السبت، 19 أغسطس 2017

قلبي محرمٌ عليك

فكرة : اختي اسمى
كتابة : امل شانوحة


فلسطين,اسرائيل,حب,احتلال,وطن
سأظلّ مخلصة لإبن بلدي

مع بداية أمسيةٍ هادئة في إحدى بيوت غزّة الفلسطينية .. سمع الشاب طرقاً على باب المنزل , ففتحه ليجد صبيّة تُلقي عليه التحيّة بابتسامةٍ عريضة :
- عزوز !! كيف حالك يا ابن خالتي ؟
فأجابها بارتباك : انا ! ..انا بخير .. من انتِ ؟!
فأجابته بحماس : انا فرح !! هل نسيت صديقة طفولتك ؟!.. (ثم ضحكت) .. بصراحة لا الومك لأنك لم تعرفني , فشكلك ايضاً تغير عليّ كثيراً 
بتلبّك : انا ...

مقاطعة : الن تدخلني المنزل اولاً ؟ فقد قدمت من اميركا الى مصر , ومن ثم اوقفوني يومين عند معبر رفح , ولهذا انا متعبة للغاية .. آه صحيح ! أخذنا الكلام ونسيت ان اسألك , اين هي خالتي ؟
وقبل ان يجيبها , اكملت طريقها الى داخل المنزل وهي تجرّ شنطة سفرها , وتنادي بصوتٍ عالي : خالتي انا أتيت !! 
بينما وقف يراقبها وهو مازال مندهشاً من حماستها !  

في الداخل .. وبينما هي تَجول في الدار .. 
فرح : واو  !! البيت مازال كما هو منذ ستّ عشرة سنة ! ..آه لا اصدّق !! أمازالت هنا ؟! اتذكر يا عزوز عندما كنّا نلعب على هذه الأرجوحة حين كنّا صغاراً .. وتعال انظر هنا !! اسمي واسمك مازالا محفورين على هذه الشجرة .. ياه ! لقد نمَت كثيراً عن آخر مرّة رأيتها فيها قبل مغادرة فلسطين مع اهلي 
الشاب مُستفسراً : ولماذا تركتي اسرائيل ؟
فقطّبت فرح جبينها باستنكار : اسرائيل ! منذ متى كنّا نعترف بهذه الدولة اللعينة يا عزوز ؟!

فالتزم الصمت , بينما أكملت هي كلامها :
فرح : هيا لم تخبرني بعد , اين امك ؟
- زوجة ابنها انجبت طفلة على ما اعتقد , وستبقى عندهم اسبوعاً
فضحكت فرح ساخرة : الا تدري ماذا انجب اخوك ايها الأحمق ؟
فقال بضيق : المهم الآن !! هل تعرفين عنوانه ام اعطيك ايّاه ؟

- مابك غضبت هكذا ؟! كنت امزح معك .. (ثم تفكّر قليلاً) اسمع !! سأبقى هنا الى حين عودتها , وبذلك انتبه على بيتها وعلى اخي وصديقي عزوز , ما رأيك ؟
بلا مبالاة : كما تشائين , انا ذاهبٌ الى غرفتي 
فرح بدهشة : الا تريد ان تتعشّى معي ؟!
الشاب : لا !! أكلت قبل قليل , وستجدين بقايا طعام في الثلاجة .. تصبحين على خير

وبعد ان أقفل عليه باب غرفته , قالت فرح في نفسها : 
- لما تغيرت معاملته معي هكذا ؟!
*** 

وفي اليوم التالي .. استيقظت فرح ظهراً .. وخرجت من الغرفة لتجد عزوز يبحث عن الطعام في الثلاجة 
- صباح الخير عزوز
معاتباً : الم تتركي لي شيئاً يُأكل ؟!
فرح باستغراب : منذ متى نُعامل الضيف بهذا الأسلوب يا عزوز ؟! ثم لم يكن هناك اصلاً سوى صحن حمص صغير , فأكلته ونمت .. لكن ان ضايقك الموضوع فسأعزمك على الغداء .. هل مازال مشاوي ابو مازن موجود ؟
- اعتقد هذا .. هيا بنا
فحدّثت نفسها باستغراب : لقد اصبح بخيلاً ايضاً ؟!
*** 

بعد ساعة .. وفي طريق عودتهم الى المنزل بعد ان تناولا الغداء على حسابها , قالت فرح :
- والله لا يوجد أطيب من اللحم المذبوح على الطريقة الإسلامية .. اتعلم يا عزوز اننا كنّا نضّطر الى الذهاب الى ولايةٍ ثانية لإحضار اللحم الحلال , اما باقي الشهر فكنّا نطبخ الخضار فقط .. مابك صامتٌ هكذا ؟ اذكر أنك كنت ثرثاراً في صغرك 

وهو يلتفت يميناً ويساراً بقلق : لا شيء , لكني اريد العودة الى المنزل .. فأنا لم اعدّ احب التجول في الشوارع  
فرح بشفقة : آه فهمت .. لقد اخبرتنا خالتي بالهاتف (قبل ان تنقطع الإتصالات بيننا بسبب الحصار) عن موت صديقك برصاص العدو , وبأنك حملته بنفسك الى المستشفى لكنه مات بين يديك .. اظن ان الحادثة اثّرت كثيراً على نفسيتك , اليس كذلك ؟
فأومأ برأسه موافقاً

فرح : لا تحزن يا عزوز هو بالنهاية شهيد , ونحن لا نبكي الشهداء لأنهم احياءٌ عند ربهم يرزقون .. (ثم تقول بفزع) .. آه يا الهي , ليس الآن ! 
بقلق : ماذا هناك ؟!
فرح : انظر !! انها مداهمة صهيونية 
وهنا دخلت دبابةٌ اسرائيلية الى الحيّ الفلسطيني في غزّة , يرافقها اربعة جنود مدجّجين بالسلاح .. 

وعلى الفور !! تجمّع الفتيّة من كل مكان وبدأوا يرشقونهم بالحجارة .. حتى ان فرح ركضت باتجاههم وصارت تشاركهم برميّ الحجارة , لكن عزوز أسرع اليها وشدّها من يدها معاتباً
- هم قدموا لإجراء تفتيشٍ روتيني , فلما يجب تحويلها دائماً الى ساحة معركة ؟! هيا امامي الى المنزل !! ودعي الجنود يقومون بعملهم  
وسحبها من يدها بعنف .. 
***

وبعد ان ابتعدا عن الجنود , سحبت يدها منه بغضب .. 
فرح : مابك يا عزوز ؟!! لما تغيرت هكذا ؟ أكاد لا اعرفك !
فأجاب بعصبية : وهل ضروري ان يُصاب طفلٌ في كل مواجهة ؟!!
- لكن عندما كنت في مثل عمرهم , كنت اول المدافعين عن الحيّ ..الا تذكر ؟
لكنه لم يجيبها ..

فرح : طيب اتذكر ذلك اليوم , عندما اردّت مشاركتكم برميّ الحجارة بعد عودتي من المدرسة , وقتها ايضاً رفضت الأمر وأمرتني بالعودة الى منزلي .. لكنك فجأة صرخت بألم .. وكم خفت عندما رأيت الدم يخرج من ذراعك بعد ان أُصيبت برصاص العدو ..ومع هذا لم تبكي ! ثم نقلوك بسيارة الأسعاف , وركضت انا كالمجنونة لأخبر خالتي كي تلحق بك .. كم كنت شجاعاً وقتها يا عزوز !

- أمازلتي تذكرين احداث الماضي ؟!
- لم انسى شيئاً رغم غربتي الطويلة في اميركا بعد ان هدم اليهود بيتنا..
مقاطعاً : هل هدموا بيتكم ؟ لماذا ؟!
بدهشة : عزوز ! هل أصبت في رأسك ايضاً ؟ الا تعرف انهم هدموا بيتنا بعد ان استشهد اخي الكبير في عمليةٍ تفجيرية في تلّ أبيب ؟! 
- هو بصراحة ... أُصبت فعلاً في رأسي من حجارةٍ رماها عليّ أحد الأطفال بالخطأ , حتى انظري ..

وأراها أثر جرحٍ قديم في جبهته بعد ان رفع شعره عن جبينه
فرح : الهذا صرت تنسى بعض المعلومات عن الماضي ؟!
- نعم للأسف .. لكن لا تخافي , لم اصبّ بعد بالزهايمر .. فقط لا تستغربي ان وجدّتيني نسيت بعض ذكرياتنا سويّاً
- حسناً فهمت ! عافاك الله يا عزوز.. 
- لا عليك .....وهآقد وصلنا الى البيت
***

في المساء .. بينما كانا يتناولان عشاءً خفيفاً , سألها مستفسراً :
- آه صحيح فرح .. كيف سمح لك والدك بالقدوم لوحدك الى هنا ؟
فأجابته بحزن : والله لو كانت امي مازالت على قيد الحياة لكانت منعتني خوفاً عليّ , لكن ابي بعد ان تزوج بإمرأة اجنبية للحصول على الجنسية الأمريكية..
فأكمل عنها الكلام : اصبح اكثر تحرّراً
فرح : ليس بالضبط , لكنه انشغل بحياته الخاصة او ربما تفهّم عملي كصحفية .. اتدري , جيد انك ذكّرتني .. هل تذهب معي غداً الى مزرعة الزيتون ؟

- وماذا عندك هناك في القرية ؟
- الم تسمع ان الأسرائيليين يهدمون منازل المزارعين ويقطعون اشجار الزيتون ؟
- اعتقد انهم لا يفعلون ذلك الاّ لبناء مستعمراتهم 
- يا سلام ! أضاقت أعينهم على بيوت المساكين ! الا تعرف كم تحتاج شجرة الزيتون الى ان تكبر وتثمر حتى يأتي هؤلاء الملاعيين ويقطعونها .. ثم تعال هنا !! لما احسّ بأنك تدافع عنهم ؟!

- انا لا ادافع عن احد , فقط اعطيك وجهة نظرهم للموضوع
بعصبية : انا لا تهمّني دوافعهم , ولا يجب ان تهمّك انت ايضاً !!
فيضحك قائلاً : كنت فقط أمتحنك كيّ أعرف ان كانت الغربة غيّرتكِ ام لا 
- لا شيء يغير حب الفلسطينيين لبلدهم يا عزوز
فتبسّم لها قائلاً : أحسنتِ يا ابنة خالتي !!
*** 

ومنذ الصباح الباكر , ذهبا معاً الى القرية .. وما أن بدأت فرح بأخذ الصور لبعض البيوت المهدّمة والأشجار المقتلعة حتى تساقطت الصواريخ عليهم من كل مكان ! فركضت فرح وعزوز مع بعض النسوة فزعين الى ملجأٍ حجري موجود أسفل بيتٍ صغير , وقد إزدحم المكان بهم .. 

وفي خضمّ الأحداث .. شاهد عزوز امرأة فلسطينية تحاول اقناع ابنها ذو العشر سنوات بالبقاء معها في الملجأ , لكنه سحب يده قائلاً بحزم :
- الملجأ للنساء يا امي , وانا سأبقى فوق مع الرجال لنمنع اليهود من دخول أراضينا !!
وبعد ذهابه , أغلقت النسوة عليهنّ باب الملجأ , فأحسّ عزوز (الذي اختبأ معهنّ) بالخزيّ امام شجاعة هذا الصغير
***

وبعد ان هدأت صوت الإنفجارات في الخارج ..استغلّت فرح وجودها بينهنّ فصارت تسألهنّ عن قصص المواجهة التي حصلت بين اهالي المنطقة والإسرائيليين 
فأجابتها امرأة عجوز بفخر : انا استشهد لي شابين , اما بناتي فزوجتهنّ الى الخارج , وقد الححّنَ عليّ للحاق بهنّ لكني رفضت ترك فلسطين .. بالرغم من انني بقيت لوحدي أزرع الأرض بعد وفاة والدهم الشهر الفائت , وسأبقى أعمل فيها الى ان يأخذ الله امانته

فردّت الثانية قائلة للعجوزة : إحمدي ربك انهم لم يحرقوا ارضكم كما فعلوا معنا .. والله ان والدي العجوز ظلّ يُطفأ بردائه شجرة البرتقال التي زرعها والده الى ان مات فوق ارضه
عزوز بدهشة : يا الهي !

بينما وصفت امرأة ثالثة كيف عذّب اليهود ابنها الكبير الذي تمّ القبض عليه بعد فشل عمليته الإنتحارية , وقد حوكمَ بالسجن المؤبد
وقد شارك جميع من كان في الملجأ بقصصهم التي دار موضوعها حول وحشية اليهود ومخالفتهم لكل القوانين الدولية بحق الفلسطينين , بينما دوّنت فرح هذه الأخبار في مسجّلٍ صغير كانت تحمله , امّا عزوز فكان يستمع لتلك القصص بغرابةٍ كبيرة !
***

وبعد ان هدأ الوضع ..خرج الجميع من الملجأ متوجهين الى بيوتهم وأراضيهم لتفقدها بعد سقوط تلك الصواريخ عليها
فقال عزوز لفرح ..
- أكاد لا اصدّق ما سمعت ! هل كان الأعلام يخدعنا ؟!

فرح باستغراب : عن ايّ اعلام تتحدّث ؟! ان كنت تقصد الغربي فبالتأكيد !! اصلاً كلّ اخبارهم كذب وافتراء .. (ثم تسكت قليلاً) يا اخي حقاً ! هل انقلبت الأدوار ؟
- ماذا تقصدين ؟
- يعني انا من عشت طفولتي بالغرب وانت عشت هنا , لكن تفكيرك هو المشوّش وليس انا ؟!

فوضع يده على أثر الجرح في رأسه وقال مبتسماً : يبدو انني في طريقي الى الزهايمر 
فضحكت فرح ساخرة : والله هذا ما كان ينقصك .. هيا نعود الى البيت قبل ان تغيب الشمس , ولنحمد الله اننا عدنا سالمين 
***

وبعد ان وصلا الى منزلهما في المساء , أراد عزوز الإستحمام لكن الماء كانت مقطوعة , فقامت فرح بتسخين له بعض المياه الموجودة عندهم في بركة الدار .. وبعد ان خرج من الحمام وجدها قد انتهت من تحضير العشاء
فرح : هيا لنتعشّى يا عزوز , ثم نذهب لننام فقد تعبنا كثيراً اليوم

وهنا انقطعت الكهرباء..
عزوز بضيق : لا هذا كثير !! لا ماء ولا كهرباء
فسألته فرح : واين تضع امك الشموع ؟
- والله لا ادري .. اظنني رأيتها آخر مرة تُخرجهم من الخزانة الموجودة أسفل المجلى بالمطبخ 

ثم جلسا يأكلان الطعام على ضوء الشموع , فمازحها عزوز قائلاً: 
- وكأنه عشاءٌ رومنسي
فلم تجبه فرح بل اكتفت بابتسامةٍ خجولة

وبعد قليل.. 
عزوز : لقد شبعت 
فرح معاتبة : قل الحمد الله , فهذه النعمة لا يجدها الكثيرون من شعبنا
- هذا صحيح .. على فكرة , طعامك جداً لذيذ يا فرح
- طبعاً سيكون لذيذ طالما انني اطبخ لأخي العزيز 
فقال لها معاتباً : انا لست اخوك يا فرح , وايّاك ان تنسي ذلك
وغمزها بغزل .. ثم ذهب الى غرفته , بعد ان تركها تشعر بفرحةٍ عارمة
***

في ظهر اليوم التالي ..
خرجت فرح من غرفتها وهي تلبس ثياباً مُحتشمة و حجاباً , فقال لها عزوز باستغراب : هل تحجبتي يا فرح ؟!
فأجابته بابتسامة : بإذن الله سأفعل يوماً ما .. لكننا سنذهب سويّاً لصلاة الجمعة في المسجد الأقصى , فقد اشتقت اليه كثيراً .. 
- اذاً هيا بنا 
- اذهب اولاً و توضأ , وانا سأنتظرك عند الباب ..لا تتأخّر عليّ 
***

وبعد ان وصلا الى المسجد الأقصى , أوقفهما حاجز تفتيشٍ يهودي 
فقال عزوز لفرح : أدخلي انت مع النسوة وانا سأتكلّم معهم 
فرح بقلق : عزوز .. الصهاينة لا يمكنك محاورتهم , لذا دعهم يفتشونك دون ان تثير المتاعب 
عزوز بحزم : فرح !! أدخلي الى مصلّى النساء , وانا سأحلّ الموضوع
ثم ذهب نحو الحاجز وصار يتكلّم مع اليهود..
  
وبعد قليل .. سمحوا له بالدخول الى الجامع , بينما تمّ منع معظم الشباب الغاضبين من تجاوزهم.. وقد راقبت فرح من بعيد عزوز وهو يمرّ من ذلك الحاجز بدهشة !

وفي داخل الجامع ..
اصطفّ عزوز مع كبار السنّ للصلاة , حيث قال لهم احدهم :
- جميل ان نرى شاباً يصلي معنا 
بينما قال له العجوز الآخر : يبدو ان لديك واسطةً قوية يا بنيّ ؟
لكن عزوز اكتفى بالإبتسامة لهما , مع ارتفاع تكبيرة الصلاة
***

وبعد انتهاء خطبة الجمعة , اقترب منه العجوز معاتباً :
- مرةً ثانية ايها الشاب .. لا تتلفّت كثيراً في الصلاة , فهذا لا يجوز  ..مفهوم ؟
فهزّ عزوز رأسه موافقاً , وهو يقول في نفسه : جيد ان فرح لم تراني وانا احاول تقليد العجائز , لأنني ابتعدّت كثيراً عن الروحانيات في الآونة الأخيرة .. سامحني يارب
***

لكن وقبل خروج المصليين من جامع الأقصى تفاجأوا بمداهمة لجنود يهود ارادوا اقتحام المسجد .. 
وعلى الفور !! اسرع العجائز والنسوة والأطفال برشق الأحذية في وجه الجنود , وقد شاركهما في العراك عزوز وفرح 
***

وبعد ان هدأ الوضع بتراجع الجيش اليهودي الى خلف الحاجز كما يحصل معهم دائماً , اقتربت فرح من عزوز الذي كان يفتشّ في كل مكان بضيق ..فقالت له فرح ممازحة :
- لا تحاول , لن تجد حذائك بين اكوام الأحذية المرمية هنا وهناك 
- وماذا نفعل الآن ؟!
- نعود حفاة الى بيتنا 
عزوز بدهشة : أبهذا الحرّ ؟
- يا اخي وكأنك تعيش في سويسرا طوال حياتك , الا تذكر عندما كنّا صغاراً كنّا نحمل احذيتنا بأيدنا ونسرع بالركض هرباً 

عزوز مستفسراً : هرباً مِن مَن ؟!
فرح : من جارتنا أم أمجد .. هل يا ترى مازالت حيّة ؟
- لا ادري .. لكن لما كنّا نهرب منها ؟
- يا الهي ! ذاكرتك بدأت تزداد سوءاً .. تعال معي , فبالرغم انني عشت معظم حياتي بالغربة , الا انني مازلت اذكر عنوان بيتها  
***

لكنهما اولاً ذهبا الى البيت ولبسا حذائين آخرين , ومن ثم ذهبا الى عنوان السيدة .. وما ان وصلا الى بيت العجوز , حتى قالت فرح بسعادة : نعم هذا هو بيتها !! 
عزوز : لم تجيبيني بعد , لما كنّا نهرب منها ؟
- لأن المسكينة فقدت عقلها بوفاة ابنها الوحيد .. ونحن حين كنّا اطفالاً أشقياء , اعتدنا مضايقتها برنّ جرس بابها ومن ثم الهرب قبل ان تلحقنا هي بعصاتها .. يعني هكذا 

ورنّت جرس بابها , ففتحت لهما أم أمجد وهي تتكأ بصعوبة على عصاها بعد ان كبرت في العمر , فنظرت اليهما من خلف نظّارتها السميكة , ثم سألت فرح اولاً :
- ابنة من انت ؟
فرح : انا ابنة عصام يا خالة , هل تذكريني ؟
- نعم .. الم تهاجروا الى الخارج ؟
- نعم نعم ... وقد عدّت الى فلسطين قبل ايام .. وهذا عزوز ابن غسان , اتذكرينه ؟

وبعد ان أمعنت النظر فيه قالت العجوز : لا , هذا ليس ابن خالتك !
فأمسك عزوز بيد فرح وسحبها اليه (هامساً لها) : اظنّ ان المسكينة فقدت عقلها تماماً ! هيا بنا نذهب الى البيت , فأنا جائعٌ للغاية
فقالت فرح للعجوز : حسناً يا خالة , سأزورك ان شاء الله بعد ايام ..الى اللقاء 

لكن العجوز لم تجيبها بل دخلت الى بيتها بعد ان صفقت الباب بقوة في وجهيهما , فضحك عزوز قائلاً :
- يالها من مجنونةٍ خرِفَة
فرح معاتبة : عيب يا عزوز , تبقى امرأة كبيرة في عمر جدّتنا .. 
ثم تذكّرت شيئاً أضحكها..
عزوز : مالذي يضحكك ؟
فرح : كنت أحمد الله انها لم تلحقنا بالعصا كأيّام زمان 

وأكملت الضحك , بينما إكتفى عزوز بمراقبتها مع ابتسامةٍ حنونة 
فرح : لما تنظر اليّ هكذا ؟!
عزوز : لأني مستغرب قليلاً 
- من ماذا ؟
- يعني اخوك شهيد وامك ايضاً متوفية ووالدك مشغول مع زوجته الجديدة , وتعيشين في الغربة , ومع هذا كلّه مازلتي تضحكين ؟!
- الم تكن تقول لي دائماً في صغرنا ان الشعب الفلسطيني لا يكسره شيء
عزوز بنبرةٍ حزينة : نعم بالفعل .. الفلسطينيون شعبٌ جبّار !
- صحيح , هيا نعود الى البيت , فأنا جائعة مثلك
***

وقبل ان يصلا البيت , سألته :
فرح : آه صحيح , لقد نسيت ان اسألك ..كيف أدخلك الجنود الصهاينة الى جامع الأقصى , فهم لم يسمحوا لأيّ شاب آخر بالدخول ؟!
عزوز : لقد قلت لهم بأننا صحفيين 
فرح : على حدّ علمي , هم لا يأذنون لأيّ صحفي بتصوير ما يحدث بالداخل .. لا والغريب ايضاً انهم اكتفوا برؤية هويتك دون تفتيشك !
عزوز : المهم ان الخدعة انطلت عليهم وهذا ما يهمّنا .. هيا !! لندخل الى البيت
***

وفي المنزل , وبعد مرور ساعة .. خرجت فرح من المطبخ وهي تحمل صينية الأكل وتدخل الى غرفة عزوز دون استئذان , لتتفاجأ بلوحة له مرسوماً فيها علم اسرائيل 
فرح معاتبة : لما ترسم علمهم يا عزوز ؟!
فأجابها بعصبية : فرح ! عليك طرق الباب قبل الدخول الى غرفتي
- آسفة لكني كنت أحمل صينية الطعام بكلتا يديّ .. والآن لو سمحت أجبني على سؤالي ؟

- اللوحة لم تكتمل بعد يا فرح , فأنا كنت أنوي ان أرسم تحت علمهم طفلاً فلسطينياً يحاول اشعاله بالنار .. 
- آه فهمت .. لكن أتدري .. لم اكن اعرف انك رسّامٌ ماهر هكذا , منذ متى طوّرت موهبتك ؟
- يعني منذ سنتين بدأت التمرّن على الرسم .. لحظة ! سأريك باقي لوحاتي 
- سأراها كلّها بالتأكيد , لكن دعنا نأكل اولاً قبل ان يبرد الطعام
***

في المساء وقبل ان يذهبا الى النوم .. دخل عزوز المطبخ ليساعد فرح في جليّ الصحون 
فرح : لا داعي يا عزوز .. اذهب انت للنوم وانا سأرتب المطبخ ثم انام 
عزوز : لا , سننهيها سويّاً

وبعد ان اصرّ على المساعدة , صارت تغسل هي بالصابون وهو بالماء ..الى ان سمعا صوت مفاتيح آتياً من الخارج
فقالت فرح لعزوز بقلق : ما هذا الصوت ؟!
عزوز بضيق : يبدو ان خالتك عادت الينا 
معاتبة : الظاهر انك تشاجرت مع امك كعادتك ايها الشقيّ , هيا تعال معي لأصالحكما على بعض

و أمسكته من يده وسحبته نحو الباب الخارجي .. لكن ما ان فتحت خالتها الباب ورأت ابنة اختها تمسك بيد الشاب , حتى غضبت غضباً شديداً وأبعدتهما عن بعض بعنف :
- اترك يدها ايها اللعين !!
فرح بدهشة : خالتي ! أمازلتي غاضبة من ابنك ؟!
فصرخت الخالة بغضب : هذا ليس ابني يا فرح , بل هذا هو اليهودي الذي قتل عزوز واحتلّ نصف بيتنا !!

ووقع الخبر كصدمةٍ عنيفة على رأس فرح التي كانت تعشق ابن خالتها منذ الصغر 

فتدخل الشاب محاولاً تهدئة الموقف وقال لخالتها : 
- قلت لك الف مرة بأنني لم اقتل ابنك بل العسكري الذي كان يرافقني .. فأنا مجرّد رسّام ايطالي , هو صحيح ان امي يهودية لكن والدي مسيحي , والمسؤولين في مجال عملي ارسلوني الى اسرائيل , وهم من اعطوني هذا العنوان , وولله لم اكن اعرف ان البيت مسكون ..ولوّ لم يشجّ ابنك المجنون رأسي بالحجارة لما أطلق المرافق عليه النار .. كم مرة عليّ شرح هذا الموضوع لك يا خالة ؟
- لا تقل لي خالة ابداً , ايها اللعين !!

وهنا إسودّت الدنيا في وجه فرح , وانهارت قواها وسقطت على الأرض ..فحاول الأيطالي حملها لكن الخالة أبعدته عنها .. 

فعاد الى غرفته حزيناً بينما كانت الخالة تغسل وجه فرح بالماء لتستعيد وعيها..  

وبعد ان أدخلتها غرفتها , قالت لها الخالة معاتبة :
- إمسحي دموعك يا فرح واخبريني , كيف بقيت اسبوعاً معه دون ان تلاحظي بأنه ليس عزوز ؟!
فرح بحزن : انا لاحظت ان تصرّفاته تغيرت كثيراً , لكن شكل هذا اللعين لم يكن أجنبياً بل هو أقرب الى الرجل الشرقي ولهذا انخدعت به .. (تسكت قليلاً) ..انا قلبي يؤلمني كثيراً يا خالة
فحضنتها خالتها لتدخل فرح في نوبةٍ من البكاء المرير 

وقد نامت فرح تلك الليلة وهي غارقة بدموعها حزناً على كل تلك المشاعر التي أصبحت فجأة محرمةٌ عليها
*** 

ومرّ اسبوعٌ كامل .. لم تتحدّث فيه فرح بكلمة مع الشاب الأيطالي الذي عرفت بأن إسمه (ليوناردو) .. الى ان أتى اليوم الذي تمّ فيه الأعلان بأن الغد هو اول ايام رمضان .. فوضعت فرح السلم في ساحة البيت وبدأت بتعليق زينة رمضان ... وهنا سمعت صوته وهو يقول لها :
- أتريدين المساعدة ؟

فارتبكت وكادت تسقط من السلم لكنه امسكها , فنزلت غاضبة من السلم وهي تقول :
فرح : ايّاك ان تلمسني ثانيةً , أفهمت ؟!!
فطأطأ ليوناردو رأسه بحزن قائلاً : كما تشائين يا فرح .. وانا أعدك بأن اعود الى ايطاليا في نهاية الشهر 
فقالت له بلؤم : سيكون حينها عيدنا عيدين
فخرج من البيت مذهولاً وغاضباً في نفس الوقت
***

ومضت ايام رمضان .. ومازالت فرح وخالتها تتجنبان الحديث مع الشاب او حتى النظر في وجهه طوال الوقت , بينما ظلّ هو يراقبهما من بعيد , خاصة في وقت الفطور والسحور , لكنه لم يكن يشاركهما الطعام , بل كان يشتري الطعام لنفسه ويأكله وحيداً في الغرفة ..
*** 

وفي منتصف الشهر.. اشتمّ ليوناردو رائحة جميلة عند الأفطار جعلته يخرج من الغرفة .. وكانت حينها فرح تحمل طنجرة الطعام متوجهة الى غرفة الجلوس , فناداها من بعيد بصوتٍ منخفض كي لا تسمعه خالتها 
- فرح .. فرح .. ماذا طبختم لهذا اليوم ؟ لأن الرائحة زكيّةٌ جداً
لكنها لم تجيبه , بل دخلت الى غرفة الجلوس واغلقت الباب خلفها .. فعاد هو حزيناً الى غرفته ..  
***

وبعد الإفطار .. وفي اثناء انشغال الخالة بإعادة بقايا الطعام الى الثلاجة .. سمع ليوناردو طرقاً خفيفاً على بابه , ففتح الباب ليجد فرح ومعها صحن طعامٍ له , فأخذه منها بسعادة وهو يقول مازحاً :
- هل وضعت فيه السمّ ؟
فأخذت فرح الملعقة وأكلت قليلاً منه , ثم قالت بلؤم :
- هل اطمأنيت الآن ؟ ..ولا تقلق ثانيةً , فنحن شعبٌ لا يعرف الغدر .. والآن سأذهب لأحضر لك ملعقة اخرى
لكنه سحب منها الملعقة قائلاً :
- بالطبع لن اشمئزّ من حبيبتي 

لكنها لم تهتمّ لغزله , فسألها بعد ان تناول لقمة من الصحن 
- يا الهي طعمها لذيذٌ جداً ! ما اسم هذه الطبخة ؟
- اكلة المسخّن من دجاج وصمّاء وبصل وخبز مرقوق , هي طبخة مخصّصة للمناسبات

ثم نظرت الى الواحه الفنية والألوان مبعثرة في الغرفة , وقالت له مُنبّهة :
-حاول ان لا توسّخ غرفة الشهيد عزوز 
- اصلاً انا اعدّت جميع اغراضه لأمه , ما عدا صورة له كانت معلقة على الحائط
- واين هي ؟
- في الدرج
فمدّت يدها له , قائلة بحزم : اعطني ايّاها !!
فردّ ممازحاً : لا !! انا اغار عليك منه
فنظرت اليه شزراً واغلقت الباب خلفها , وهي تقول بصوتٍ منخفض وبغضب :
- ياله من أحمق !!
***

وانتهى رمضان سريعاً .. وفي صباح العيد .. رآها تلبس ثياباً جديدة جميلة , فقال لها :
- كم جميلٌ عليك هذا الفستان يا فرح
لكنها لم تجيبه .. 
وبعد قليل .. خرجت خالتها من البيت , لكن قبل ان تلحق بها أوقفها ليوناردو :
- الى اين تذهبان ؟
فرح : لزيارة القبور
باستغراب : القبور في يوم العيد !
فقالت بلؤم : نعم , سنزور شهدائنا الذين سقطوا بأيديكم
بغضب : قلت لك انني لست صهيونياً !!
وهنا سمعت خالتها تناديها من الخارج :
- فرح !! هيا بنا , لقد تأخرنا
فنظرت اليه بغضب , ثم اقفلت الباب خلفها
***

وفي آخر ايام العيد .. وبعد عودة فرح والخالة من زيارة الأهل , تفاجئتا بحقيبة السفر عند الباب .. 
وهنا خرج ليوناردو من الغرفة وهو يقول لهما :
- انا عائدٌ اليوم الى ايطاليا , لكني لن اخبر المسؤولين اليهود عن ذلك خوفاً من ان يحضروا بديلاً عنّي يسكنوه معكم .. لكني لم اردّ الذهاب الى المطار قبل توديعكما  
فقالت الخالة بلؤم : ((درب يسدّ ما يردّ))
ثم دخلت غرفتها بعد ان صفقت الباب بقوة .. 

وهنا اقترب ليوناردو من فرح وقال بحزن :
- ارجوك يا فرح ..غيري رأيك وتعالي معي , فأنت حاصلة على الجنسية الأمريكية ويمكننا العيش سويةً في ايطاليا او اميركا
فرح بحزم : هذا مستحيل يا ليوناردو !!
- ومالذي يمنعك أن تتزوجينني ؟ فأنا احبك جداً يا فرح 
فردّت عليه بغضب : اتريد ان تعرف مالذي يمنعني ؟ يمنعني آلاف الشهداء , ومئات المحتجزين في سجون الإحتلال , والملايين المهجّرين في كل بقاع الأرض .. هل فهمت الآن ؟!!

- طيب ما ذنبي انا بكل هؤلاء ؟! فأنا لا الومك مثلاً على مقتل اجدادي في محرقة الهولوكوست
فردّت بغضب : لأنه اصلاً لا ذنب لشعبي بهذه الحادثة ! وان كنتم بالفعل تريدون العدالة , فكان الأجدر بكم احتلال المانيا التي أبادتكم , لا ان تهجّرونا من بلادنا بلا سبب ! 

- ارجوك اهدأي قليلاً .. (ثم يتنهّد بضيق) .. الا تذكرين كيف كنّا متفقين مع بعضنا قبل عودة خالتك ؟
- لأني كنت اظنك ابن خالتي وابن بلدي , الشاب الشهم عزوز !!
بنبرةٍ منكسرة : يعني لا يوجد أمل لنا يا فرح ؟ 
فسكتت قليلاً ثم قالت : حسناً ... سأقبل بعرضك , لكن عندي شرط
بفرحٍ وارتياح : أشرطي ما شئتِ !!

فرح بعيونٍ دامعة : عليك ان تحضر لي ورقة موقعة من مليار مسلم حول العالم يوافقون فيها على زواجي من ابن المحتلّ , وحينها فقط أقبل بك
فطأطأ ليوناردو رأسه بحزن وقال : والى متى يا فرح ستبقى هذه العداوة بين شعبينا ؟ فالمدة قاربت السبعين عاماً ! 
فرح بغضب : وستبقون أعدائنا الى يوم الدين !! والآن اخرج من حياتنا يا ليوناردو اليهودي !! 
بابتسامةٍ حزينة : انا لن أغضب منك يا فرح ... يا حبّي الحقيقي

ثم حمل حقيبته وفتح الباب الخارجي .. وخرج من الباب , وهو يقول لها بعينين دامعتين :
- قبل ان انسى , لقد تركت لك هديةً صغيرة في غرفتي .. الى اللقاء يا فرح
- لا !! لن يكون هناك لقاءً آخر بيننا.. بل هو وداعٌ أبدي يا ليوناردو
ثم صفقت الباب في وجهه بغضب ..
***

وفي طريقه الى المطار .. أتاه اتصال على جواله 
ليوناردو بضيق : (( الو .. نعم انا في طريقي الآن الى المطار .. لا لم تنفع حيلي العاطفية معها .. نعم صحيح هي مغتربة في الخارج لكن قلبها مخلصٌ لبلدها , ولهذا لم استطع تجنيدها لمصلحة الموساد .. واتمنى عندما اعود من اجازتي ان تعطوني مهمّة ليس فيها عنصراً نسائي , ورجاءً لا تسألني عن الأسباب .. حسناً اتفقنا , الى اللقاء ))

ثم اغلق جواله وهو يتنهّد بحزن : ليت نسائنا طاهرات كنساء العرب !
*** 

و في داخل المنزل .. توجهت فرح بعد ذهاب ليوناردو الى غرفة عزوز ..فوجدته قد علّق على الجدار لوحة لها , وقد رسم داخل عينيها الدامعتين علم فلسطين .. فتوقفت فرح امامها وهي تُمّعن النظر فيها بشرود .. حتى نزلت دمعة على خديها .. وهنا قالت لها خالتها (التي كانت تقف خلفها) معاتبة :
- أتبكين على هذا اللعين , يا فرح ؟!!
- لا ابداً يا خالة 

ومسكت لوحته وكسرتها على الأرض .. ثم قامت بإخراج صورة عزوز من الدرج وعلّقتها مكان الرسمة على الجدار..وقالت وهي تمسح دموعها :
- بل كنت أبكي على ابن بلدي , الشهيد البطل .. عزوز الغالي
فتنهّدت امه بحزن وقالت : رحِمَ الله ابني البطل

فاقتربت فرح منها وحضنتها .. 
وبعد ان تمالكت نفسها , قالت فرح وهي تمسح دموعها :
- والآن ساعديني يا خالة كيّ نطهّر غرفة الشهيد من نجاسة العدو

فابتسمت لها خالتها بفخر 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

التوأمتان المتعاكستان

تأليف : امل شانوحة  الطيّبة والشريرة دخلت السكرتيرة الى مكتب مديرها (جاك) لتجده يفكّر مهموماً :   - إن كنت ما تزال متعباً ، فعدّ الى قصرك ...