الاثنين، 23 أكتوبر 2017

الأمهق والخرافات

تأليف : امل شانوحة


سأبيع أطراف إبني (الألبينو) بسعرٍ غالي !

لم يكن يعرف جون (المصوّر الأمهق) ان تصوير فيلماً وثائقي في تنزانيا ستكون مغامرة خطيرة بالنسبة له !
فما ان وصل فريق العمل التصويري الى تلك القرية الفقيرة حتى تجمّع أفرادها حول المصوّر جون , يتأمّلونه بذهول وهم يتهامسون فيما بينهم 

فقال له صديقه الصحفي جاك : يبدو يا جون ان أفراد القبيلة أحبّتك انت بالذات دون عن بقيّة الفريق
جون : ربما لوني الأبيض آثار اهتمامهم , مع ان نظراتهم لي تقلقني وكأنهم ينوون على شيءٍ ما ! 

ثم تلفّت جون حوله .. 
- لقد تأخّر المترجم كثيراً يا جاك , نريد إجراء حواراً معهم قبل غروب الشمس
فأجابه جاك : لقد اتصلت به قبل قليل وقال انه في طريقه الينا , لا تقلق
***

وفي هذه الأثناء .. أخذ المصوّر جون (الأمهق) العديد من الصور , مُتنقّلاً بين الأكواخ المهترئة , ترافقه الأهالي باهتمامٍ شديد دون إكتراثهم ببقيّة اصدقائه , مما أثار الشكّ والحيرة في نفسه !
وبعد ان وصل المترجم الأفريقي اليهم , لاحظ على الفور ملاحقة القرية للشاب الأمهق .. فأسرع اتجاهه محذّراً , وقال بلغته الإنجليزية الركيكة :
- عليك الأبتعاد من هنا فوراً !!
جون بقلق : لماذا ؟! ماذا حصل ؟!

لكن قبل ان يُفهمه المترجم المشكلة , ناداه رئيس القبيلة من بعيد .. فذهب الإفريقي ناحيته , تاركاً جون في حيرة ! خاصة بعد ان إنتبه على رئيس القبيلة وهو يعطي المترجم كيساً صغيراً والذي أسرع هو في دسّه بجيب بنطاله .. 

ثم عاد الى جون بوجهٍ يصعب تفسيره : فهو من ناحية سعيد بما أخذه من القائد , وفي نفس الوقت يبدو عليه القلق والشفقة على جون! حيث قال له : 
- اعتذر منك , لكن القدر أحضرك الى مكانٍ لا يناسبك , ولا استطيع مساعدتك بشيء 
ثم ربت على كتف جون وهو يحبس دموعه :
المترجم : كان الله في عونك يا اخي 

ثم ذهب ناحية جاك وقال له كلمتين , ومن ثم أسرع بركوب سيارته المهترئة مُبتعداً عن فريق التصوير , غير مبالي بنداءاتهم له بالعودة .. فاقترب جاك من جون غاضباً :
- ارأيت هذا الأبله !! لنا أكثر من ساعتين في إنتظاره .. وحينما أتى , عاد وتركنا دون ان يُبرّر لنا سبب رحيله المفاجىء ! .. (ثم تنهّد بغضب) ..رأيته يكلّمك , فماذا كان يقول لك ؟

جون وهو يمسح عرقه بخوف : لقد حذّرني من البقاء هنا .. 
جاك باهتمام : الم يقل لك لماذا ؟
جون : لا , لكن تعابير وجهه أخافتني ! ارجوك دعنا نعود الى الفندق 
جاك : سنعود حتماً , لكن آخر شيء قاله لي المترجم الغبي : هو ان قائد القبيلة يعزمنا على العشاء , وبالحقيقة جميعنا جائعون .. لهذا سنأكل معهم ثم نعود ادراجنا .. هيا بنا , فقائدهم يُشير علينا من بعيد لمرافقته 
***

وبالفعل !! ذهب فريق العمل المكوّن من سبعة اشخاص مع قائد القبيلة الذي أجلسهم ضمن حلقة كبيرة من شباب القبيلة , يحيطون جميعهم  بشعلة نارٍ ضخمة في الوسط , كان يُطهى عليها الخاروفين ... 

وفي انتظار إنتهاء الشواء , صبّت لهم امرأة شابة افريقية جميلة بعض الشراب الأبيض في أكوابهم الخشبية ..
فهمس جون لجاك : مالذي وضعته في شرابنا ؟
- يبدو وكأنه حليب .. إشرب فالجميع ينظر الينا
جون بقلق : ولما وضعت لي من إبريقٍ مغاير عن إبريق الجميع ؟
جاك : الم تلاحظ حتى الآن ان جميعهم يعاملونك باهتمام عن بقيتنا .. بالتأكيد وضعت لك شراب الذّ من شرابنا .. إشرب يا رجل وكفّ عن القلق  

ويبدو انه كان في اكواب فريق التصوير بعض الشراب الذي أسكرهم , حيث صاروا يرقصون بغباء حول النار وهم يدنّدنون مع تلك الأغنية المُبهمة التي يُغنيها الأفارقة التنزانيين 
اما جون فقد أشعرهُ شرابه بالدوخة وبثقلٍ في عينيه وكأنه على وشك الإغماء .. وكان آخر شيء يتذكّره قبل ان يستسلم للنوم هو رؤيته لرجلين يقتربان ناحيته , وكأنهما يحاولان حَملِه !
***

وفي اليوم التالي .. استيقظ جون داخل حجرةٍ طينية , مُغلقاً بابها الحديدي بإحكام من الخارج ومساحتها لا تتجاوز المترين , وضوء الشمس يمرّ من خلال الأغصان الشجر الذي غطّت سقف المكان العالي , والأسوء انه كان يشعر بألمٍ شديد في يده .. ولم يصدّق عيناه حين شاهد قماشاً أحمراً رطباً حول يده اليسرى .. وحين فكّ الرباط كاد يُغمى عليه من هول الصدمة , حين رأى ثلاثة من اصابعه قد بُترت تماماً !

فصار يصرخ بألمٍ ورعب : إخرجوني من هنا , يا ملاعيين !! جاك اين انت !! اين انتم يا اصدقاء !! اخرجوني من هنا !! 
لكنه لم يرى أحداً حتى عصر ذلك اليوم .. وقد مرّ الوقت عليه طويلاً , قضاها بالصراخ والبكاء مع شعورٍ بألمٍ لا يطاق من أثر البتر ..

وبعد ان انهكه التعب , غفى قليلاً .. الى ان ايقظه رجلان يشيران بيدهما ان يرافقهما .. فذهب معهم مُرغماً .. وقد وضعوه في خلفية شاحنة صغيرة قديمة , وأقفلوا عليه بابها .. 
وقد تجمّع افراد القبيلة حول السيارة يودّعونه بابتسامة , وكأنهم يشكروه على أخذهم لأصابعه !

وكم رغب جون بشدّة في فهم ما يحصل حوله , مثل : أين هم اصدقائه الآن ؟ ولما بُترت هذه القبيلة اصابعه ؟ وهل كان المترجم يعرف بأن هذا سيحصل له , ولهذا طلب منه الهرب ؟ وهل فعلوا الشيء ذاته مع جاك وبقيّة فريق العمل ؟ 
عشرات الأسئلة كانت تدور في ذهنه , لكن الرجلين اللذين كانا معه في الشاحنة لا يعرفان الإنجليزية .. 

وفي منتصف الطريق , أغميّ على جون مجدّداً .. فتوقفت السيارة وركب أحد الأفريقين معه بالخلف , وصار يُشربه الماء ويغيّر له الضّماد الذي غرق بدمائه ..
فاستفاق جون بإرهاقٍ شديد وسأله : ارجوك إخبرني .. لما قطعوا اصابعي ؟ والى اين نذهب ؟ واين هم اصدقائي ؟
لكن الرجل لم يجيبه , بل ظلّ يغير له الضّماد بصمت ..
***

في المساء .. استيقظ جون داخل معسكرٍ مليء بالمهاقين ! رجال ونساء واطفال جميعهم من الإفريقين المصابين بمرض المهق .. وكان كثير منهم مقطّعي الأطراف ! ومن حسن حظ جون انه وجد احدهم يعرف الأنجليزية , لكن ما أخبره به أفزعه تماماً 

حيث قال له الرجل : 
- هنا في تنزانيا توجد اسطورة قديمة تقول : ان المهق عبارة عن لعنة , وبأن المصابين به ليسوا بشراً بل شياطين , وعلى اهاليهم التخلّص منهم كيّ لا يصابوا بالفقر والعار .. ومن جهةٍ اخرى يعتبرون السحرة والمشعوذين بأن أعضائنا تُساعدهم في إستخراج الذهب .. اما المرأة المهقاء فالإعتداء عليها يساعد في الشفاء من بعض الأمراض المستعصية كالإيدز
فصرخ جون بعصبية وخوف : ما هذا الغباء ؟! أيقتلوننا ليستخدوا أجسادنا بالسحر ؟!

الرجل الأفريقي الأمهق بحزن : ليتهم يقتلوننا لنرتاح من هذا العذاب .. فأنا كما ترى أكبر الموجودين هنا , وقد عشت سنواتي الأربعين في قلقٍ تام .. وبالنهاية وقعت في ايديهم .. فنحن في معسكرٍ لبعض التجّار الذين يجرون الصفقات مع اهم المشعوذين الذي يأتونونهم من كافة دول افريقيا ليحصلوا على اجزاءٍ منا .. وتعتبر انت محظوظاً جداً لأنك خسرت فقط ثلاثة اصابع .. انظر لذلك الطفل الصغير الذي لم يصل بعد لعمر السنتين , فقد باع والده اطرافه الأربعة ..
جون بخوف : والده ؟!

- نعم .. فبيع اعضاء المهق تعتبر تجارة ناجحة هنا .. ويمكنك تخيّل ألم هذا الصغير وهو يقطّع دون استخدام ايّ بنج او دواءٍ مسكّن 
جون بخوف : يا الهي ! لابد ان اهرب من هنا , وفي اسرع وقت 
الرجل بيأس : لا تحاول , فالمكان مقفلٌ علينا بإحكام ..
ثم عاد الرجل الى سريره , تاركاً جون يفكّر طوال اليوم بطريقة للهروب من هذا المعسكر اللعين
*** 

وبعد ثلاثة ايام .. وصل الدور على جون .. حيث تمّ بيع رِجله اليمنى بمبلغٍ كبير لمشعوذ قدِمَ من اواسط افريقيا الى تنزانيا ..
وبعد ان حملاه رجلان ضخام البنية الى وسط ساحة المعسكر , حيث كان يقف الجلاّد ومعه ساطورٌ كبير .. استطاع حينها جون تنفيذ خطته التي فكّر بها البارحة .. حيث أسرع بطعن احد الرجلين (اللذين كانا يقتادانه للمشرحة) بشظيّة من الزجاج كان وجدها في زاوية المعسكر.. فأسقطه الرجل من يده بعد ان شعر بألم الطعنة , ثم أسرع جون بسحب الشظية من كبد الرجل , ليفقأ بها عين الرجل الثاني .. وبينما كان الرجلان يتألمّان , ركض بسرعة ناحية سيارة المشعوذ المركونة قرب الساحة , ولحسن حظه وجد المفاتيح في مكانها .. 

وعلى الفور !! هرب من امام المعسكر , بينما لاحقته سيارات تجّار الأعضاء بغضبٍ شديد .. ووصلت المطاردة لأعلى الجبل .. وكان امام جون طريق واحد للنجاة بحياته , وهو ان يقفز ناحية النهر الموجود بالأسفل .. ودون تردّد منه , قفز الى هناك ليبتعد عن القتلة الذين ظلّوا يراقبون الوضع من فوق , الاّ انهم لم يروا أثراً لجون , وكأن الأسطورة الأفريقية القديمة صحيحة والتي تقول : ان جثث المهق الشيطانية تختفي بعد موتهم , تماماً كالأشباح ! 

وبهذه النهاية ..عادوا بخيبة امل الى المعسكر , في محاولة من قائدهم لإقناع المشعوذ الغاضب باختيار أمهقٍ آخر من المعسكر بدلاً من جون الذي خسروه بالمطاردة
***

استيقظ جون بعدها في سريرٍ بلاستيكي دافىء داخل خيمةٍ صغيرة .. فخرج منها قلقاً وهو يصرخ : اين انا ؟!!
لكنه ارتاح كثيراً حين رأى صديقه جاك خارج الخيمة .. فأسرع بحضنه وهو يعاتبه بحزن :
- لما تركتموني مع تلك القبيلة المتوحشة ؟ 

جاك : عندما استيقظنا من سكرتنا في اليوم التالي لحفلة الشواء , اخبرونا عن طريق الإشارة انك ذهبت قبلنا , لكن بعد ان وصلنا الى الفندق لاحظنا إختفائك , وحينها توجّه كل شخصٍ من الفريق الى منطقة مغايرة للبحث عنك .. وكنت محظوظاً حين مررّت بالصدفة قرب النهر , ووجدتك مغشيّاً عليك عند ضفّته , فحملتك الى هنا وغيّرت ملابسك المبلولة , وكذلك ضمّادة يدك .. 
- شكراً لك .. لكن علينا العودة الى الفندق سريعاً , فوجودنا هنا ليس آمناً 
- لقد اتصلت بالأصدقاء وهم قادمون بعد قليل , سنكون بخير يا صديقي ..لا تقلق .. فقط إخبرني بما حصل لك , وكيف أصيبت يدك ؟!

فأخبره جون بكل شيء..وبعد ان انتهى من سرد رحلة معاناته في الأيام الفائتة , حاول صديقه جاك تهدأته :
- خذّ !! إشرب هذا الحليب يا جون واهدأ قليلاً , فنحن سنعود الى الوطن غداً صباحاً .. واظنّ ان مدير التحرير سيسعد بتقريرك عن المخاطر التي يواجهها المهق في تنزانيا , وانا متأكّد ان تجربتك ستثير ضجّة اعلامية , مما سيساعد في إنقاذهم من حالة الرعب التي يعيشونها هنا

- نعم بالتأكيد سأحاول انقاذ المساكين من ذلك المعسكر اللعين !! لكن علينا اولاً العودة الى الفندق او التوجّه لأيّ سفارة اجنبية , فأنا خائف ان يجدوننا ونحن هنا في البرّية 
- لا تقلق ..فقط اشرب حليبك وارتحّ قليلاً 
يتنهّد جون بتعب : نعم , فأنا احتاج للراحة بالفعل .. 

وبعد ان شرب الحليب ..
جون بارهاق : سأدخل الخيمة , لربما انام قليلاً بعد ذلك الكابوس الذي عانيته في الأيام الفائتة .. لكن إيقظني يا جاك حين يأتي اصدقائنا

وبعد ان نام جون .. خرج المترجم الإفريقي من الغابة القريبة منهما .. واقترب ناحية جاك الذي كان يُشير له بالإقتراب منه :
جاك : هيا تعال ..فقد نام اخيراً
المترجم بصوتٍ منخفض : جيد انني اختبأت بسرعة قبل ان يراني معك 
وهنا مدّ جاك يده للمترجم : اين المال الذي اتفقنا عليه ؟
- لقد اتصلت قبل قليل برئيس المعسكر وهو قادم مع فريقه لأخذ جون , فالمشعوذ لم يرغب في تغير الصفقة ويصرّ على جون بالذات , لأنه امهق امريكي وهذا يعجب اصحابه الجن كما يقول ..ولا تقلق , فهم سيدفعون لك كما دفع لي قائد القبيلة من قبل , فنحن كرماء بهذا الشأن 

فنظر جاك لصديقه جون النائم بوداعة الأطفال داخل الخيمة , ثم قال بشفقة: 
- اتمنى لو ان المخدّر الذي وضعته له بالحليب يُبقيه نائماً الى وقت حرقه حيّاً كقربان للشياطين .. (ثم يتنهّد بضيق) .. ماذا عسايّ ان أفعل يا عزيزي جون , فكيس مليء بالذهب يُعتبر صفقة العمر بالنسبة لي .. أعذرني يا صديقي , وليكنّ الله معك في رحلتك الأخيرة نحو الجحيم

*********

ملاحظة :
هذه القصة مأخوذة عن تقريرٍ صحفي يتكلّم عن المخاطر التي يُواجهها المهق في شرق افريقيا وملاّوي , وتنزانيا تحديداً !  

- رابط المقال الأول :
http://www.emaratalyoum.com/life/four-sides/2014-03-05-1.655103

- رابط المقال الثاني :
http://radionagham.com/?p=782

- كما شاهد هذا الفيديو :
https://www.youtube.com/watch?v=tAutqMq8qGw

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المحطّة الأخيرة

كتابة : امل شانوحة    المصيّدة الدمويّة ركبت الصبيّة الحافلة بعد انتهاء عملها الليليّ في إحدى المطاعم ، وهي تشعر بالإنهاك والتعب الشديد.. وم...