السبت، 7 أكتوبر 2017

معاً لغدٍ أفضل

تأليف : امل شانوحة


 
سأجبرهم على مراعاة حقوق الفقراء 

قد تتساءلون : ما علاقة الفضائيون بفقراء الأرض ؟! 
اذاً إسمعوا قصتي .. معكم (ألينور) وانا كائنٌ فضائي , أعيش ضمن مجتمعٍ كبير متواجدٌ في كويكبات مُبعثرة بين المجرّات .. ولدينا قانون صارم : وهو ان من يرغب بالتكاثر منّا , عليه اولاً ان ينجح في مهمّة تترك أثراً جيداً , ضمن محيطٍ لا يقلّ عن مساحة أصغر دولة في كوكبكم .. يعني بطريقةٍ اخرى .. لا يستطيع الفضائي البالغ منّا أن تصبح له عائلة , الاّ بعد قيامه لمهمّةٍ انسانية (بمصطلحكم الأرضي) ولوّ اضّطر لإنجازها بطريقةٍ شريرة ومدمّرة ! فالمهم عندنا هي النتيجة النهائية

وقد أمضيت السنوات الثلاثة الفائتة بالتنقّل بين الكواكب والأقمار الموجودة في عدّة مجرّات , الى ان عثرت أخيراً على كوكب الأرض .. 

فنزلت اليكم بهيئتي الهلامية , ايّ الشفافة التي لا تُرى بالعين المجرّدة .. وقمت بدارسة الوضع داخل بلدٍ اسمه الصين .. وقد اخترت هذا البلد تحديداً , لأن العمالة به كثيفة .. وكان عليّ إيجاد بعض القوانين الجائرة لأعمل لاحقاً على تصحيحها وفقاً للعدالة السماوية , ولوّ كان ذلك بالقوّة

وبعد شهور من الدراسة للطبيعة الإنسانية تفاجأت بأنها لا تختلف كثيراً عن الطبيعة الحيوانية ! فالأقوياء فيكم يأكلون حقوق الضعفاء دون ان يشعروا بتأنيب ضمير .. لكن أكثر ما أزعجني : هو مبالغة الأغنياء في بعثرة اموالهم على وسائل الترف والرفاهية , الاّ انهم في المقابل يضيّقون الخناق على عمّالهم وموظفينهم ويخصمون من رواتبهم الزهيدة لأتفه الأسباب ! 

ولهذا وجدت الحلّ المناسب كيّ أجبرهم على تقدير جهود العمالة الفقيرة .
وكانت خطتي كالتالي : 
فقد قرّرت السيطرة على أجساد بعض العمّال المضّطهدين من قِبل رؤسائهم لتنفيذ مهمّة الإنتقام منهم , رغم علمي مُسبقاً بأن هؤلاء الموظفين قد يطردون من أعمالهم او حتى يزجّون بالسجون .. لكني سأحرص على ان تؤدي جرائمهم (التي سأتحكّم بها) الى فتح أعين المجتمع , ممّا سيغير من تلك القوانين الجائرة والمستبدّة بشأن حقوق العمالة في المستقبل .. ولهذا أرى انه لا بأس من التضحية ببعض العمّال في سبيل تحقيق الهدف السامي .. الاّ تتفقون معي ؟ 
*** 

ومع تباشير الصباح .. كنت قد اخترتُ هدفي الأول .. لا تسألوني عن إسمه , فالأسماء الصينية صعبة الحفظ بالنسبة لي .. لكنّي سأوصفه لكم : كان رجلٌ في الأربعين من عمره , متوسط الحجم , وهو أب لولدٍ وحيد يدرس في مدرسةٍ داخلية , اما زوجته فتعمل في إحد المصانع وبإجرةٍ زهيدةٍ ايضاً ..اما عن هيئة الرجل : فكان التعب وعلامات اليأس بادية على وجهه الذي هرم قبل ميعاده , وكيف لا ومديره يخصم له كل شهر من معاشه الذي يكاد لا يسدّ الرمق , ولأسبابٍ تافهة دون ان يقدّر عمله المرهق .. فهو يعمل على إحدى رافعات البناء العملاقة .. 

حيث يبدأ عمله بصعود عشرات الدرجات قد تصل للمئات احياناً ليصل الى غرفة التحكّم الموجودة في أعلاها , والتي ترتفع لعلوّ خمسة عشر طابقاً ! وبعد ان تجسّدت في جسمه شعرت على الفور بالأرهاق الشديد , بسبب ركبته المصابة .. لكن هذه كانت البداية فقط , لأن عليه العمل لخمس ساعاتٍ متواصلة وهو عالقٌ بين السماء والأرض دون أكلٍ او مشرب او حتى دخول الحمام ! كما اني لاحظت بأن عمله يحتاج الى تركيزٍ شديد , خاصة انه يبني سوقاً كبيراً (مول) في وسط عمارات تحوي مكاتباً لشركات متوجودة في وسط البلد ..لذا كان عليه نقل الترسانة بحذرٍ ودقة كيّ لا يصطدم بالأبنية المجاورة المليئة بالموظفين .. هذا عدا عن الحرارة التي قاربت الأربعين داخل الحجرة الحديدة المسجون بداخلها ! 

كل شيءٍ كان متعباً بشكل لا يصدّق .. فبالرغم انني سيطرت على جسده لساعةٍ واحدة فقط , الاّ انه كاد يُغمى عليّ من شدة التعب بسبب الأرهاق والتركيز المستمرين .. لذا كان عليّ تخليصه من عذابه , لكن بطريقة تؤدّب جميع أرباب الورشات الأخرى ..  

فبدأت بتنفيذ خطتي الإرهابية .. حيث أخفضت مستوى ذراع الرافعة الى منتصف العمارات المجاورة .. ثم قمت بسرعة بحركة دائرية مجنونة لتخترق ذراع رافعتي كل زجاج الشركات المجاورة , ممّا تسبّب بحالة من الفوضى العارمة , وهلعٍ وفزع لسقوط ضحايا وجرحى قُدّروا بالمئات .. ليس هذا فحسب .. بل قمت برفع الذراع مجدّداً الى الأعلى كيّ أتفادى الشرطة التي قدمت الى المكان على عجل بعد اعلانها لحالة الطوارىء في المنطقة.. 

وما قمت به لاحقاً فاق تصوّرهم ! حيث وجّهت الذراع ناحية ذراع رافعةٍ اخرى كانت متوقفة قرب المول .. ثم خرجت من غرفة التحكم ومشيت مسرعاً الى هناك , ثم قفزت قرابة المتر لأصل للذراع الأخرى ..وانطلقت ناحية غرفة تحكّمها وكرّرت فعلتي ثانيةً , لكن من زاويةٍ اخرى ادّت الى تحطيم واجهة المول تماماً ..
لكن لسوء حظّ العامل (الذي انا في داخله) فقد سقط لوحٌ زجاجي فوق الكابينة التي كان فيها , لتمزّق شظية من الزجاج شراين قلبه ..وبالكاد هربت من جسده قبل ان يلقى مصيره .. 

أعرف ما ستقولونه .. كيف ساعدت العامل المسكين وانت قضيت عليه ؟ كما قلت لكم سابقاً : الهدف لم يكن هو , بل بإقامة حالة من الهلع في المدينة .. ولهذا السبب بالذات : كنت قد تلبّست جسده مُسبقاً كيّ يصوّر نفسه بجواله القديم وينشر وصيته الأخيرة عبر وسائل التواصل الأجتماعي , وذلك قبل ساعاتٍ قليلة من تنفيذي لمهمّته الأنتحارية .. 

وبالطبع أمليت عليه مضمون الرسالة : حيث أخبرت الناس ان فعلته الأرهابي (التي ينوي القيام بها) كانت نتيجة لسوء معاملة مديره له ولخفضه راتبه كل شهر دون ايّ مبرر .. كما سردّت كل مساويء مديره مع بقيّة زملائه العمّال (بما استطعت استخلاصه من ذاكرته) .. 

امّا ما حدث بعدها : فقد قامت الصحافة في البداية بوصف العامل بالمجنون والمتهوّر .. الا ان بعض العمّال في مجال تخصّصه وقفوا بجانبه وبدأوا يذكرون معاناتهم من سوء الأجرة ومشقّة عملهم في البناء في وسائل التواصل الإجتماعي المختلفة .. مما جعل بعض المحلّلين الإجتماعيين يرون العامل كضحيّة مجتمع .. بل وصل الأمر لوصف المرحوم : بالقائد لحملة حماية حقوق العمالة الفقيرة ..
وكانت هذه هي الشعلة التي أردّتها منذ البداية لتنفيذ باقي مخطّطي
***

ولكي لا أطيل عليكم , سأخبركم باختصار بما فعلته خلال الشهور الثلاثة التي عشتها في كوكبكم , وتحديداً في بلاد الصين بمنطقتها الصناعية المزدحمة بالعمالة الفقيرة
***

فبعد يومين من وفاة عامل الرافعة .. قمت باختيار هدفي الثاني : وهي مضيفة طيران كان يعاملها كابتن الطائرة بكل نذالة , فقط لأنها رفضت استغلاله الجسدي لها , ممّا جعله يُهينها من وقتٍ لآخر امام زميلاتها ومن دون سببٍ يُذكر .. ولم يكفه ذلك , بل طلب من إدارته إنقاص راتبها بحجة اهمالها لعملها .. وبصراحة لم أطقّ رؤيتها تبكي في حمام الطائرة بعد شعورها بكل هذا الظلم , لهذا كان عليّ التصرّف سريعاً .. 

فقمت بتلبّس جسمها بعد ارتفاع الطائرة الى علوٍ شاهق .. ثم انتظرت لحين موعد تقديم الغداء .. وحينها وضعت حبة المنوّم في طعام القبطان ومساعده .. وانتظرت حتى غرقا في النوم .. ومن ثم دخلت كابينة القيادة وأقفلت الباب علينا نحن الثلاثة .. ومن بعدها بدأت الطائرة تهبط بشكلٍ اضطراري , وأعلنت صافرات الإنذار حالة الطوارىء , بينما كانوا الركّاب يسارعون بوضع أقنعة الأوكسجين .. وقد حاولت بعض المضيفات إقتحام الكابينة , لكن دون فائدة .. 

امّا انا , فكنت بالداخل أخبر برج المراقبة الجويّة في المطار (بصوتها) بالرسالة التالية : 
((انا المضيفة الفلانية .. وأقوم الآن بعملية انتحارية , تضامناً مع عامل الرافعة الفلاني , ضمن حملة : حماية حقوق العمالة الفقيرة)) .. 
وبالطبع خرجت من جسدها قبل غرق الطائرة في المحيط .. 

وعلى الفور !! تناقلت الصحف العالمية خبر سقوط الطائرة , والتي صادف وجود بعض التجّار المهمّين من جنسياتٍ مختلفة على متنها .. 

وبعد هذه العملية الإنتحارية , إزدادت شهرة حملة العمالة الفقيرة أكثر وأكثر عبر وسائل التواصل الإجتماعي .. 
ورغم ان السياسيين كانوا ضدّها , الى ان افراد شعب بدأوا بالتضامن مع مرتكبي هذه الأعمال الأرهابية
***

وبعدها بإسبوع .. سمعت بالصدفة خبر قدوم سياسي اجنبي مهم الى الصين , على متن طائرته الخاصة .. ولهذا قمت بتلبّس جسد أقل العمّال راتباً في المطار , رغم أهمية عمله : بالتأكّد من إنارة جميع لمبات المدرّج المخصّص للطائرات الصغيرة .. 
وقد استغرق مني وقتٌ طويل لأقوم بتحطيم جميع الأنوار المتواجدة على جانبيّ المدرّج .. 

ولم يشعر أحد بالمشكلة الاّ بعد حلول الليل , وهو وقت وصول طائرة السياسي التي لم يرى كابتنها مكان الهبوط مما أدّى لوفاته مع السياسي ومرافقينه ..وبالتأكيد أدّى مقتله الى ضجّة اعلامية كادت تؤدي الى قيام حربٍ بين البلدين , لكنها انتهت بإعدام العامل المسكين الذي اتهموه بالجنون ..

وقد استغلّيت موضوع نقل عملية شنقه على الهواء مباشرةً كيّ اتلبّسه مرةً ثانية , وأطلق صرختي الأخيرة : مُعلناً تضامني مع حملة حماية حقوق العمالة الفقيرة .. لتعود وتُشعل وسائل التواصل الأجتماعي من جديد .. لكن هذه المرّة وصل صداها للعالم أجمع !
***

وبخلال الشهرين التاليين .. قمت باختيار اجساد بعض الفقراء الأكثر قهراً من فئة العمّال , أمثال : طبيب التخدير في مستشفى حكومي , حيث تعمّدت (وانا في جسده) على تقليل كميّة المخدّر في عملية إبن رئيس الممرّضين الذي كان يظلمه دائماً بخصم معاشه .. وبذلك عاش الأبن المراهق كابوساً مؤلماً حينما إستفاق في منتصف العملية .. وبالتأكيد تركت جسده بعد ان حُوكم بخمس سنوات سجن على اهماله , كما طرد من وظيفته للأبد ..
لكن لا يهم , طالما ان حملة حماية حقوق العمالة الفقيرة تزداد قوة كل يوم 
***

وسأذكر لكم الآن وباختصار بقية العمّال الذين استغلّيت اجسادهم لتحقيق هدفي السامي.. 
فعلى سبيل المثال : من منكم فكّر يوماً بأهمية العامل الذي يقوم بتحويل مسارات القطارات ؟ بالتأكيد لا أحد .. 
ولهذا كانت النتيجة : إصطدام قطارين ببعضهما , ممّا خلّف عشرات القتلى والجرحى 

كما انني تضايقت كثيراً من ذلك الشاب الغني الذي عامل معالج الطب الشعبي بكل احتقار , لذا قمت (بدلاً عن الطبيب) بغرز الإبرة الصينية بعنف في نخاعه الشوكي , مما ادّى لشللّ قدميه مدى الحياة 

امّا ذلك الصبي الذي كان يعمل في ورشة سيارات والذي تعوّد معلمه على ضربه بكل قسوة , فقد قمت عنه بتعطيل فرامل سيارته , ليقضي نحبه على الطريق الجبلي

وكذلك اخترت جسد عامل مجاري , لم يراعي أحد ظروف عمله السيئة والأمراض التي اصيب بها بسبب انعدام وسائل السلامة .. ولهذا قمت بالنيابة عنه بإغلاق كافة المخارج , لتغرق المدينة لأسبوعٍ كامل بالقاذورات

ثم تجسّدت في جسم نادلة كان الجميع يقوم بمضايقتها جسدياً ولفظياً , هذا عدا عن مديرها الذي حرمها من أخذ الأكرامية (البقشيش) .. فانتقمت لها بوضع مسهّل للمعدة في طنجرة الشوربة الضخم .. ليرفع الزبائن (بعد مرضهم) شكوى على صاحب المطعم (الجائر) , ويغلق محلّه للأبد 

وغيرهم كثيرون : كخدم وحرّاس شخصين , ومربيات اطفال وسائقيّ أجرة .. حيث كنت أقوم بافتعال المصائب كل يومين او ثلاثة على مدى ثلاثة اشهر ..

والمشترك بين جميع من سيطرت على اجسادهم هو انني أجبرتهم على القول للصحافة اوالشرطة : بأنهم ارتكبوا كل هذه المخالفات تضامناً مع حملة حماية حقوق العمالة الفقيرة , التي بدأها عامل الرافعة والذي إعتبروه شهيداً .. 
***

وبعد هذه الضجّة الإعلامية لحملة الفقراء , لم يعد امام الرؤساء الاّ الرضوخ لإرادة الشعب واصدار قوانين جديدة تصبّ في صالح العمّال الفقراء على حساب أرباب عملهم .. كما تمّ إنشاء منظمات وجمعيات لحماية حقوق العمّال , مما أدّى لاحقاً الى زيادة معاشاتهم وأجورهم , كما صار لهم الحقّ في الضمان الإجتماعي , ممّا رفع مستوى المعيشة لدى الطبقة الكادحة من المجتمع , والذين كانوا يعيشون سابقاً تحت خط الفقر 
***

وكما تلاحظون , نجحت خطتي بكل سلاسة ويسر .. 
نعم صحيح انه مات بعض العمّال الذين سيطرت على أجسامهم , بينما سجن البعض الآخر , كما عُوقب أكثرهم .. لكن كما يقولون : الغاية تبرّر الوسيلة .. 

فبالنهاية استطعت وحدي تغير مفاهيم مجتمعٍ بأكمله , كما قمت بموازنة المعادلة الإقتصادية بينهم .. 
وكل ما أردّته من خلال تجربتي : هو ان أنبّهكم على عدم إثارة غضب العمّال , فلربما أعتبرتم اعمالهم بسيطة وتافهة , لكن كما رأيتم : فإن إهمالهم فيها قد تؤدي الى نتائج مرعبة , وربما تكون أرواحكم بين ايديهم 
***

وبعد ان أنجزت مهمّتي في هذا الجزء المزدحم من عالمكم .. صار بإمكاني السفر الى مجرّتي وفي حوزتي جميع الفيديوهات والمستندات التي تُثبت نجاح مهمّتي (الإنسانية) , والذي سيكون مهراً محترماً لعروستي المستقبلية .. 

كما أنوي بعد رحيلي من الأرض : ان أنصح بقيّة الفضائيين (الشباب) ان يختاروا مناطقاً في كوكبكم , لفرض نظامٍ جديد يحترم الضعفاء فيكم .. لأنه بصراحة العمل مع سكّان كوكبكم يعدّ أسهل وأكثر متعة من التعامل مع سكّان بقيّة الكواكب الأخرى المعقّدين , ذويّ الردود العنيفة ! 
***

والآن اعتذر منكم لأنني سأتوقف عن الكتابة , فحفل عرسي سيبدأ بعد قليل .. لكن حتماً لي لقاءٌ ثاني معكم .. وربما آتي اليكم مع افراد عائلتي .. والى ذلك الحين .. الى اللقاء يا اصدقاء   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

التوأمتان المتعاكستان

تأليف : امل شانوحة  الطيّبة والشريرة دخلت السكرتيرة الى مكتب مديرها (جاك) لتجده يفكّر مهموماً :   - إن كنت ما تزال متعباً ، فعدّ الى قصرك ...