمستها , فربما تُطرد من الجيش ..هذا ان لم تُزجّ في السجن
فابتسم الضابط بسخرية : أحقاً ! وهل ابنتك ابنة رئيس الحكومة مثلاً ؟! 

مايك : بل هي ابنة المناضل الفرنسي .. شارل إكس 
ووقع كلامه كالصاعقة على ابنته ! 
- ماذا تقول يا ابي ؟!
فطأطأ والدها رأسه بحزن , ثم قال لها : انا آسف يا ابنتي , لأنني كذبت عليك طوال حياتك
فقال الضابط : واو ! يبدو ان هناك سراً خطيراً  بين الأب وابنته ..
ثم قرّب كرسيه من الأب (المرمي على الأرض) وقال له : 
- حسناً انا اسمعك .. اخبرنا القصة منذ البداية

فأخبره مايك بأنه كان بمهمّة سرّية ايّام احتلال المانيا لفرنسا , وكان عليه تلغيم منزل المناضل (شارل اكس) لقتله هو وعائلته ..وقد تمّ الأمر بنجاح .. لكن قبل رحيله عن المكان , سمع صوت بكاء طفلةٌ رضيعة قادماً من اعلى الشجرة القريبة من المنزل المدمّر ! فعرف ان قوّة الإنفجار رمت بإبنة المناضل نحو تلك الشجرة , بينما بقيت جثة امها واخويها الصغار عالقة تحت الركام 

وبهذه اللحظات .. كانت ابنته اماندا تستمع للقصة , وهي ترتجف من شدة الصدمة ! 
ثم سأله الضابط من جديد :
- نعم لقد سمعنا بأن عائلة شارل أُبيدت بالكامل , في الوقت الذي كان هو بمهمّة سياسية طارئة خارج منطقته 
مايك : نعم ولذلك طُردت من الجيش , لأنني لم اتأكّد قبل التفخيخ بوجوده داخل منزله 
الضابط : حسناً , لنفترض ان كلامك صحيح .. لما لم تقتلها هي ايضاً حسب أوامرك العسكرية ؟ 
وأشار الى اماندا التي كانت تحاول كتم بكائها بصعوبة , بعد ان شحب وجهها بشكلٍ واضح !

فأجابه مايك وهو ينظر بشفقة وقلق الى ابنته التي كانت ترتجف في زاوية الغرفة : كنت سأفعل , لكني عجزت بعد رؤية وجهها الملائكي .. وعندما سمعت اصوات الناس تقترب لرؤية الإنفجار , أسرعت بتخبئتها داخل حقيبتي ..ومن ثم عدّت الى كتيبتي المتواجدة في اطراف العاصمة الفرنسية , زاعماً بأن زوجتي سلّمتني ابنتي قبل عودتها الى المانيا 
الضابط : ولم يشكّ احد بالموضوع ؟! 
- لا ابداً , وبعدها بيومين سرّحوني من الجيش وعدّت الى بلدتي الموجودة في برلين الشرقية 

- اذاً لماذا كنت تهرب اليوم الى برلين الغربية ؟
- كنت آمل ان اتصل من هناك على والدها الحقيقي , كي يحضر  عرس ابنته 
ثم التفت الى ابنته :
مايك بحزن : والله كنت سأفعل .. كنت اريد ان أسلّم والدك الأمانة .. صدّقيني يا ابنتي 

لكنه تفاجأ بردّة فعلها ! حين انفجرت في وجهه باكية :
- كيف طاوعك قلبك على قتل امي واخوتي الصغار ؟!!! 
- اماندا ! ارجوك اهدئي يا بنتي .. فأنا لم اكن .. 
مقاطعة والدها بغضب : 
- انا لست ابنتك !! انت لديك ولدٌ وحيد , وتخليّت عنه ايضاً ! انت بالفعل ابٌ سيء .. انا كرهك جداً !! ليتني لم الحق بك لأعرف هذه الحقيقة المرّة

فابتسم الضابط ابتسامةٍ لئيمة , وقال لها : 
- اهدئي يا بنت !! فربما والدك اخترع كل هذه الحكاية لنطلق سراحك
مايك وهو يمسح دموعه : لا ابداً سيدي.. اذا شئت اتصل بضبّاط الحدود في برلين الغربية , واجعلهم يتصلّون بالمناضل (شارل اكس) فهو كما تعرف ..أصبح اليوم رمزاً سياسياً في فرنسا بعد استقلالها ..وانا مستعد لتكلّم معه على الهاتف امامك , كيّ تتأكّد بنفسك من كلامي 

فاقترب العسكري (المسؤول عن التعذيب) من الضابط , وهمس له:  
- لو كان كلامه صحيحاً , فسنطلب بعض المال من السياسي شارل قبل ان نسلّمه ابنته , فهو كما سمعت اصبح رجلاً غنياً ومشهوراً في فرنسا , وانت تعرف ان حياتنا هنا في برلين الشرقية سيئة , ورواتبنا زهيدة للغاية ..
ففكّر الضابط قليلاً , ثم قال للعسكري بصوتٍ منخفض : 
- حسناً , لكن ايّاك ان يعرف احد خارج هذه الغرفة بموضوع ابنة المناضل , كي نتقاسم الجائزة بيننا نحن الأثنين .. اسمعت !!

ثم وجّه الضابط كلامه لمايك : 
- حسناً ... سأقوم باتصالاتي للمسؤولين في برلين الغربية , ثم نرى النتيجة .. لكن في حال كنت تكذب عليّ , فسأجبرك على قتل ابنتك بنفسك .. أفهمت !!
فهزّ مايك رأسه موافقاً , وهو مازال ينظر الى ابنته التي كانت تنظر اليه شزراً وبغضبٍ شديد
***

وبحلول المساء .. وصل الخبر أخيراً الى السياسي الفرنسي (شارل اكس) الذي اتصل بضبّاط الحدود في برلين الشرقية , ومنه الى مايك الموقوف هناك .. 
وجلس الضابط والعسكري يستمعان الى المحادثة , رغم معرفتهما القليلة باللغة الفرنسية التي كان يتقنها مايك باحتراف , والذي سأل المناضل الفرنسي عن يوم وفاة اهله بالتفجير 

شارل الفرنسي بدهشة : لما تسألني عن ذلك اليوم ؟ ولما تصرّ على مكالمتي انا بالتحديد ؟! 
فأجابه مايك باللغة الفرنسية : لأن ابنتك معي
الفرنسي بغضب : ماهذا الهراء ! طفلتي توفيت مع اخويها وامها بالإنفجار قبل سنواتٍ عديدة , فلما تنكأ لي جراحي يا رجل ؟! 
- نعم اعرف بشأن انفجار منزلك , لكن ابنتك لم تقتل معهم .. وانا الضابط الإلماني الذي وجدها هناك حيّةٌ ترزق , وقمت بتربيتها وتعليمها .. لكنها الآن محتجزة معي بمركز الحدود ببرلين الشرقية , فقد قبضوا علينا اثناء هروبنا الى برلين الغربية 
- لا اصدّق هذا الكلام ابداً !!
- اليست لأبنتك وحمة على شكل فرولة على فخدها الأيمن .. فأنا اعرف ذلك , لأنني قمت بتربيتها منذ طفولتها 

فسكت الفرنسي بعد ان أثار اهتمامه .. فتابع مايك كلامه :
- كما انني عندما رأيتها بالصدفة بجانب منزلك المحطّم , كانت تلبس عقداً فيه صورة لك ولأمها 
- يا الهي ! هذه كانت هدية مني لها 
- نعم والعقد موجود في بيتي , سأعطيك ايّاه عندما تأتي لإنقاذ ابنتك , فحياتها الآن في خطر .. ارجوك تعال واستلم أمانتك , قبل ان يتلاعب بها العساكر
***

وبالرغم من شكوك الفرنسي (شارل) بقصة مايك , الاّ انه قدم على اول طائرة أوصلته الى برلين الغربية .. وباتفاقٍ سرّي بين جنود الحدود , تم نقل مايك واماندا الى برلين الغربية , بعد ان قام شارل بدفع مبلغٍ من المال لأكثر من ضابط وعسكري على كلا الحدود 

لكن ما لا يعرفه مايك ان الضابط (الذي عذّبه في برلين الشرقية) قام بإخبار شارل بقصة التفجير كاملةً 
وفي المخفر الموجود في برلين الغربية .. رأى الفرنسي شارل ابنته لأول مرةّ .. وقد صُعق للغاية ! 
حين قال لها (باللغة الألمانية التي يتقنها) والدموع في عينيه :
- يا الهي .. كم تشبهين والدتك !
مايك مُبتسماً : هل صدّقتني الآن ؟

لكنه تفاجأ بلكمةٍ قويّة على وجهه !! وقبل ان يعي ما حصل , شاهد فوهة مسدس شارل موجهاً اليه ! 
وعلى الفور !! اسرعت اماندا بالوقوف بين شارل الغاضب ومايك الخائف , وهي تقول للفرنسي (باللغة الإلمانية) : 
- لن اسمح لك بقتل ابي !!
الفرنسي بغضب : هو ليس والدك , بل انا !! .. الا تعرفين ان اللعين هو من قام بقتل والدتك واخويك الصغار , فكيف تدافعين عنه ؟!
اماندا : كان مجبوراً .. فهو في تلك الأيام كان جندياً بسيطاً ينفّذ اوامر قائديه .. الم تقتل انت ايضاً اناساً ابرياء تنفيذاً للأوامر العسكرية ؟ 
فتفاجأ كلا الوالدان بردّة فعلها الغير متوقعة ! 

فأكملت اماندا كلامها قائلةً : 
- نعم انا غاضبة منه جداً ..(وأشارت الى والدها مايك) ..لأنه كذب عليّ طوال حياتي ! لكنه ايضاً كان بإمكانه قتلي , الاّ انه فضّل تربيتي وتدليلي قدر استطاعته دون ان يُشعرني بسوء احوالنا الإقتصادية التي عانى منها في برلين الشرقية 

ثم بدأت بسرد محاسن والدها مايك .. الى ان هدأ غضب والدها الفرنسي قليلاً .. لكن اماندا لم تكتفي بذلك , بل اصرّت عليه ان يضغط بوساطته السياسية على ضبّاط الحدود لإطلاق سراح مايك دون توجيه اي تهمة اليه .. وقد نفّذ شارل طلبها مُرغماً..
***

وبعد اجتماعهم جميعاً (اماندا وخطيبها وامه , ووالداها الأثنان) خارج سياج الحدود , فاجئهم مايك برغبته العودة من جديد الى منزله في برلين الشرقية .. فقام بتوديعهم سريعاً , ثم رحل !
***

اما شارل فطلب من ابنته تأجيل زواجها الى ما بعد انهاء دراستها الجامعية في فرنسا .. وبعد ان أقنعها بذلك , ودّعت خطيبها على أمل الإجتماع به لاحقاً ..ثم سافرت مع والدها الحقيقي الى قصرها الفخم في فرنسا
*** 

ورغم مرور سنوات على تغير حياتها في فرنسا نحو الأفضل (بعد اتقانها للغة الجديدة) .. الا انها إفتقدت كثيراً حياتها البسيطة مع والدها الحنون مايك الذي إنقطعت اخباره تماماً , فإبنه لم يكن يزوره دائماً رغم الحاح اماندا في جميع رسائلها لخطيبها على الإطمئنان على صحته , لكنه كان دائماً يبرّر تقصيره بصعوبة أخذ الإذن للزيارة من حرّاس الحدود الفاصلة بين الإلمانيتين..
***

ومرّت السنوات .. وتخرّجت اماندا من الجامعة .. ورغم قدوم خطيبها الى فرنسا لخطبتها (كما وعده والدها شارل من قبل) , الا انه رفض تماماً تزويج ابنته الوحيدة من ابن قاتل عائلته .. 
فعاد كارلوس حزيناً الى المانيا الغربية , بينما أُصيبت اماندا بإكتئابٍ شديد لنكث والدها بالوعد الذي بسببه قبلت السفر معه الى فرنسا .. 
ورغم تقدّم الكثير من كبار السياسين الفرنسين لخطبتها الا انها رفضتهم جميعاً 
***

لكن بعد شهور من وفاة والدها الفرنسي شارل , تفاجأت بخطيبها السابق كارلوس يزورها بقصرها في فرنسا لتقديم التعازي .. 
وبعدها بشهرٍ واحد .. تزوجا وعاشا معاً في فرنسا مع والدته , بعد ان بلغت اماندا 28 سنة ..وكانت لم ترى والدها مايك منذ 9 سنوات
***

ثم رُزقا بعد سنة بطفلةٍ جميلة .. 
وبعد بلوغ ابنتهما روز سن السادسة , وفي صيف عام 1978..
اقتربت الصغيرة من والدتها ومعها وسادتها , وطلبت منها تحويلها الى دميّة من القماش 
فابتسمت اماندا قائلة : 
- لكن يا روز , انت لديك العديد من الألعاب الجميلة 
- نعم لكن معلمتي تريدنا ان نصنع العاباً بأنفسنا
- حسناً اذهبي الى جدتك الآن , وسأحاول خياطتها لك لاحقاً

وبينما كانت اماندا تُخيط اللعبة القماشية لإبنتها , توقفت فجأة ! بعد ان عادت اليها ذكريات الطفولة : وكيف كان والدها الإلماني مايك يصنع لها العاباً من القماش , ويقصّ عليها القصص الخيالية لتنام .. كما انه كان بارعاً في صنع الكعك الطيب .. هذا عدا عن نزهاته الجميلة 
وقد لاحظ زوجها دموعها التي كانت تكبتها بصعوبة , فسألها بقلق: 
- ما بك اماندا ؟!
- لقد تذكّرت ابي .. اقصد والدك مايك

زوجها بنبرةٍ غاضبة : ومالذي ذكّرك به الآن ؟!
- اعرف انك تضايق من هذا الموضوع , لكنك لا تعرفه مثلي ..هو كان والداً جيداً بالنسبة لي
- أنسيت انه قتل عائلتك ؟
- قلت لك الف مرة انه كان ينفّذ الأوامر العسكرية , وقد سامحته منذ وقتٍ طويل .. يكفي انه لم يقتلني ولم يحرمني من ايّ شيء , رغم ضيق حالتنا المادية في ذلك الوقت .. فهو احياناً كان يضّطر للعمل بداومين في احدى المطاعم الشعبية كيّ يدفع اقساطي المدرسية , كما انه دائماً يناديني بأميرتي 

وهنا لم يعد باستطاعة اماندا مسك دموعها أكثر من ذلك , فانهارت بالبكاء ..فقام زوجها وحضنها قائلاً :
- ليتني تعرّفت عليه مثلك , لكن امي منعتني حتى من السؤال عنه ! فهي تظنّ الى اليوم انه خانها مع امرأةٍ اخرى
- اذاً اذهب الآن الى غرفة امك ..وإقنعها ان تأتي معنا الى المانيا كيّ تسمع الحقيقة منه قبل فوات الآوان , لأني خائفة كثيراً على صحته بعد ان كبر في العمر 
- هذا ان كان مازال على قيد الحياة , فهو كما أظن بلغ السبعين عاماً .. اليس كذلك ؟ 
- بل 68 , وانا متأكدة انه مازال ينتظرني في بيتنا القديم

ففكّر زوجها قليلاً , ثم قال : حسناً .. لنذهب ونراه 
فقامت وحضنته بفرحٍ شديد : أحقاً !! كم احبك يا زوجي الغالي 
وهنا عادت ابنتهما الصغيرة الى الغرفة , لترى امها في غاية السعادة , فسألتها باهتمام : 
- ماذا هناك يا امي ؟!
امها بسعادة : أخيراً سنرى جدك يا روز !!
- لكن جدي شارل مات قبل ان أُولد , هل نسيتي ؟!
- كنت اقصد والدنا انا وابوك
الطفلة بدهشة : لم افهم شيئاً !
فقال والدها : ستعرفين عندما تكبرين يا ابنتي .. (ثم قال لزوجته) .. سأذهب الآن لأتكلّم مع امي , ثم اذهب لأرتّب امور سفرنا
*** 

وقد استطاعوا العبور الى برلين الشرقية بعد ان سمح ضبّاط الحدود لعائلة ابنة المناضل الفرنسي شارل بالدخول الى هناك بإذنٍ خاص
لكنهم مع الأسف وجدوا مايك على فراش الموت , بعد ان ساءت حالته كثيراً بسبب الربو ! ورغم تعبه الشديد الاّ انه سعد تماماً برؤية حفيدته , حيث قال لأماندا : 
- انها تشبهك كثيراً عندما كنتِ في مثل عمرها ! 

فقالت حماتها له بقهر : وتشبه ابنك ايضاً , لكنك لا تعرف شكله عندما كان صغيراً
فأمسك يد السيدة ماري , وقال لها : 
- سامحني يا عزيزتي .. فوالله لم اكن أرغب في تركك ابداً , لكن الظروف أجبرتني على الإبتعاد عنك وعن ابننا  
فسكتت السيدة العجوز بقهر .. فقال مايك لأماندا :
- اخبري حماتك .. هل رأيتني يوماً مع امرأة اخرى ؟
فقالت اماندا لحماتها : طوال 19 سنة التي عشتها معه , لم اره يوماً يُكلّم ايّةِ امرأة .. وعندما كنت اسأله : لما لم تتزوج ثانيةً , خاصة انه ربّاني وهو في 33 من عمره ؟ كان يُجيبني دائماً : انه عشق امرأة واحدة في حياته , لكن قلبه مات بوفاتها

وهنا قال مايك لحبيبته السابقة ماري : كنت وقتها أحسبك ميتة .. لكن في حال كنتِ مازلتي لا تصدقينني , فسأثبت لك كلامي .. اماندا عزيزتي !! 
- نعم ابي
- احضري الصندوق الخشبي الموجود في درجي
وعندما احضرته له ... انتظروا قليلاً الى ان توقف سعاله المفاجىء .. ثم فتح الصندوق ليُخرج منه اولاً العقد الذهبي الصغير .. واعطاه لأماندا :
- هذا عقدك عندما كنت طفلة و فيه صورة امك وابيك .. فوالدك لم يعطني وقتها فرصة لأعطيه ايّاه , وأسرع بتسفيرك الى فرنسا .. لكن الآن عاد العقد الى صاحبته

فصارت اماندا تتمعّن النظر في صورة امها التي تراها لأول مرة , لأن صور عائلتها إحترقت جميعها بالتفجير .. ثم مسحت دموعها قائلة : 
- يا الهي ! كان والدي شارل على حق , فأنا اشبه امي كثيراً !

ثم اخرج مايك من الصندوق : سلسلة بها قلبٌ حديدي , وأعطاه الى حماة اماندا قائلاً لها :
- أتذكرينه يا ماري ؟ لقد اعطيتني هذا العقد في بداية تعارفنا , وقلت لي : ان اعيده اليك في حال أحببت امرأة ثانية .. ولهذا لم أردّه لك , لأن قلبي لم يحب غيرك 
فاستلمت السيدة ماري العقد منه , وهي تكبت دموعها بصعوبة .. ثم قال لها وهو يسعل بشدةّ : 
- لكني اعيده لك الآن , لأنني أشعر بقرب أجلي .. 

وقد تفاجأ الجميع ! عندما قامت السيدة العجوز بحضنه بقوة , وهي تنهج بالبكاء :
- ليتك اخبرتني بذلك قبل سنوات ايها الشقيّ 
فربت مايك على كتفها بحزن وهو يقول :
- يكفيني ان تسامحيني انت وابني على تقصيري معكما , يا حبيبتي ماري

وقد امضوا تلك الليلة سوياً كعائلة واحدة مُحبّة دون ايّةِ أحقاد , بعد ان سامح الجميع مايك على اخطائه السابقة .. 

لكن مع تباشير الصباح .. إشتدّ سعاله كثيراً ! 
وقبل وصول الطبيب , كان مايك قد فارق الحياة بين احبائه ..

وبعد دفنه .. عادت اماندا مع عائلتها وحماتها الى فرنسا من جديد 
***

وبعد 11 سنة , وتحديداً في يوم 9 نوفمبر 1989 , ايّ يوم هدم جدار برلين الفاصل بين الإلمانيتين الذي شهده العالم أجمع عبر شاشات التلفاز .. كانت اماندا (46 سنة) وزوجها وابنتهما المراهقة من ضمن المحتفلين بسقوط الجدار الذي كان شاهداً على عشرات القتلى الأبرياء الذين حاولوا عبوره خلال 28 عام من بنائهِ ..
***

وقد استمرّت عائلة اماندا لسنواتٍ بعدها بالذهاب كل صيف الى المانيا لزيارة قبر والدهما مايك.. 

ذلك الجندي الذي فضّل تربية ابنة العدو على تنفيذ اوامر قائديه الجائرة ! 
فهنيئاً لكل قلبٍ ظلّ ينبض بالإنسانية رغم قساوة الحروب
*************** 

التواريخ المهمّة لهذه القصة :
- الحرب العالمية الثانية : هي حرب دولية بدأت في الأول من سبتمبر من عام 1939 في أوروبا .. وانتهت في الثاني من سبتمبر عام 1945
- فرنسا الفيشية (اي عقب سقوط فرنسا بيد ألمانيا النازية) : استمرّت بين تموز / يوليو 1940 ..وأيلول / سبتمبر 1944
- جدار برلين : بين برلين الغربية وألمانيا الشرقية ، بدأ بناؤه في 13 أغسطس 1961 ، وجرى تحصينه على مدار الزمن .. لكن تم فتحه في 9 نوفمبر 1989

ولمعرفة المزيد عن جدار برلين , شاهدوا هذا الفيديو الوثائقي :

https://www.youtube.com/watch?v=NGDE9Rm1-ws&t=1152s


ملاحظة :
لقد راعيت في قصتي تسلسلّ الأحداث , كما قمت بحساب اعمار ابطال القصة على حسب التواريخ الحقيقية .. اتمنى من الله ان تنال إعجابكم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مسابقة الجدارة

تأليف : امل شانوحة منصبٌ رفيع إستوفى خمسة شباب شروط الوظيفة في شركةٍ مرموقة .. واجتمعوا في مكتب المدير العام (أغنى تجّار البلد) الذي قال لهم...