الخميس، 31 أغسطس 2017

انتحار العشّاق

تأليف : امل شانوحة



اريد فرصةً ثانية !!

- ليذهب كل من وقف في طريق حبّنا الى الجحيم 
قالها الشاب وهو يمسك بيديّ حبيبته اللتان كانتا ترتجفان بقوّة , ثم قال لها مُشجّعاً :
- لا تخافي حبيبتي .. سنقفز الآن معاً .. ومن ثم تذهب ارواحنا سويّاً الى السماء .. هل اتفقنا ؟

فهزّت رأسها موافقة والدموع تسيل على خدّيها من شدّة الخوف لهذا القرار الذي اتخذاه سويّاً , بعد ان رفض اهلها زواجها منه لفقر حاله
ثم حضنها بقوّة وهمس في اذنها : سألقاك في جنّتنا الخاصة بعد قليل 

لكن وقبل ثوانيٍ من الإنتحار , سحبت الفتاة المراهقة يدها بالقوّة من يده المتعرّقة بشكلٍ مفاجىء ! ليسقط الشاب العشريني وحده من فوق الجبل تاركاً خلفه حبيبته التي كانت تصرخ بشكلٍ هستيري !
*** 

ثم فتح الشاب عيناه .. فإذا بجسده معلّقاً بين السماء والأرض ! وهو على بعد امتارٍ قليلة من الأرض الصلبة , التي ستكون كافية لتحطيم ضلوعه وقتله فور ارتطامه بها .. 
فقال الشاب في نفسه بصدمة والعرق يتصبّب من كل جسده برعبٍ شديد : - مالذي يحصل ؟! كيف لم امتّ بعد ؟!

وهنا نظر الى فوق , فوجد وكأن الزمان متوقف ! وحبيبته الصغيرة مازالت فوق الجبل (لأنها لم تقفز معه كما اتفقا طوال اليوم) الاّ ان  جسدها كان متجمّداً في مكانه !
الشاب صارخاً بدهشة : لما لم تقفزين معي ؟!!

وهنا رأى نوراً يشعّ فوقه , خارجاً من جسد رجلٍ يلبس رداءً اسوداً ولديه جناحان مُهيبان , والذي قال له :
- هي لا تسمعك الآن , فقد توقّف الزمن بك 
الشاب بدهشة : هل انت ... ملاك ؟!
- نعم انا ملاك الموت , وأتيت لآخذ روحك
الشاب وهو يبكي : ولما لم تقفز معي هذه الخائنة ؟ فأنا قتلت نفسي من اجلها !

الملاك : بصراحة لا افهم لما يُقدم ايّ شخص على الإنتحار من اجل شخصٍ آخر ؟ 
الشاب وهو يبكي : فعلت هذا لأني احببتها بصدق , ولأن أهلها يصرّون على رفض طلبي .. وانا بالفعل لا استطيع العيش من دونها

الملاك ساخراً : لكن يبدو ان باستطاعتها العيش دونك , لأنها بعد قليل ستتصلّ بأهلها ليأتوا ويأخذونها .. بينما تُدفن انت بحضور اهلك الذين سيشعرون بالعار طوال حياتهم بسبب قرارك الأحمق 
الشاب بقلق : اهلي ! كيف لم افكّر بأمي المسكينة ؟ أكيد ان موتي سيُدمّرها 
الملاك : اذاً دعني اخبرك بما سيحصل في المستقبل .. انظر هنا

وقام الملاك بحركة بيديه في السماء لتظهر شاشة كبيرة : تُعرض عليها كل الأحداث التي ستحصل في المستقبل بعد هذا الإنتحار
الملاك : مع اني لا اريد ان أزيد همومك , لكن كما ترى هنا .. فأمك ستموت في المستشفى بعد ايام من سماعها خبر وفاتك بسبب ازمةٍ قلبية
الشاب بصدمة : ماذا ؟! 

- ليس هذا فحسب , بل سيتبرّى والدك منك .. ولهذا سيُكتَب على قبرك اسمك الأول دون اسم عائلتك .. اما حبيبتك التي تركتك تواجه مصيرك وحدك , فستتعالج من الصدمة عند أشهر طبيبٍ نفسي , ومن ثم ستنساك مع تقدُّم اول عريس غني لها بعد ثلاثة اشهر من هذه الحادثة .. وكما ترى في الشاشة مقدار سعادتها وهي تسافر معه على يخته الفخم حول العالم
الشاب وهو يكاد لا يصدّق ما يراه : أستتزوج من هذا العجوز بعد ثلاثة اشهر فقط من قتل نفسي لأجلها ؟!!
- ليس هذا فحسب .. بل إسمع بنفسك رأيها بك 

ثم شاهد الشاب مقطعاً من المستقبل يدور حول حديثها مع زوجها عنه .. 
((حيث قال زوجها لها مغازلاً :
- لا الوم عشيقك السابق على إقدامه على الإنتحار لأجلك , حبيبتي
فأجابته بلا مبالاة : كان شاباً متهوراً وفقيراً للغاية , والحمد الله انني تركت يده قبل لحظات من قفزه الجبل , والاّ لما التقيت بحبّ حياتي
فحضنها زوجها قائلاً : نعم الحمد الله على ذلك .. فالغبي ذهب بقدميه الى جهنم , بينما انت ..
فأكملت عنه : انا ذهبت الى جنتك  
وضحكا ساخرين منه))

وهنا سأله الملاك :
- والآن ما رأيك بها ؟
الشاب يصرخ بغضب وقهر : الملعونة !! الخائنة !! ال... 
فقاطعه الملاك :
- اهدأ قليلاً , فمازلت في اول الطريق
بخوف : ماذا تقصد ؟! 

- حسناً سأخبرك بما سيحصل لك بعد قليل .. اولاً عندما ترتطم بالأحجار الصخرية فأنك للأسف لن تموت على الفور بل ستتعذّب لساعةٍ كاملة قبل خروج روحك , وحينها ستشعر بآلامٍ لا يمكنك تصوّرها .. يعني تخيّل ان كل عظمة في جسدك مكسورة , وكل عضو داخلك ممزّق الى اشلاء..
مقاطعاً وهو يرتجف بخوف : ارجوك توقف !!

الملاك : ليس هذا فحسب .. لأنك ستواجه ايضاً عذاب الآخرة , لأنك بانتحارك ذهبت مُباشرةً الى جهنم .. يعني باختصار : خسرت جنّة الدنيا والآخرة , وكل هذا من اجل ماذا , او من اجل من ؟! 
فصار يبكي الشاب بقهر..
فقال له الملاك : اذاً دعني اريك كيف سيكون مستقبلك لوّ لم تتخذّ هذا القرار الغبي .. انظر هنا

ونظر الشاب الى نفس الشاشة المعلّقة في الهواء .. فرأى نفسه قبل ثلاثة ايام , عندما كان يجلس بثيابه المتواضعة في صالة قصر والدها بعد ان أخبره برفض طلبه للزواج من ابنته .. لكنه هذه المرة : بدل ان يشتم والدها كما فعل بالواقع .. رأى نفسه وهو يقول له بابتسامة : 
- كما تشاء عمي , فالزواج بالنهاية قسمة ونصيب .. مع اني والله أحببت ابنتك من كل قلبي .. لكني بالنهاية اتفهّم رغبتك في تزويج ابنتك الوحيدة من عريس يليق بها اكثر مني .. على كلٍ , تشرّفنا بمعرفتكم .. 
ثم انصرف بهدوء واحترام من قصر والدها..

وهنا قال له الملاك : لوّ كنت تصرفت بهذه الطريقة اللائقة , كان هذا سيكون مصيرك .. 
ثم رأى الشاب مستقبله الذي لم يحصل بسبب الإنتحار ! 
حيث انه سيبدأ العمل كموظفٍ صغير في احدى الشركات ..وبعد خمس سنوات , سيصبح مدير فرعٍ فيها .. ومن ثم سيتزوج من ابنة رئيس الشركة التي سيُغرم فيها اضعاف مضاعفة من حبه للفتاة التي انتحر من اجلها 

ثم قال له الملاك : عليك ان تدرك انه في حال تعسّر امرٌ ما , فهذا يعني ان الله لا يريده لك لأنه لا خير لك فيه , ويريد توجيهك لحياةٍ أفضلٍ لك .. لكنك مع الأسف لم ترضى بقضاء الله وقدره .. وانظر لحالتك الآن .. انت على بُعد ثوانيٍ قليلة من الموت , ولسببٍ سخيف !

فصار يبكي الشاب بقهر , ويترجّى الملاك : ارجوك اعطيني فرصة ثانية .. اتوسّل اليك !!
فتنهّد الملاك بضيق : وهذا يعتبر شركاً بالله .. فأنا بالنهاية انفّذ ما يأمرني الله به  
فوجّه الشاب نظره الى السماء وابتهل الى ربه , باكياً بحرقة : ارجوك يا الله !! اعطني فرصةً ثانية .. واعدك بأن اكون عبداً صالحاً لك .. يارب سامحني على هذا الخطأ .. ارجوك سامحني يا الله !!!!

وظلّ يردّدها الى ان إستفاق على منبّه جوّاله , فقفز من سريره والعرق يتصبّب منه بغزارة , وهو يكاد لا يصدّق انه مجرّد كابوس ! 

وعندما أجاب على هاتفه , سمع صوت حبيبته وهي تقول له باكية: 
- ابي مازال يرفض زواجنا .. وانا والله الموت أهون عليّ من العيش دونك
لكنه ردّ عليها بهدوءٍ غريب : والدك على حق , ومن رأيّ ان تسمعي كلامه .. فأنا متأكدٌ تماماً ان نصيبك سيكون من نفس بيئتك .. واخلاقك 
(وكان يقصد سوء اخلاقها , وبأنها تستحق الزواج من عجوزٍ تافه , بعد ان رأى خيانتها لحبه في تلك الرؤيا الغريبة) 
فأجابته بدهشة : ماذا تقصد بكلامك هذا ؟!

الشاب بلا مبالاة : أقصد ان الزواج قسمة ونصيب .. وبالنهاية لا احد يستحق الموت لأجله .. وانا بالتأكيد لن أُغضب ربي لأجلك ..لهذا سأقوم بحذف رقمك من جوالي , وأنصحك ان تفعلي الشيء ذاته , وان تنسيني تماماً كما سأنساك ِ.. أتمنى لك كل الخير .. مع السلامة

وأقفل خطّه , تاركاً الفتاة تشعر بصدمة الفراق التي لم تتوقعها منه ! بينما ذهب هو ليتوضأ ويصلي في المسجد , بعد ان شعر براحةٍ لا مثيل لها

الأربعاء، 30 أغسطس 2017

بين عالمين

فكرة : ياقوت الشرق
كتابة : امل شانوحة



ماذا بعد الموت ؟!

انتهت مراسم الدفن .. ذهب الجميع ما عداه .. جلس امام قبر معلّمه و بدأ يهمس له :
- معلّمي .. هل تسمعني ؟ هيا إخبرني .. كيف هي حياة الأموات ؟
ووضع إذنه ليتنصّت على القبر , لكنه لم يسمع شيئاً .. فعاد ورفع صوته :
- معلّمي !! هيّا قلّ ايّ شيء , رجاءً .. انت وعدّتني ان تخبرني عن عالم الأموات

ومن بعيد .. كان حفّار القبور وأحد الرجال المارّين بالمقبرة يراقبان هذا الشاب باستغراب !
الرجل بدهشة : أيتكلّم مع القبر ؟! هل هو مجنون ؟
الحفّار : أكيد مجنون كمعلّمه (جورج ديفيد)
- اتقصد الفيلسوف الذي يعيش وحده في اعلى الجبال ؟
- ايّ فيلسوف يا رجل .. بل قلّ : عجوزٌ خرِف .. (ثم يسكت قليلاً) ..هو ربما كان معلّماً محترماً قبل ذهابه الى افريقيا 
الرجل باهتمام : وماذا حصل له هناك ؟!

- لا أحد يعلم .. كل ما سمعته عنه : ان بعد عودته الى هنا , بدأ يُخبر تلاميذه بأنه تعلّم طريقة في افريقيا تسمح له بالتنقّل في عالم الأموات وهو على قيد الحياة 
الرجل بسخرية : أحقاً ! اذاً ليخرج الآن من قبره ان كان بطلاً
وابتعدا وهما يضحكان باستهزاء على البروفيسور الميت ونظريّاته الغبيّة

اما تلميذه المخلص فظلّ لساعةٍ اخرى يحاول التواصل مع معلّمه من فوق القبر , الى ان بدأ اليأس يسري في قلبه .. وقبل ان يهمّ بالعودة الى بيته .. اقترب منه شابٌ آخر و سأله :
- أأنت الطالب الجامعي (مايكل) الذي كان يذهب لأعلى الجبل بنهاية كل اسبوع لرؤية هذا المعلّم ؟ 
وأشار الى قبر الأستاذ ..
التلميذ مايكل : نعم .. أظنني لمحتك هناك , اليس كذلك ؟
الشاب : نعم , تقابلنا مرّة عندما كنت أرعى غنمي على سفح ذلك الجبل

مايكل باهتمام : وهل كنت آخر من رأى معلّمي حيّاً ؟
الراعي : هذا صحيح .. لأني بالعادة أحضر له حليباً كل يوم .. لكني وجدته هذا الصباح على آخر رمق , و حاولت مساعدته لكنه مات بين يديّ
مايكل بحماس : وهل قال لك ايّ شيء قبل ان يموت ؟ ارجوك حاول ان تتذكّر , فالأمر في غاية الأهمية بالنسبة لي
الراعي : أعرف هذا , ولهذا اتيت اليك .. فقد اعطاني هذه الورقة و طلب منّي ان اسلمها لك باليدّ .. و قال بأن فيها عنوان الشخص الذي سيجيبك على اسئلتك ..
***

في اليوم التالي .. كان الشاب مايكل يستقلّ اول طائرة ذاهبة الى افريقيا .. لأن الرجل الذي كتب معلّمه عنوانه في الورقة يعيش هناك , وكان اسمه ابو العالمين ..
ووصلت الطائرة بعد ساعاتٍ طويلة من السفر والتنقّل بين عدّة مطارات (ترانزيت) من اوروبا الى افريقيا .. مروراً بركوبه حافلةٍ مهترئة أوصلته الى وسط البلدة الأفريقية .. ومن هناك امتطى حصاناً خلف شخصٍ أوصله اخيراً الى العنوان المطلوب , وكان عبارة عن كوخ مهجور وسط ارضٍ قاحلة .. 

وهنا قال له المرشد السياحي الأفريقي بلغة انجليزية ركيكة , وهو يتلعثمّ برعب :
- لقد وصلنا .. هذا هو بيت المشعوذ (نونو شيكي) الملقّب بأبو العالمين 
وما ان ترجّل مايكل , حتى أنطلق المرشد بالحصان مبتعداً عن المكان .. فناداه مايكل بفزع :
- هاى !! الى اين انت ذاهب ؟ ارجع ارجوك !! كيف سأتكلّم مع الرجل دون ترجمتك ؟ 

لكنه سمع شخصاً يجيبه من الخلف :
- لا تقلق .. أنا افهم كل اللغات 
و كان رجلاً عجوزاً .. عيونه مخيفة .. وذقنه وشعره تصلان الى ركبتيه , و اظافره وسخة وطويلة .. 
ثم قال لمايكل و هو يدخله الى كوخه المصنوع من القشّ :
- هيا ادخل ولا تخفّ .. فأنا اعرف طلبك

و في الداخل ..
فاجئه العجوز بسؤاله :
- هل أتيت لتعيش عالم الأموات دون ان تموت ؟
مايكل بدهشة : وكيف عرفت ذلك ؟!
- معظم من يأتون اليّ لديهم نفس الطلب 
- وهل جميعهم انتقلوا الى هناك ؟
- بالتأكيد !! اتريد ان تجرّب
مايكل بحماس : طبعاً !! لكن بشرط ان اعود الى الحياة من جديد.. فأنا اريد فقط معرفة ما يوجد في حياة الآخرة
العجوز : اذاً اعطني الفين دولار ثمن المحلول الذي سيُنقلك الى هناك

فحاول الشاب مفاوضته على المبلغ , لكن العجوز اصرّ عليه .. فلم يكن امام مايكل الا ان اعطاه ما اراد , وكان تقريباً نصف المبلغ الذي جلبه معه لهذه المغامرة 
العجوز بعصبية : ماذا تظنّ نفسك فاعلاً ؟!!
مايكل باستغراب : سأشرب المحلول !
العجوز بحزم : لا ليس هنا !! عدّ الى القرية واشربها هناك .. و ايّاك ان تجادلني في الموضوع
***

وبسبب هروب المرشد السياحي الجبان , اضّطر مايكل للعودة الى القرية الأفريقية سيراً على الأقدام ..
ووصل الى هناك في المساء بعد ان أرهقته الرحلة .. وكان هناك احتفالاً بزواجٍ قروي .. وبعد إنخراطه بينهم , اخرج المحلول الأخضر من جيبه و شربه .. وأول ما شعر به كان مغصاً في معدته .. ثم تحوّل لغثيان .. دوار وصداع .. سخونة وبرودة اطراف .. رؤية مغبّشة .. وآخر ما تذكّره هو وجوهٍ افريقية تقترب منه بعد ان سقط على الأرض .. ثم تعالا صياحهم وكأنهم ينادون على من يسعفه .. 

وبعد وقتٍ مرّ عليه ببطء , شعر بماءٍ ساخن يحرق جسده .. فصار يحدّث نفسه :
((مالذي يحصل ؟ اين انا ؟ ولما تغسلني هذه النسوة ؟ يا الهي الماء ساخنٌ جداً ..هل يطبخونني حيّاً ؟!)) 
و حاول المسكين الحراك لكن اطرافه كانت مشلولةٌ تماماً , حتى انه لم يستطع اصدار ايّ صوت من فمه ! 

وظلّ يحاول هكذا حتى اخرجوه من الحوض الحديدي الساخن .. و بدأوا بتغطيته بملاءةٍ بيضاء .. 
((لحظة ! لما يغطّون وجهي ؟! لا الأغبياء , سيكتمون انفاسي !!)) 

ثم شعر بأصوات رجالٍ تحمله على الأكفّ وسط حدادٍ وترانيم حزينة النغم .. وقرع الطبول كأنها تعزف لحن الموت ! 
((انهم يدخلونني داخل شيءٍ عميق وضيق .. هل هذا قبري ؟! لحظة ! لا !! لا ترموا عليّ التراب .. انا لست ميتاً !! الا تسمعون صراخي ؟! انتم تدفونني حيّاً .. ارجوكم !! لا اريد الموت !!!!))

لكن لم يسمعه احد .. وبدأ يلاحظ (من الأسفل) إنخفاض صوت الضجيج شيئاً فشيئاً عن المكان.. حتى عمّ السكون المخيف ! 
ثم تبعه اصوات حشراتٍ صغيرة تنخر في التراب و تدبّ فوق كفنه .. 
((قريباً جداً سيتمكنون من اختراق كفني , ليدخلوا الى جسدي وينهشوه دون رحمة.. يا الهي ! مالذي فعلته بنفسي ؟ .. انا بالفعل أحمق .. لما اردّت تجربة شيئاً مرعباً كالموت ؟!)) 

و قبل ان يستسلم الشاب لمصيره بعد ان أتعبه الصراخ والبكاء .. سمع فجأة ! صوت مجرفةٍ تنكش فوق رأسه تماماً ... فصار يصرخ بما تبقّى له من قوّة :
- نعم رجاءً احفروا بسرعة !! انا مازلت حيّاً !! اخرجوني من هنا !!!!

ثم شعر بيدين تزيلان الملاءة عن وجهه , ليرى معلّمه (المرحوم) الفيلسوف فوق الحفرة التي بها جثمانه
تلميذه مايكل بدهشة وبتلعّثم : أهذا انت معلّمي ؟! لكن كي ...يف ...كيف يعقل هذا ؟!
معلّمه (الميت) بفخر : لقد نجحت يا مايكل .. وأصبحت في عالم الموتى كما كنت ترغب

وبعد ان أخرجه معلّمه من القبر .. واستردّ مايكل انفاسه , سأله :
- يعني معلّمي .. انا الآن ميت ام حيّ ؟!
المعلّم : انا الآن ميت , لكنك الحيّ الوحيد بيننا .. انظر خلفك

فنظر الشاب الى حيث أشار معلّمه , ليجد اولاداً صغار ونساءً ورجال يحيطون به من كل جهة وعلى وجوههم فرحةٍ عارمة , حيث بدأوا بالتصفيق والصفير له مُحيّين شجاعته لخوض هذه التجربة المرعبة
المعلّم : ارأيت يا مايكل ..جميعهم فخورين بك , لأنك الوحيد الذي نجح في إيجاد الحاجز الذي يفصل بين العالمين 
- تقصد انا الآن في حياة البرزخ ؟ 
- نعم , وبذلك تستطيع ان تكون مبعوثنا الى عالم الأحياء

وهنا اقتربت منه امرأة سمراء حسناء قائلة :
- رجاءً ايها الشاب , اريدك ان توصل رسالتي الى زوجي 
ثم قالت له امرأة كبيرة بالسن : وانا الى اطفالي , لو سمحت
ثم طفل : وانا الى امي يا عمّ

المعلّم : رجاءً يا اعزّاء , كلاّ بدوره .. فتلميذي النجيب لم يستردّ انفاسه بعد .. دعوني أعرّفه على عالمنا اولاً .. ومن ثم ينفّذ لكم جميع طلباتكم ..اليس كذلك يا مايكل ؟
بسعادة : طبعاً معلّمي .. سأنفّذ كل ما تريدون
قالها الشاب وهو ما زال لا يصدّق بأن تجربته نجحت أخيراً .. 

لكنه فجأة ! شعر بالدوار .. وبدأ يفرك عينيه بألمّ
***
وما ان فتح عيناه .. حتى رأى المشعوذ (نونو شيكي) يقف قرب جسده المكفّن بالقماش وعلى وجهه ابتسامةٌ ماكرة
ثم صرخ منادياً رجلين يلبسان الزيّ العسكري : 
المشعوذ : زومبي !! لقد وجدتُ زومبيّاً آخر !!!
مايكل محاولاً التحرّر من كفنه الضيق , وهو مازال يشعر بالدوار: 
- لحظة ! ماذا يحصل هنا ؟! 
***

وبعد يومين .. وفي مكانٍ آخر من القرية الأفريقية ..
مدّ الفيلسوف المجنون (جورج ديفيد) يده الى المشعوذ (نونو شيكي) وهو يقول :
- وهآقد اصبح لديك عبداً اجنبياً كما طلبت مني .. فأين هي حصّتي ؟
المشعوذ : امسك يا ملعون .. والآن اخبرني كم مرّة قمت بتمثلية الموت مع صديقك حفّار القبور ؟ 

المعلّم جورج : والله لم أعد اذكر .. لكن عليّ الآن البحث من جديد عن تلاميذ اغبياء يصدّقون خزعبلاتي في بلدٍ أوروبي آخر 
المشعوذ : المهم لا تنسى يا جورج , عليك ان ترسل لي المزيد من محلولك اللعين الذي يشلّ حركتهم مؤقتاً ويصيبهم بالهلوسة .. 
- كلاً بثمنه يا عزيزي 

- لا تقلق , حقك محفوظ .. كل ما عليك فعله : هو متابعة ارسال الحمقى اليّ , لأبيعهم الى اثرياء افريقيا كعبيد مدى الحياة
المعلّم : لكني لا ارسل اليك الحمقى بل هم طلّاب جامعيون ارادوا تعلّم ما وراء المرئيات 
المشعوذ بسخرية : واها  لا بأس من عبيدٍ مثقفين

ويضحكان على ضحاياهم المحبّين لمعرفة خبايا العالم المجهول 

ملاحظة :
يوجد قبائل افريقية يؤمنون : بأن من يخرج من قبره بعد دفنه يعتبر زومبي , ايّ ان جنّياً تلبّس بجسده , فيقومون باستعباده مدى الحياة , وقد يُستعبد حتى من قبل اهله , وذلك بإجباره للقيام بكل الأعمال الصعبة دون ايّ رحمة , دون الأخذ بالإعتبار انه ربما يكون دُفن حيّاً كخطأ تشخيصي لحالته الصحيّة من قبلهم !  

وقد عرضت القناة الثقافية (ديسكفري) حلقة كاملة عنهم .. ولهذا اردّت ان اكتب قصة عن هذا الموضوع الشائك المليء بالشبهات ! اتمنى ان يعجبكم  

الاثنين، 28 أغسطس 2017

إختلاف الأجناس

تأليف : امل شانوحة

لن اتركك الى ان تشفى

في غرفةٍ مجهزة بالأدوات الطبّية وقناع الأوكسجين استلقى شابٌ مريض على سريره وحيداً في القصر بعد ان سافر والده الى الخارج 

و في احدى الليالي .. استيقظ من نومه ليجد فتاةً جميلة في غرفته , جالسة على طرف سريره .. 
لؤيّ بدهشة : هل ارسل والدي اخيراً ممرضة لعلاجي ؟!
الفتاة بعصبية : اصلاً انا متفاجئة من تركه لك لفتراتٍ طويلة وانت تعاني من كل هذه الآلام ! 
- وكيف عرفتي انني مريض منذ مدة طويلة وانت قدمتي الآن , هل اخبرك ابي عن حالتي ؟ 
- ربما فعل ...وربما لا 
لؤيّ : لم افهم !

فأجابته بابتسامة : اصلاً انا اعرفك شخصياً .. 
- لكني لم اركِ من قبل ! 
- كيف هذا ؟! حاول ان تتأمّل وجهي جيداً , وستعرفني على الفور 

فحاول لؤيّ التأكّد من ملامحها , بعد ان ازال قناع الأوكسجين عن وجهه 
لؤيّ : اظنّ انني رأيتك فعلاً , لكن في ..(و يسكت)
تبتسم له بخجل : في منامك , صح ؟! اعرف هذا .. لكن رجاءً لا تسألني عن ايّ شيء .. (ثم تقف لتتأكّد من المحلول المعلّق في ذراعه) .. اسمي رؤى .. وانا من سيعتني بك لحين عودة والدك .. 
بحماس : لكن الوقت تعدّى منتصف الليل ! فهل يعني هذا انك ستبيتين معي في القصر ؟
- لا .. لكن بيتي قريبٌ من هنا , وسأزورك كلما سنحت لي الفرصة ..اما من انا بالتحديد , فهذا ستعرفه مع الأيام ..والآن عليّ الذهاب 

ثم تركته ليرتاح قليلاً , لكنه ظلّ يفكّر بها حائراً حتى الصباح 
***

ومع مرور الأيام .. تعوّد لؤيّ على زيارات رؤى له كل مساء .. وامضيا تلك الليالي بالضحك والتحدّث سوياً مما جعل نفسية لؤيّ تتحسّن كثيراً 

لؤيّ : هل ستذهبين ثانيةً و تتركينني .. فأنا لم اعرف حتى الآن سوى اسمك ! 
رؤى : قلت لك سابقاً , لا تستعجل و سيأتي يوم واخبرك بكل ما تريد معرفته .. والآن اغمض عيناك ونمّ قليلاً .. الى اللقاء في الغد
***

وتكرّرت تلك الزيارات داخل غرفته في قصر والده ..الى ان اتى ذلك المساء التي قدمت اليه رؤى حزينة وقلقة , فسألها لؤيّ مُستفسراً بقلق :
- ماذا حصل ؟!
فأجابته بضيق وهي قلقة من ردّة فعله :
- لقد حان الوقت لتعرف من انا .. لكن رجاءً لا تقاطعني واسمعني حتى النهاية
فهزّ رأسه موافقاً وهو يشعر بقلقٍ شديد .. 

فقالت بتردّد وهي تمسح دمعتها : 
- انا .. انا جنية يا لؤيّ .. ارجوك !! لا تقلّ شيئاً قبل ان تسمع كل الحكاية .. فأنا واهلي كنّا انتقلنا الى هذا القصر منذ شهورٍ عدّة .. وقد تعوّدت الدخول الى غرفتك دون ان تراني لأجلس في الزاوية واراقبك وانت تتألّم طوال الوقت .. وكنت استغرب قساوة والدك الذي لم يكن يزورك دائماً .. حتى انني لا اذكر انه عاينك ايّ طبيب او ممرضة طوال فترة مرضك ! فشعرت بالشفقة عليك , وقرّرت زيارتك في احلامك كيّ اخفف عنك قليلاً .. ومع مرور الأيام لاحظت تعلّقي الشديد بك , فشعرت برغبةٍ قوية لأن تراني بالواقع كما اراك ..ولهذا أوهمتك حين قدمت بأنني سأكون ممرضتك لحين عودة والدك من السفر ... وهآ انت بتّ تعرفني جيداً , وحان الوقت كي اسألك .. (وتسكت قليلاً ثم تقول بإحراج) .. هل تتزوجني يا لؤيّ ؟ .. لحظة !! قبل ان تجيبني اريدك ان تعرف , انه في حال قبلت ان تعيش معي في عالم الجن الذي لا يختلف كثيراً عن عالمكم , فإنك ستُشفى تماماً من مرضك المزمن وستعود اليك حيويتك ونشاطك وتستغني تماماً عن كل ادويتك .. فماذا قلت ؟

لكن لؤيّ لم يُجبها بل اكتفى بالنظر اليها بدهشة ! فأكملت كلامها بقلق :
رؤى : اعرف انك مصدومٌ الآن , لكن الأمر ليس سهلاً عليّ ..فأنا لي شهور اعيش صراعاً قوياً مع نفسي .. فالزواج من البشر ليس مُحبّباً في عالمنا بل احياناً نُعاقب عليه اشدّ العقاب ..(ثم تتنهّد قائلة) .. والأسوء من ذلك انني حتى اليوم مازلت اتساءل : هل حبك لي سيجعلك تترك كل الدنيا التي تعرفها من اجلي ؟ وهل ستقبلني كما انا ام ترفضني ؟ لكن اودّ ان اقول لك شيئاً يا لؤيّ .. في حال رفضت عرضي , فأن ابي سيرسلني بعيداً عن القصر وسأُمنع من رؤيتك طوال حياتي ..فماهو قرارك ؟

فسكت لؤيّ و هو مازال ينظر اليها بنظرةٍ غريبة .. ثم عاد واستلقى في فراشه بعد ان غطّى وجهه بالملاءة كيّ لا يراها .. فعرفت انه رفض طلبها و صارت تبكي بصوتٍ مكبوت..
و هنا سمع لؤيّ صوتاً رجولي يقول لها :

- ارأيتي !! كما كنت متوقعاً .. فالبشر لا يحبوننا ابداً .. هيا انزلي فوراً الى البيت .. ورتّبي اغراضك , لأني سأرسلك الى منزل عمك في الساحل 
رؤى وهي تبكي : حاضر ابي

وكان لؤيّ يسترق النظر من تحت ملاءته , فرأى شقّاً في جدار غرفته ! ورؤى تدخل من خلاله , وهي تنظر اليه بنظرة وداعٍ حزينة .. وقبل ان يُغلق الشقّ من جديد ..علا صوت قهقة لؤيّ .. فانصدمت رؤى كثيراً من ردّة فعله الساخرة ..وقال والدها من الجهة الأخرى :
- مالذي يضحك هذا الغبي ؟!
فناداها لؤيّ بصوتٍ عالي وهو مازال يضحك : رؤى !!! تعالي واحضري والدك معك !!

فقدِما اليه وهما مازالا متفاجئين من عدم خوفه منهما , فأردف قائلاً: 
لؤي : لوّ سمحتي رؤى , ازيلي الغطاء عن قدميّ
فتقدّمت من سريره ببطء , ثم ازالت الغطاء لتتفاجأ بأقدامه تشبه حوافر الماعز .. 
فقال والدها بدهشة : ما هذا ؟! هل انت جنّي مثلنا ؟!
فقال لؤيّ ضاحكاً : يالا سخرية القدر .. نعم , كنت جنياً قبل سنواتٍ طويلة 
رؤيّ وهي مازالت لا تصدّق ما يحدث : طيب اخبرنا , ما قصتك؟ 

لؤيّ : القصة باختصار انني احببت بشريّة تسكن هذا القصر قبل مئة وخمسين عاماً , لكن ابي الذي يعمل قاضياً في محكمة الجن منعني من الإقتراب منها , فهربت من سجنه وتزوجتها رغماً عنه .. فحكم عليّ ان اتحوّل الى بشري يعاني من مرضٍ مزمن .. المهم .. هل تدريان كم دام حبها لشخصٍ مريضٍ مثلي ؟ 
رؤى باهتمام : اكيد لسنواتٍ طويلة 

فيعود لؤيّ للضحك : سنوات ! بل هي ثلاثة اشهرٍ فقط , لأنها ملّت من اخذي بين حينٍ و آخر الى المستشفى , والأسوء انها طردتني من قصرها هذا .. وبعد ان عانيت خمسين سنة وانا اتنقّل بين دور الرعاية الصحيّة على حساب الدولة , سمعت بوفاتها بحادث وبأنها تزوجت لكنها لم تنجب وريثاً , وبعد موت اهلها بعدها بسنوات عدّت وسكنت قصرهم .. وهذه الغرفة كانت غرفتنا انا وهي قديماً .. اما والدي فهو يتشكّل بصورة بشري ليعيش معي هنا و يُشرف بنفسه على اتمامي للعقوبة قبل ان يعيدني جنّياً ثانية
والد رؤى : وكم حكم عليك ؟

وهنا ظهر ابو لؤيّ فجأة مُخترقاً الباب المغلق قائلاً : حكمت عليه بمئتي سنة يعيشها كبشري مريض , وبقي لديه خمسين عاماً
لؤيّ بحزن : المشكلة ان سنوات البشر بطيئة للغاية , ولهذا اشعر بمللٍ قاتل 
وهنا احسّ بحزن رؤى , فقال لها لؤيّ : 
- لا تحزني عليّ يا رؤى فأنا استحقيت هذا العقاب .. لكن اريد ان انصحك بشيء : ايّاك ان تقومي بنفس خطأي , فحياتنا كجن اجمل بكثير من حياتهم المرهقة  
رؤى : أحقاً !

لؤي : بالتأكيد .. فحياة البشر روتينية وفيها الكثير من الهموم والمشاكل كما انهم يملّون بسرعة ويرغبون بالتغير المستمر , اما حياتنا كجن فيها الكثير من التشويق ..آه لا تصدّقي كم انا مشتاق الى الطيران مجدداً واختراق الحواجز وعدم الشعور الدائم بالجوع والأرهاق .. اصلاً انا غبي لأنني فضّلت العيش مع بشريّة بشكلها الذي يهرم مع الأيام , ورفضت ان اتزوج امراة جنّية يمكنني تغير شكلها كلما احببت 
فقال والده : هذه اول مرّة اشعر بندمك يا ولد
لؤيّ بحزن : كنت اخفي عنك ذلك يا ابي , لكني بصراحة ندمت منذ اليوم الأول الذي تخلّت فيه عنّي تلك البشريّة  
والد رؤى : برأيّ الشاب عرف خطأه يا ابو لؤيّ ويجب ان تسامحه

فيفكّر ابو لؤيّ قليلاً ثم يقول : حسناً .. يمكنني ان اتفاوض مع لجنة قضاة الجن لإعفائه من بقيّة محكوميته , لكن بشرط !!
لؤي بحماس : اشرط ما شئت يا ابي !!
ابوه : ان تتزوج من رؤى الجنّية 
فينظر لؤيّ لرؤى بسعادة : والله اذا وافق والدها , فأنا مستعد ان أتزوجها فور خروجي من هذا السجن

فأخرج والده العصى السحرية من ردائه والقى تعويذة على ابنه لؤي 
وبثوانيٍ ! صار جسد لؤي يطفو فوق السرير .. 
فصرخ لؤيّ بفرحٍ عارم : واخيراً عدّتُ جنيّاً من جديد !! 

وطاف حول السقف عدّة مرّات بفرح , ثم حلّق باتجاه رؤى يريد احتضانها , لكن والدها وقف في وجهه مُعاتباً :
- الزواج اولاً يا ولد !!
لؤيّ بارتباك : آه عفواً .. انا تحت امرك 
فضحك والد لؤيّ قائلاً : اذاً لنعود الى عالمنا ونحتفل جميعنا بعودة الشابين الى رشدهما , لكن ايّاكما ان تفكرا بالبشر ثانية .. مفهوم !! 
رؤى ولؤي بسعادة : حاضر !! لن نفعل ذلك ابداً

واخترقوا جميعاً جدار الغرفة متوجهين لعالمهم الموازي ,وقد أُغلق شقّ الجدار من خلفهم , ليترك لؤيّ خلفه قصره الكئيب وآلام مرضه وآهاته , متوجهاً الى عالمه المشرق الذي حنّ اليه كثيراً !  

الجمعة، 25 أغسطس 2017

ابني والإبن المُتبنّى

كتابة : امل شانوحة


التبني,اولاد,التفرقة,ظلم 
لم اعدّ اريد ذلك الولد

بعد اسبوع من ولادة ابنه الأول , قال لزوجته وهي تحتضن رضيعها بسعادةٍ غامرة :
- ما رأيك يا ريمي ان نُعيد جاستن الى دار الأيتام ؟ فنحن والحمد الله انجبنا طفلنا 
زوجته بدهشة : ماذا قلت ؟! لا طبعاً .. نحن تبنينا جاستن منذ ان كان رضيعاً , وربّيناه و كأنه ابننا
الزوج : نعم , لكن حينها كنّا فقدنا الأمل بالإنجاب , والآن لديّ ولداً من صلبي , فلما اريد تربية ابن رجلٍ ما ! اصلاً هو كبر وصار عمره اربع سنوات ويمكن لعائلةٍ اخرى ليس لديها ابناء ان تتبناه , ونتفرّغ نحن لتربية ابننا الذي هو اولى باهتمامنا

لكن الأم رفضت تماماً هذا الأقتراح , بل وهدّدته بأخذ الولدين وترك البيت في حال فتح هذا الموضوع ثانيةً , لهذا اضّطر الأب الى التغاضي عن هذه الفكرة لأجلها .. 
***

ومع مرور الأيام .. لاحظت الأم تفرقة الأب في معاملة ابنائه .. فهو يدلّل ابنه جيم كثيراً , بينما لا يعير اهتمامه لجاستن كما السابق مما اثّر كثيراً على نفسيته , وزاد من شجاراته مع اخيه 

وفي احد الأيام .. ضرب جاستن اخاه الصغير بسبب كسره للعبته المفضلة , فانتفض الأب غاضباً وقال لجاستن البالغ من العمر(11) سنة
- ايّاك ان تضربه ثانيةً , افهمت ؟!!
جاستن بغضب : لكنه كسر لعبتي عن قصد يا ابي !!

الأب : وان يكن , فهو أحق باللعبة منك
جاستن يبكي بقهر : لماذا يا ابي تعاملني هكذا ؟ انت دائماً تقف معه ضدّي , هذا ليس عدلاً !! 
الأب بغضب : لأن جيم ابني انا !! اما انت فقد أحضرناك من دار الأيتام , ولولا امك لكنت اعدّتك الى هناك منذ صغرك

ووقع الخبر كصدمةٍ عنيفة على رأس جاستن الذي انهار تماماً .. 
وصار ينطوي على نفسه اكثر واكثر مع الأيام .. ورغم غضب الأم كثيراً من الأب الا ان لا شيء فعلته اعاد جاستن كسابق عهده , بل صار يتجنب عائلته قدر الأمكان , ويحبس نفسه في غرفته طوال الوقت , حتى ان علاماته بالمدرسة تدنّت كثيراً , ولم يعد يتشاجر كثيراً مع اخيه .. 

وقد حاولت الأم اخذه الى طبيبٍ نفسي لكن الأب رفض دفع مصاريف العلاج له , مما زادت هوّة الجفاء بين الزوجين , وكالعادة لام الأب جاستن على ذلك
***

وببلوغ جاستن سن السابعة عشر مرضت امه بالسرطان , فلازمها ابنها الكبير طوال فترة علاجها بالمستشفى الى ان توفيت .. وقد اثّر وفاتها كثيراً على جميع افراد عائلتها , وخاصة على جاستن التي كانت اقربهم اليه
***

وبعدها بسنة وببلوغ جاستن سن الثامنة عشر واخوه جيم سن الرابعة عشر ..ذهب والدهم الى المستشفى للقيام ببعض الفحوصات بعد ان شعر بالإعياء .. 

وعندما عاد الى البيت مرهقاً , تفاجأ بما رآه امام عينيه في الصالة ! فجاستن كان يجلس فوق اخيه ويضربه بعنف , وانف جيم ينزف بغزارة  

فجنّ جنون الأب !! وامسك بيد جاستن (بعد ان رمى جاكيت الولد في وجهه) وطالبه بالخروج فوراً من منزله , صارخاً عليه بغضب: 
- الا يكفي اننا ربيناك حتى انهيت مدرستك , والآن بتّ تتطاول على ابني وتضربه بعنف .. بأيّ حق يا ابن الغريب !! 
جاستن بصدمة : ارجوك ابي , اسمعني قبل ان تطردني 

لكنه صرخ عليه بغضب : انا لست ابوك !! كم مرّة عليّ افهامك .. لقد تحمّلت وجودك في عائلتي من أجل زوجتي , وهي ميتة الآن , فأخرج من بيتي ولا تعود الينا ابداً .. قلت اخرج من هنا !!
جاستن وهو يبكي : لكن الجوّ عاصفٌ في الخارج ! 
الأب بلا مبالاة : اذهب الى بيت صديقك او الى الجحيم !! فأمرك لا يهمني بالمرّة

ورمى به الى الخارج بطقسٍ وصل الى 30 تحت الصفر بأحد ضواحي روسيا الباردة .. ثم اغلق باب بيته خلفه .. واسرع نحو ابنه الصغير الذي كان يضع منشفة على انفه لإيقاف النزيف
فقال له معاتباً : لما سمحت لهذا اللعين ان يضربك ؟
جيم بقلق : ابي , الجوّ باردٌ في الخارج !

الأب بغضب : قلت لا يهمني !! لقد اصبح شاباً ويمكنه تدبّر امره .. هيا اذهب الى غرفتك , وانا سأنام في غرفتي فصحّتي ليست بخير , واللعين زاد حالتي سوءاً
***

وبعد ساعة .. دخل جيم غرفة ابيه
- ابي .. يجب ان اتكلّم معك 
- بنيّ , انا مرهق واريد ان ارتاح قليلاً 
- لكني اريد ان اخبرك الحقيقة
- اي حقيقة ؟
- بصراحة انت اخطأت .. كان عليك ان تسأل جاستن عن سبب مشاجرته معي 
- اكيد تشاجرتما على شيءٍ تافه كالعادة
جيم وهو يشعر بالذنب والندم : لا يا ابي .. سأخبرك بما حصل لكن ارجوك لا تغضب مني .. 
- قلّ , انا اسمعك

- قبل ذهابك الى المستشفى كنت قد طلبت منك مالاً لأشتري هدية لصديقتي وانت رفضت , اتذكر ؟
- نعم
- فغضبت منك جداً .. وعندما اتصلت بنا وقلت : انك تنتظر نتيجة الفحوصات الطبية التي قمت بها في المستشفى .. قلت حينها باستياء : اتمنى ان يُصاب ابي بنفس مرض امي
بصدمة : ماذا ؟!
- نعم قلت هذا للأسف , واخي سمعني وجنّ جنونه , وضربني قائلاً : ان كنت لا تحب ابي فأنا احبه جداً , لأنه تبّناني وأحسن تربيتي

فاغرورقت عينا الأب حزناً , وقفز من سريره ..واسرع نحو الباب , وصار يُسرع في لبس جاكيته الشتوي .. فأوقفه ابنه :
جيم : ابي !! الى اين انت ذاهب ؟
الأب : سأبحث عن اخيك واعيده الى بيته

لكن ما ان فتح الباب حتى سقط جاستن على جنبه دون حراك , بعد ان تجلّد بفعل الصقيع .. فهو لم يذهب الى ايّ مكان بل جلس ينتظر والده قرب الباب الى ان يرضى عليه ويدخله ثانيةً

فأسرع الأب وجيم بإدخال جاستن الى الداخل وحاولا بكل الطرق تدفئته , لكن بوصول الأسعاف اخبرهم الطبيب بأنهم لم يلحقوه فقد مات بسبب العاصفة الجليدية .. 

فانهار الأب باكياً فوق جثة ابنه الكبير طالباً هو وجيم المغفرة والسماح , لكن بعد فوات الآوان !

ملاحظة :
هذه قصة حقيقية حصلت بروسيا أواخر التسعينيات ! 

فأحياناً ابن الغريب الذي أحسنت اليه يكون فيه الخير اكثر من ابنائك .. 
وهذا درس من دروس الحياة ! 

شاهدة على المجّزرة

كتابة : امل شانوحة

مجزرة,صبرا,شاتيلا,شهود,قتل,اعتداء,حقيقية
اتمنى ان لا يراني ويقتلني !

في امسيةٍ هادئة على غير العادة ! ترجّت سلمى والدتها : 
- هيا امي , دعيني أنام عند صديقتي .. ارجوكِ
امها بحزم : لا يا سلمى !! فالوضع الأمني لا يبشّر بخير  
صديقة ابنتها اماني : هي ليلةٌ واحدة يا خالة , وسنعيدها في الصباح.. 
ام اماني : لا تقلقي يا ام سلمى , فالحمد الله توقفت جميع الأطراف المتحاربة عن اطلاق الصواريخ هذه الأيام
ام سلمى بقلق : أخاف ان يكون هذا الهدوء ما قبل العاصفة !

لكن بعد الحاحٍ شديد من البنتين , قبلت الأم اللبنانية مُرغمة بمبيت ابنتها سلمى (12عام) عند صديقتها اماني الفلسطينية والتي كانت تكبرها بسنة في مخيّم صبرا , وذلك مساء يوم 16 ايلول من عام 1982 .. ولم تكن الأم تعرف ان موافقتها هذه ستقلب حياة ابنتها رأساً على عقب 
***

وفي داخل المخيّم الفلسطيني .. أمضت سلمى مع رفيقتها الليلة في لعب  الدمى بعد ان تعشّت مع عائلة اماني المكوّنة من والديها واخوها الصغير (5 سنوات).. 

وقبيل منتصف الليل ..جهزت الأم لهما فراش النوم .. وقد نامت اماني على الأرض بعد ان اصرّت ان تنام صديقتها سلمى فوق سريرها الصغير 
وبعد ساعة من نوم الجميع .. بدأ يتناهى الى أسماع سلمى اصواتاً قادمة من بعيد أذهبت النوم من عينيها  

وقد كانت في البداية اصواتاً لتحرّك دبّابتين يبدو وكأنهما تتجهان نحو المخيّم ! ثم تصاعدت اصوات طلقات المسدّسات البعيدة التي لم تُقلق سكّان المخيّم الذين تعوّدوا على سماع طلقات الرصاص وانفجارات الصواريخ و أزيز الطائرات الحربية في زمن الحرب الأهلية اللبنانية .. لكن المشكلة ان صوت الطلقات بدأ يقترب اكثر واكثر من الحيّ المتواجد فيه منزل أهل اماني , والأسوء ان هذه المرة صاحبتها صرخات النساء والأطفال , مما ايقظ والدة اماني التي اسرعت نحو غرفة البنات وايقظتهما بفزع :
- اماني , سلمى .. استيقظا بسرعة !! علينا الهرب فوراً من المنزل
اماني تستيقظ بخوف : ماذا يحصل يا امي ؟ ولما كل هذا الصراخ في الخارج ؟!

و هنا قدِمَ والدها وهو يحمل ابنه الصغير الذي كان يبكي برعب , قائلاً لهم :
- هيا اسرعوا والبسوا احذيتكم !! يبدو ان الملاعيين يقومون بمجّزرة في الخارج !

وفجأة !! سمعوا طرقاً على باب الدار , وكأن جندياً يركله برجله بقوة محاولاً كسره ..وتجمّد الجميع من أثر الخوف , ما عدا سلمى التي اسرعت واختبأت تحت السرير .. ومن هناك , شاهدت كل ما حصل لعائلة اماني
حيث اقتحم البيت جنديين , عرفت سلمى ذلك من أحذيتهما العسكرية .. 

وعلى الفور !! اطلق احدهما النار على رأس الأب ليرديه قتيلاً ويسقط من يده ابنه الصغير التي اسرعت الأم وحملته وهي تبكي منهارة وتتوسّل اليهما كي لا يقتلوا الأولاد .. لكن الرصاصة الثانية كانت برأس ابنها ليموت في احضانها وتنهار الأم على ركبتيها من شدّة الفزع .. فيقول احد الجندين للآخر :
- ما رأيك يا صديقي ؟ هل نعتدي على الصبيّة الصغيرة امامها , ام نقتل الأم اولاً ؟

فصرخت الأم وهي تحتضن اماني التي كانت ترتجف برعب :
- لا رجاءً !! افعلا بي ما تريدون , لكن اتركا ابنتي الصغيرة تذهب في حال سبيلها
فردّ عليها احد الجنديين بسخرية : وماذا نفعل بعجوزٍ مثلك ؟ الصبيّة تعجبنا اكثر 

ثم اطلق رصاصة استقرتّ في بطن الأم , فصارت تتلوّى على الأرض من شدّة الألم , واماني بجانبها تحاول الضغط على جرح امها وهي منهارة بالبكاء
فقال الجندي الآخر لصديقه معاتباً : يا اخي كم مرّة عليّ تنبيهك بأن تقتلهم من اول رصاصة , فنحن لا نريد اضاعة مخزوننا من الأسلحة بالتساهل معهم , فهناك الكثير من الجرذان المختبئة في هذا المخيّم ..

ثم رفع سلاحه واطلق النار على رأس الأم لتموت على الفور .. ثم قال لصديقه :
- اسمع !! انا ذاهبٌ الى البيت المجاور , وانت تسلّى قليلاً مع البنت ثم اقتلها , فنحن لا نريد ترك شهودٍ وراءنا .. أفهمت ؟
فأجابه الآخر بابتسامة الذئب البشري وهو ينظر الى اماني الخائفة 
- نعم فهمت .. هيا اذهب واغلق الباب خلفك , ودعني استمتع بهذه الضحيّة  

وبعد ان ذهب صديقه .. قال الجندي لأماني : 
- هيا تعالي اليّ , ولا تتعبيني يا فتاة 
لكن اماني حاولت الهرب من النافذة , فتبعها وشدّها من شعرها ورماها على الأرض , لتسقط بقوة على رأسها مما شلّ حركتها

اما سلمى (التي كانت تنهج بخوف تحت السرير) فقد كانت الشاهدة الوحيدة على ما فعله اللعين بصديقتها اماني التي كانت تنظر لسلمى بهدوءٍ مرعب بعد ان تلاقت اعينهما ببعض .. لكن البطلة الصغيرة فضّلت ان تتعذّب لوحدها على ان تفضح مخبأ صديقتها (اسفل السرير) .. 

وقد لاحقت عينا سلمى دموع اماني المقهورة و المتألّمة وهي تنزل ببطء على خدّيها بعد ان استسلمت لمصيرها المشؤوم .. 
وقبل ان تعي سلمى كل ما يحصل امام ناظريها , اذّ برأس صديقتها ينفجر برصاصة اخترقته بعد ان انهى الجندي عمله معها.. 
ثم خرج من البيت , تاركاً سلمى في غرفةٍ غارقة بدماء اربعة جثث لأعزّ الناس الى قلبها 
*** 

في الجهة المقابلة.. سمع والديّ سلمى الخبر من احد الهاربين من المجّزرة , حين دخل كالمجنون على ملجأٍ لعمارةٍ لبنانية وهو يضع يده على عينه المفقوءة , قائلاً بفزع :
- ارجوكم , الحقوا بنا !! فهناك مجزّرتين تقام الآن ضدّ الفلسطينيين في مخيمات صبرا وشاتيلا .. وانا بالكاد هربت منهم  

وكم كان وقع الخبر صادماً على والديّ سلمى .. حيث اسرع ابوها نحو المكان , لكن الحاجز الأمني رفض دخول او خروج ايّ شخص للمخيّم غير مباليين بأصوات الصراخ و الإستغاثات المرعبة القادمة من الداخل , المترافقة مع طلقات الإبادة الصادرة من المسدّسات و الرشّاشات الآليّة 

الأب وهو يتوسّل للجندي بفزع : ارجوك , ابنتي بالداخل .. انظر الى هويتي ..انا لبناني .. دعني اخرجها من هناك
الجندي بلؤم : يمكننا ان نسمح لك بالدخول , لكني لا اضمن لك بأن تخرج من هناك حيّاً
فقال الجندي الآخر له باستهزاء : اصلاً انت تأخّرت كثيراً , فالجميع بالداخل هم الآن برسم الموت .. لكن لا تقلق , فنحن بالأساس قرّرنا ان نبيدكم منطقة تلوّ اخرى .. يعني ماهي الاّ ايام ويأتي دورك لتلحق بإبنتك المرحومة
ويضحكان الجنديان على الوالد بإستهزاء
***

فعاد الأب منهاراً الى الملجأ ليخبر الجميع بأن سكّان المخيّم يبادون عن بكرة ابيهم , فعمّ الخوف والحزن أرجاء الملجأ المعتم الاّ من بعض الأنوار الخافتة للشمع المتناثر هنا وهناك .. بينما ارتفع صوت المذياع الذي كان ينقل الأخبار حول المجزّرة ضمن نشراتٍ متتابعة , اما النسوة والعجائز فكانت ألسنتهم تلهج بالدعاء خوفاً من ان يأتي الدور على منطقتهم في الأيام القادمة
***

وبعد ثلاثة ايام .. انتهت مجزّرة صبرا وشاتيلا بعد ان خلّفت ورائها آلاف القتلى مجهولي الهوية بعد ان اختفت معالمهم بسبب تحلّل الجثث بفعل حرارة الصيف ... وبعد فكّ الحاجز الأمني ورحيلهم عن المكان , بدأت الصحافة والإسعاف بالدخول اولاً الى المنطقة المحظورة لتصوير وإزالة الجثث و اشلائهم المبعثرة في كل مكان ! 

اما اول الواصلين من المواطنين اللبنانيين الى المخيّم فكان والد سلمى الذي اقنع امها بصعوبة بانتظاره في المشفى لحين إحضاره جثة ابنته بعد ان يأسا من بقائها على قيد الحياة في ظلّ الظروف الوحشية التي شهدها المخيّم 
وقد وصل اخيراً الى منزل اهل اماني بعد ان مشى بين مئات الجثث المتحلّلة على جنبات الطريق .. وعندما دخل الى الغرفة الداخلية , وجد الجثث الأربعة قد تعفّنت بالكامل , وتحوّلت دمائهم اللزجة الى اللون الأسود ..فأغلق انفه بقوة وصار يبحث هنا وهناك عن جثة ابنته .. وعندما لم يجدها في البيت , صار يصرخ بخوف: 
- سلمى اين انت ؟!! سلمى !!

وهنا سمع بكاءً مكبوتاً صادراً من اسفل السرير .. لكنه ما ان أخفض رأسه ليرى من هناك .. حتى صرخت ابنته بكل ما تبقّى لها من قوّة (لظنّها بأنه أحد القتلى) ثم اغميّ عليها من شدّة الخوف.. 
فأسرع هو وحمل جسدها الذي هزل كثيراً خلال الأيام الثلاثة الماضية , اما وجهها فكان خالياً تماماً من ايّ لون وكأنها تحوّلت الى شبح ! بينما اصطبغت غرّة شعرها باللون الأبيض .. 

وانطلق بها الى خارج المنزل وهو يربت على ظهرها مهدّئاً , ويحمد الله على انها بخير.. لكن قبل خروجه بها من المخيّم متوجهاً الى المستشفى , توقف قليلاً لكيّ تعبر الشاحنة الأولى المحمّلة بالجثث .. بينما تابعت سلمى بنظرها من فوق كتف والدها (بعد ان استيقظت) رفرفة الغطاء الأزرق البلاستيكي الذي كان يتطاير بالهواء فوق الجثث المتفحّمة , لكن شيئاً كرويٌ ابيض صغير سقط من شاحنة , فظنّته سلمى بأنه رأس دمية , خاصة بعد ان تلاقت اعينها بعينيه الزرقاوتين الصغيرتين , قبل ان تأتي عجلة الشاحنة الثانية وتسحقه ليخرج منه شيئاً ابيضاً , فاستوعبت حينها بأنه كان رأس طفلٍ رضيع قُطع حديثاً , فأغميّ عليها مجدّداً ! 
***

لكنها استيقظت في المشفى على صوت امها وهي تتجادل مع والدها خارج الغرفة :
الأم وهي تبكي منهارة : لا !! لن اسمح لأحد ان يلمس ابنتي
الوالد بضيق : لكني اريد ان اعرف اذا كانوا الملاعيين اعتدوا عليها ام لا , فجثة اماني كانت عارية امامها .. إفهمي يا امرأة !!
الأم بإصرار : لا !! لن اجعلها تخوض تجربة هذا الكشف الطبي .. على جثتي !! الا يكفي ما مرّت به يا رجل ؟!!
فقالت الطبيبة محاولة تهدئة الوضع : انا عندي رأيٌّ افضل .. سأقوم بتخدير البنت ثم أقوم بفحصها , مارأيكما بهذا الحلّ ؟

فرضيّ الوالدان بذلك .. ولم تعرف سلمى حينها سبب خوف والدتها او قلق والدها .. لكنها استيقظت بعد ساعة بين ذراعيّ والدها وهو يحضنها بقوة ويبكي قائلاً :
- الحمد الله انك بخير يا حبيبتي 
فقالت سلمى في نفسها بحزن : لا لست بخير يا ابي .. لست بخير ابداً 
***

ومرّ شهرٌ كامل .. لم تنطق فيه سلمى بكلمةٍ واحدة ! مما أخاف والديها خاصة بعد ان اخبرهم الطبيب المعالج : ان هناك احتمال كبير بأنها فقدت القدرة على النطق بعد مرورها بتلك التجربة القاسية 

وقد رضخ الأب للأمر , لكن الأم رفضت الإعتراف بإعاقة ابنتها وحاولت علاجها كل يوم , حتى بعد مغادرة سلمى وعائلتها البلد بناءً على نصيحة الطبيب , لأن اجواء الحرب كانت تزيد حالتها سوءاً  
***

ومازالت سلمى تذكر اليوم الأول لها في الغربة .. حيث لم تستوعب هذا القدر من الهدوء ! فهي لم تعشّ يوماً طيلة سنواتها الأثني عشر دون اصوات الحرب الدائرة في الخارج .. ولهذا لم تستطع النوم الاّ بعد ان وضعت ساعة المنبّه تحت اذنها , لتتمكّن من سماع ايّ ضجيج يجعلها تنام! 
***

ومرّت سنة كاملة وسلمى مازالت على حالها .. ودخل اخوتها الصغار المدارس لكنها لم تفلح ابداً في الإمتحانات الشفوية لأيّ مدرسة .. 

وفي يومٍ ما .. استيقظت من النوم صباحاً على صراخ والدها وهو يحاول اقناع زوجته بوضع سلمى في مدرسة مخصّصة للصمّ والبكم .. لكن الأم رفضت ذلك بقوة , قائلةً بعناد :
- ابنتي سليمة , وستتعلّم في مدارس عادية كباقي اخوتها
الأب صارخاً (دون ان يلاحظ ابنته التي كانت تقف خلفه) : 
- عليك ان تستوعبي بأن ابنتك اصبحت معاقة !!

فانصدمت سلمى من هذه الكلمة التي كانت تُقال كشتيمة بين اطفال جيل الحرب .. فقالت لوالدها بصوتٍ ضعيف : 
- لكني لست معاقة يا ابي !

والى اليوم لا تنسى سلمى كيف هجم عليها والداها , يقبّلانها ويبكيان بعد ان اشتاقا كثيراً لسماع صوتها الحنون 
***

ومع الأيام .. تحسّنت حالة سلمى كثيراً .. خاصة بعد ان اتفق الوالدان مع اخوتها بأن يقولوا لها : بأن المجّزرة لم تحصل بالواقع بل كانت كابوساً شاهدته وهي نائمة في الملجأ .. وبأن صديقتها اماني مازالت بخير , وبأنها ستراها فور عودتها الى لبنان ..والغريب ان سلمى صدّقت كذبتهم ! 
***

وبعد ان انهت دراستها الثانوية , عادت سلمى الى لبنان لتُكمل جامعتها بعد ان اخبرتها امها بأن اماني وعائلتها هاجروا جميعاً الى استراليا وانقطعت اخبارهم 
فتناست سلمى امرهم .. ومرّت سنوات الجامعة بخيرٍ وسلامة .. 

الى ان جاء اليوم التي عادت فيه فرحة الى منزل اهلها بعد حفلة تخرّجها 
..لكن النوم جافاها تلك الليلة , فأرادت مشاهدة التلفاز .. وبالصدفة كان يُعاد عرض برنامج (حرب لبنان) على قناة الجزيرة , وكانت الحلقة تتكلّم عن : مجّزرة صبرا وشاتيلا .. 
وحينها شاهدت سلمى مقطعاً مصوّراً للشاحنتين اللتين كانتا ملىءَ بالجثث المغطاة بالبلاستيك الأزرق .. وظهر في ذلك المقطع والدها (عندما كان شاباً) وهو يحملها على كتفه .. 

وعلى الفور ! عاد شريط حياتها الى الوراء وتذكّرت سلمى كل الأحداث المؤلمة التي اُلغيت من ذاكرتها , مع انها كانت تراها ككوابيس من وقتٍ لآخر ..

حتى انها تذكرت رائحة جثث عائلة اماني وهي تتحلّل امام ناظريها .. وفهمت ايضاً لما كانت النسوة في الملجأ يمانعنّ جلوسها مع بناتهنّ (بعد عودتها من تلك المجّزرة) ربما لخوفهنّ من ان تُخبر الصغار بما اُرتكب من عنفٍ هناك , وتحديداً بما حصل لأماني ..لكنهم جميعاً لا يعرفون بأن عقلها قام بإلغاء تلك المشاهد الفاضحة من ذاكرتها حتى هذا اليوم ..

فانهارت سلمى في بكاءٍ مرير , مما ارعب والدتها التي دخلت الى غرفتها وقامت بإطفاء التلفاز , لاعنةً الفيلم الوثائقي الذي نكأ بجرح ابنتها مجدّداً 

وبصعوبة بالغة استطاعت الأم تهدأتها .. فمسحت سلمى دموعها قائلة بحزن :
- اتذكّر ان ابي قال لي ذلك اليوم وهو يحملني من تحت السرير : الحمد الله انك بخير .. لكنه لا يعرف بأنه حمل جثة ابنته بعد ان قتل الملاعيين براءتي وروحي يا امي ..
امها وهي تحضنها بشفقة : حبيبتي , حاولي ان تنسي تلك الأحداث .. فأنت والحمد الله تعدّيت المرحلة الصعبة من حياتك

- كيف تعدّيتها يا امي ؟ وقد صار لديّ فوبيا من الزواج , ورفضت حتى اليوم عشرات العرسان بلا سببٍ مقنع , سوى ان ذلك الجندي الذي اعتدى على اماني جعلني اكره كل الرجال , و انا متأكدة بأنني سأبقى اكرههم الى آخر يومٍ في عمري  
- لكن هذا لا يجوز يا ابنتي , فأنا ووالدك واخوتك نتمنى ان نرى اولادك يوماً ما 

فأجابتها بحزن : ابنتك ماتت مع اماني ذلك اليوم يا امي , وعليكِ ان ترضي بذلك .. لكني اعدك بأن احاول ارضائكِ بنجاحي بالعلم والعمل ولا شيء آخر .. (وبنبرةٍ حازمة) .. اما الزواج فهو مُلغى تماماً من حياتي , وهذا قراري النهائي !!

وخرجت سلمى من غرفتها باكية , تاركةً امها تشعر بالمرارة و القهر على الحالة التي وصلت اليها ابنتها بعد ان شهدت فظاعة تلك المجّزرة التي ستبقى دائماً وصمة عار في تاريخ لبنان !


ملاحظة :
هذه القصة مستوحاة من أحداث حقيقية حصلت مع أحد شهود العيان الذي كان من القلائل الذين نجوا من مجّزرة صبرا وشاتيلا ..

وبنهاية القصّة نقول : رحم الله جميع الشهداء الذين سقطوا على الأرض اللبنانية في زمن الحروب الغادرة


وكما نقول نحن اللبنانيون عن تلك الأيام السوداء : (تنذكر ما تنعاد) 


السبت، 19 أغسطس 2017

قلبي محرمٌ عليك

فكرة : اختي اسمى
كتابة : امل شانوحة


فلسطين,اسرائيل,حب,احتلال,وطن
سأظلّ مخلصة لإبن بلدي

مع بداية أمسيةٍ هادئة في إحدى بيوت غزّة الفلسطينية .. سمع الشاب طرقاً على باب المنزل , ففتحه ليجد صبيّة تُلقي عليه التحيّة بابتسامةٍ عريضة :
- عزوز !! كيف حالك يا ابن خالتي ؟
فأجابها بارتباك : انا ! ..انا بخير .. من انتِ ؟!
فأجابته بحماس : انا فرح !! هل نسيت صديقة طفولتك ؟!.. (ثم ضحكت) .. بصراحة لا الومك لأنك لم تعرفني , فشكلك ايضاً تغير عليّ كثيراً 
بتلبّك : انا ...

مقاطعة : الن تدخلني المنزل اولاً ؟ فقد قدمت من اميركا الى مصر , ومن ثم اوقفوني يومين عند معبر رفح , ولهذا انا متعبة للغاية .. آه صحيح ! أخذنا الكلام ونسيت ان اسألك , اين هي خالتي ؟
وقبل ان يجيبها , اكملت طريقها الى داخل المنزل وهي تجرّ شنطة سفرها , وتنادي بصوتٍ عالي : خالتي انا أتيت !! 
بينما وقف يراقبها وهو مازال مندهشاً من حماستها !  

في الداخل .. وبينما هي تَجول في الدار .. 
فرح : واو  !! البيت مازال كما هو منذ ستّ عشرة سنة ! ..آه لا اصدّق !! أمازالت هنا ؟! اتذكر يا عزوز عندما كنّا نلعب على هذه الأرجوحة حين كنّا صغاراً .. وتعال انظر هنا !! اسمي واسمك مازالا محفورين على هذه الشجرة .. ياه ! لقد نمَت كثيراً عن آخر مرّة رأيتها فيها قبل مغادرة فلسطين مع اهلي 
الشاب مُستفسراً : ولماذا تركتي اسرائيل ؟
فقطّبت فرح جبينها باستنكار : اسرائيل ! منذ متى كنّا نعترف بهذه الدولة اللعينة يا عزوز ؟!

فالتزم الصمت , بينما أكملت هي كلامها :
فرح : هيا لم تخبرني بعد , اين امك ؟
- زوجة ابنها انجبت طفلة على ما اعتقد , وستبقى عندهم اسبوعاً
فضحكت فرح ساخرة : الا تدري ماذا انجب اخوك ايها الأحمق ؟
فقال بضيق : المهم الآن !! هل تعرفين عنوانه ام اعطيك ايّاه ؟

- مابك غضبت هكذا ؟! كنت امزح معك .. (ثم تفكّر قليلاً) اسمع !! سأبقى هنا الى حين عودتها , وبذلك انتبه على بيتها وعلى اخي وصديقي عزوز , ما رأيك ؟
بلا مبالاة : كما تشائين , انا ذاهبٌ الى غرفتي 
فرح بدهشة : الا تريد ان تتعشّى معي ؟!
الشاب : لا !! أكلت قبل قليل , وستجدين بقايا طعام في الثلاجة .. تصبحين على خير

وبعد ان أقفل عليه باب غرفته , قالت فرح في نفسها : 
- لما تغيرت معاملته معي هكذا ؟!
*** 

وفي اليوم التالي .. استيقظت فرح ظهراً .. وخرجت من الغرفة لتجد عزوز يبحث عن الطعام في الثلاجة 
- صباح الخير عزوز
معاتباً : الم تتركي لي شيئاً يُأكل ؟!
فرح باستغراب : منذ متى نُعامل الضيف بهذا الأسلوب يا عزوز ؟! ثم لم يكن هناك اصلاً سوى صحن حمص صغير , فأكلته ونمت .. لكن ان ضايقك الموضوع فسأعزمك على الغداء .. هل مازال مشاوي ابو مازن موجود ؟
- اعتقد هذا .. هيا بنا
فحدّثت نفسها باستغراب : لقد اصبح بخيلاً ايضاً ؟!
*** 

بعد ساعة .. وفي طريق عودتهم الى المنزل بعد ان تناولا الغداء على حسابها , قالت فرح :
- والله لا يوجد أطيب من اللحم المذبوح على الطريقة الإسلامية .. اتعلم يا عزوز اننا كنّا نضّطر الى الذهاب الى ولايةٍ ثانية لإحضار اللحم الحلال , اما باقي الشهر فكنّا نطبخ الخضار فقط .. مابك صامتٌ هكذا ؟ اذكر أنك كنت ثرثاراً في صغرك 

وهو يلتفت يميناً ويساراً بقلق : لا شيء , لكني اريد العودة الى المنزل .. فأنا لم اعدّ احب التجول في الشوارع  
فرح بشفقة : آه فهمت .. لقد اخبرتنا خالتي بالهاتف (قبل ان تنقطع الإتصالات بيننا بسبب الحصار) عن موت صديقك برصاص العدو , وبأنك حملته بنفسك الى المستشفى لكنه مات بين يديك .. اظن ان الحادثة اثّرت كثيراً على نفسيتك , اليس كذلك ؟
فأومأ برأسه موافقاً

فرح : لا تحزن يا عزوز هو بالنهاية شهيد , ونحن لا نبكي الشهداء لأنهم احياءٌ عند ربهم يرزقون .. (ثم تقول بفزع) .. آه يا الهي , ليس الآن ! 
بقلق : ماذا هناك ؟!
فرح : انظر !! انها مداهمة صهيونية 
وهنا دخلت دبابةٌ اسرائيلية الى الحيّ الفلسطيني في غزّة , يرافقها اربعة جنود مدجّجين بالسلاح .. 

وعلى الفور !! تجمّع الفتيّة من كل مكان وبدأوا يرشقونهم بالحجارة .. حتى ان فرح ركضت باتجاههم وصارت تشاركهم برميّ الحجارة , لكن عزوز أسرع اليها وشدّها من يدها معاتباً
- هم قدموا لإجراء تفتيشٍ روتيني , فلما يجب تحويلها دائماً الى ساحة معركة ؟! هيا امامي الى المنزل !! ودعي الجنود يقومون بعملهم  
وسحبها من يدها بعنف .. 
***

وبعد ان ابتعدا عن الجنود , سحبت يدها منه بغضب .. 
فرح : مابك يا عزوز ؟!! لما تغيرت هكذا ؟ أكاد لا اعرفك !
فأجاب بعصبية : وهل ضروري ان يُصاب طفلٌ في كل مواجهة ؟!!
- لكن عندما كنت في مثل عمرهم , كنت اول المدافعين عن الحيّ ..الا تذكر ؟
لكنه لم يجيبها ..

فرح : طيب اتذكر ذلك اليوم , عندما اردّت مشاركتكم برميّ الحجارة بعد عودتي من المدرسة , وقتها ايضاً رفضت الأمر وأمرتني بالعودة الى منزلي .. لكنك فجأة صرخت بألم .. وكم خفت عندما رأيت الدم يخرج من ذراعك بعد ان أُصيبت برصاص العدو ..ومع هذا لم تبكي ! ثم نقلوك بسيارة الأسعاف , وركضت انا كالمجنونة لأخبر خالتي كي تلحق بك .. كم كنت شجاعاً وقتها يا عزوز !

- أمازلتي تذكرين احداث الماضي ؟!
- لم انسى شيئاً رغم غربتي الطويلة في اميركا بعد ان هدم اليهود بيتنا..
مقاطعاً : هل هدموا بيتكم ؟ لماذا ؟!
بدهشة : عزوز ! هل أصبت في رأسك ايضاً ؟ الا تعرف انهم هدموا بيتنا بعد ان استشهد اخي الكبير في عمليةٍ تفجيرية في تلّ أبيب ؟! 
- هو بصراحة ... أُصبت فعلاً في رأسي من حجارةٍ رماها عليّ أحد الأطفال بالخطأ , حتى انظري ..

وأراها أثر جرحٍ قديم في جبهته بعد ان رفع شعره عن جبينه
فرح : الهذا صرت تنسى بعض المعلومات عن الماضي ؟!
- نعم للأسف .. لكن لا تخافي , لم اصبّ بعد بالزهايمر .. فقط لا تستغربي ان وجدّتيني نسيت بعض ذكرياتنا سويّاً
- حسناً فهمت ! عافاك الله يا عزوز.. 
- لا عليك .....وهآقد وصلنا الى البيت
***

في المساء .. بينما كانا يتناولان عشاءً خفيفاً , سألها مستفسراً :
- آه صحيح فرح .. كيف سمح لك والدك بالقدوم لوحدك الى هنا ؟
فأجابته بحزن : والله لو كانت امي مازالت على قيد الحياة لكانت منعتني خوفاً عليّ , لكن ابي بعد ان تزوج بإمرأة اجنبية للحصول على الجنسية الأمريكية..
فأكمل عنها الكلام : اصبح اكثر تحرّراً
فرح : ليس بالضبط , لكنه انشغل بحياته الخاصة او ربما تفهّم عملي كصحفية .. اتدري , جيد انك ذكّرتني .. هل تذهب معي غداً الى مزرعة الزيتون ؟

- وماذا عندك هناك في القرية ؟
- الم تسمع ان الأسرائيليين يهدمون منازل المزارعين ويقطعون اشجار الزيتون ؟
- اعتقد انهم لا يفعلون ذلك الاّ لبناء مستعمراتهم 
- يا سلام ! أضاقت أعينهم على بيوت المساكين ! الا تعرف كم تحتاج شجرة الزيتون الى ان تكبر وتثمر حتى يأتي هؤلاء الملاعيين ويقطعونها .. ثم تعال هنا !! لما احسّ بأنك تدافع عنهم ؟!

- انا لا ادافع عن احد , فقط اعطيك وجهة نظرهم للموضوع
بعصبية : انا لا تهمّني دوافعهم , ولا يجب ان تهمّك انت ايضاً !!
فيضحك قائلاً : كنت فقط أمتحنك كيّ أعرف ان كانت الغربة غيّرتكِ ام لا 
- لا شيء يغير حب الفلسطينيين لبلدهم يا عزوز
فتبسّم لها قائلاً : أحسنتِ يا ابنة خالتي !!
*** 

ومنذ الصباح الباكر , ذهبا معاً الى القرية .. وما أن بدأت فرح بأخذ الصور لبعض البيوت المهدّمة والأشجار المقتلعة حتى تساقطت الصواريخ عليهم من كل مكان ! فركضت فرح وعزوز مع بعض النسوة فزعين الى ملجأٍ حجري موجود أسفل بيتٍ صغير , وقد إزدحم المكان بهم .. 

وفي خضمّ الأحداث .. شاهد عزوز امرأة فلسطينية تحاول اقناع ابنها ذو العشر سنوات بالبقاء معها في الملجأ , لكنه سحب يده قائلاً بحزم :
- الملجأ للنساء يا امي , وانا سأبقى فوق مع الرجال لنمنع اليهود من دخول أراضينا !!
وبعد ذهابه , أغلقت النسوة عليهنّ باب الملجأ , فأحسّ عزوز (الذي اختبأ معهنّ) بالخزيّ امام شجاعة هذا الصغير
***

وبعد ان هدأت صوت الإنفجارات في الخارج ..استغلّت فرح وجودها بينهنّ فصارت تسألهنّ عن قصص المواجهة التي حصلت بين اهالي المنطقة والإسرائيليين 
فأجابتها امرأة عجوز بفخر : انا استشهد لي شابين , اما بناتي فزوجتهنّ الى الخارج , وقد الححّنَ عليّ للحاق بهنّ لكني رفضت ترك فلسطين .. بالرغم من انني بقيت لوحدي أزرع الأرض بعد وفاة والدهم الشهر الفائت , وسأبقى أعمل فيها الى ان يأخذ الله امانته

فردّت الثانية قائلة للعجوزة : إحمدي ربك انهم لم يحرقوا ارضكم كما فعلوا معنا .. والله ان والدي العجوز ظلّ يُطفأ بردائه شجرة البرتقال التي زرعها والده الى ان مات فوق ارضه
عزوز بدهشة : يا الهي !

بينما وصفت امرأة ثالثة كيف عذّب اليهود ابنها الكبير الذي تمّ القبض عليه بعد فشل عمليته الإنتحارية , وقد حوكمَ بالسجن المؤبد
وقد شارك جميع من كان في الملجأ بقصصهم التي دار موضوعها حول وحشية اليهود ومخالفتهم لكل القوانين الدولية بحق الفلسطينين , بينما دوّنت فرح هذه الأخبار في مسجّلٍ صغير كانت تحمله , امّا عزوز فكان يستمع لتلك القصص بغرابةٍ كبيرة !
***

وبعد ان هدأ الوضع ..خرج الجميع من الملجأ متوجهين الى بيوتهم وأراضيهم لتفقدها بعد سقوط تلك الصواريخ عليها
فقال عزوز لفرح ..
- أكاد لا اصدّق ما سمعت ! هل كان الأعلام يخدعنا ؟!

فرح باستغراب : عن ايّ اعلام تتحدّث ؟! ان كنت تقصد الغربي فبالتأكيد !! اصلاً كلّ اخبارهم كذب وافتراء .. (ثم تسكت قليلاً) يا اخي حقاً ! هل انقلبت الأدوار ؟
- ماذا تقصدين ؟
- يعني انا من عشت طفولتي بالغرب وانت عشت هنا , لكن تفكيرك هو المشوّش وليس انا ؟!

فوضع يده على أثر الجرح في رأسه وقال مبتسماً : يبدو انني في طريقي الى الزهايمر 
فضحكت فرح ساخرة : والله هذا ما كان ينقصك .. هيا نعود الى البيت قبل ان تغيب الشمس , ولنحمد الله اننا عدنا سالمين 
***

وبعد ان وصلا الى منزلهما في المساء , أراد عزوز الإستحمام لكن الماء كانت مقطوعة , فقامت فرح بتسخين له بعض المياه الموجودة عندهم في بركة الدار .. وبعد ان خرج من الحمام وجدها قد انتهت من تحضير العشاء
فرح : هيا لنتعشّى يا عزوز , ثم نذهب لننام فقد تعبنا كثيراً اليوم

وهنا انقطعت الكهرباء..
عزوز بضيق : لا هذا كثير !! لا ماء ولا كهرباء
فسألته فرح : واين تضع امك الشموع ؟
- والله لا ادري .. اظنني رأيتها آخر مرة تُخرجهم من الخزانة الموجودة أسفل المجلى بالمطبخ 

ثم جلسا يأكلان الطعام على ضوء الشموع , فمازحها عزوز قائلاً: 
- وكأنه عشاءٌ رومنسي
فلم تجبه فرح بل اكتفت بابتسامةٍ خجولة

وبعد قليل.. 
عزوز : لقد شبعت 
فرح معاتبة : قل الحمد الله , فهذه النعمة لا يجدها الكثيرون من شعبنا
- هذا صحيح .. على فكرة , طعامك جداً لذيذ يا فرح
- طبعاً سيكون لذيذ طالما انني اطبخ لأخي العزيز 
فقال لها معاتباً : انا لست اخوك يا فرح , وايّاك ان تنسي ذلك
وغمزها بغزل .. ثم ذهب الى غرفته , بعد ان تركها تشعر بفرحةٍ عارمة
***

في ظهر اليوم التالي ..
خرجت فرح من غرفتها وهي تلبس ثياباً مُحتشمة و حجاباً , فقال لها عزوز باستغراب : هل تحجبتي يا فرح ؟!
فأجابته بابتسامة : بإذن الله سأفعل يوماً ما .. لكننا سنذهب سويّاً لصلاة الجمعة في المسجد الأقصى , فقد اشتقت اليه كثيراً .. 
- اذاً هيا بنا 
- اذهب اولاً و توضأ , وانا سأنتظرك عند الباب ..لا تتأخّر عليّ 
***

وبعد ان وصلا الى المسجد الأقصى , أوقفهما حاجز تفتيشٍ يهودي 
فقال عزوز لفرح : أدخلي انت مع النسوة وانا سأتكلّم معهم 
فرح بقلق : عزوز .. الصهاينة لا يمكنك محاورتهم , لذا دعهم يفتشونك دون ان تثير المتاعب 
عزوز بحزم : فرح !! أدخلي الى مصلّى النساء , وانا سأحلّ الموضوع
ثم ذهب نحو الحاجز وصار يتكلّم مع اليهود..
  
وبعد قليل .. سمحوا له بالدخول الى الجامع , بينما تمّ منع معظم الشباب الغاضبين من تجاوزهم.. وقد راقبت فرح من بعيد عزوز وهو يمرّ من ذلك الحاجز بدهشة !

وفي داخل الجامع ..
اصطفّ عزوز مع كبار السنّ للصلاة , حيث قال لهم احدهم :
- جميل ان نرى شاباً يصلي معنا 
بينما قال له العجوز الآخر : يبدو ان لديك واسطةً قوية يا بنيّ ؟
لكن عزوز اكتفى بالإبتسامة لهما , مع ارتفاع تكبيرة الصلاة
***

وبعد انتهاء خطبة الجمعة , اقترب منه العجوز معاتباً :
- مرةً ثانية ايها الشاب .. لا تتلفّت كثيراً في الصلاة , فهذا لا يجوز  ..مفهوم ؟
فهزّ عزوز رأسه موافقاً , وهو يقول في نفسه : جيد ان فرح لم تراني وانا احاول تقليد العجائز , لأنني ابتعدّت كثيراً عن الروحانيات في الآونة الأخيرة .. سامحني يارب
***

لكن وقبل خروج المصليين من جامع الأقصى تفاجأوا بمداهمة لجنود يهود ارادوا اقتحام المسجد .. 
وعلى الفور !! اسرع العجائز والنسوة والأطفال برشق الأحذية في وجه الجنود , وقد شاركهما في العراك عزوز وفرح 
***

وبعد ان هدأ الوضع بتراجع الجيش اليهودي الى خلف الحاجز كما يحصل معهم دائماً , اقتربت فرح من عزوز الذي كان يفتشّ في كل مكان بضيق ..فقالت له فرح ممازحة :
- لا تحاول , لن تجد حذائك بين اكوام الأحذية المرمية هنا وهناك 
- وماذا نفعل الآن ؟!
- نعود حفاة الى بيتنا 
عزوز بدهشة : أبهذا الحرّ ؟
- يا اخي وكأنك تعيش في سويسرا طوال حياتك , الا تذكر عندما كنّا صغاراً كنّا نحمل احذيتنا بأيدنا ونسرع بالركض هرباً 

عزوز مستفسراً : هرباً مِن مَن ؟!
فرح : من جارتنا أم أمجد .. هل يا ترى مازالت حيّة ؟
- لا ادري .. لكن لما كنّا نهرب منها ؟
- يا الهي ! ذاكرتك بدأت تزداد سوءاً .. تعال معي , فبالرغم انني عشت معظم حياتي بالغربة , الا انني مازلت اذكر عنوان بيتها  
***

لكنهما اولاً ذهبا الى البيت ولبسا حذائين آخرين , ومن ثم ذهبا الى عنوان السيدة .. وما ان وصلا الى بيت العجوز , حتى قالت فرح بسعادة : نعم هذا هو بيتها !! 
عزوز : لم تجيبيني بعد , لما كنّا نهرب منها ؟
- لأن المسكينة فقدت عقلها بوفاة ابنها الوحيد .. ونحن حين كنّا اطفالاً أشقياء , اعتدنا مضايقتها برنّ جرس بابها ومن ثم الهرب قبل ان تلحقنا هي بعصاتها .. يعني هكذا 

ورنّت جرس بابها , ففتحت لهما أم أمجد وهي تتكأ بصعوبة على عصاها بعد ان كبرت في العمر , فنظرت اليهما من خلف نظّارتها السميكة , ثم سألت فرح اولاً :
- ابنة من انت ؟
فرح : انا ابنة عصام يا خالة , هل تذكريني ؟
- نعم .. الم تهاجروا الى الخارج ؟
- نعم نعم ... وقد عدّت الى فلسطين قبل ايام .. وهذا عزوز ابن غسان , اتذكرينه ؟

وبعد ان أمعنت النظر فيه قالت العجوز : لا , هذا ليس ابن خالتك !
فأمسك عزوز بيد فرح وسحبها اليه (هامساً لها) : اظنّ ان المسكينة فقدت عقلها تماماً ! هيا بنا نذهب الى البيت , فأنا جائعٌ للغاية
فقالت فرح للعجوز : حسناً يا خالة , سأزورك ان شاء الله بعد ايام ..الى اللقاء 

لكن العجوز لم تجيبها بل دخلت الى بيتها بعد ان صفقت الباب بقوة في وجهيهما , فضحك عزوز قائلاً :
- يالها من مجنونةٍ خرِفَة
فرح معاتبة : عيب يا عزوز , تبقى امرأة كبيرة في عمر جدّتنا .. 
ثم تذكّرت شيئاً أضحكها..
عزوز : مالذي يضحكك ؟
فرح : كنت أحمد الله انها لم تلحقنا بالعصا كأيّام زمان 

وأكملت الضحك , بينما إكتفى عزوز بمراقبتها مع ابتسامةٍ حنونة 
فرح : لما تنظر اليّ هكذا ؟!
عزوز : لأني مستغرب قليلاً 
- من ماذا ؟
- يعني اخوك شهيد وامك ايضاً متوفية ووالدك مشغول مع زوجته الجديدة , وتعيشين في الغربة , ومع هذا كلّه مازلتي تضحكين ؟!
- الم تكن تقول لي دائماً في صغرنا ان الشعب الفلسطيني لا يكسره شيء
عزوز بنبرةٍ حزينة : نعم بالفعل .. الفلسطينيون شعبٌ جبّار !
- صحيح , هيا نعود الى البيت , فأنا جائعة مثلك
***

وقبل ان يصلا البيت , سألته :
فرح : آه صحيح , لقد نسيت ان اسألك ..كيف أدخلك الجنود الصهاينة الى جامع الأقصى , فهم لم يسمحوا لأيّ شاب آخر بالدخول ؟!
عزوز : لقد قلت لهم بأننا صحفيين 
فرح : على حدّ علمي , هم لا يأذنون لأيّ صحفي بتصوير ما يحدث بالداخل .. لا والغريب ايضاً انهم اكتفوا برؤية هويتك دون تفتيشك !
عزوز : المهم ان الخدعة انطلت عليهم وهذا ما يهمّنا .. هيا !! لندخل الى البيت
***

وفي المنزل , وبعد مرور ساعة .. خرجت فرح من المطبخ وهي تحمل صينية الأكل وتدخل الى غرفة عزوز دون استئذان , لتتفاجأ بلوحة له مرسوماً فيها علم اسرائيل 
فرح معاتبة : لما ترسم علمهم يا عزوز ؟!
فأجابها بعصبية : فرح ! عليك طرق الباب قبل الدخول الى غرفتي
- آسفة لكني كنت أحمل صينية الطعام بكلتا يديّ .. والآن لو سمحت أجبني على سؤالي ؟

- اللوحة لم تكتمل بعد يا فرح , فأنا كنت أنوي ان أرسم تحت علمهم طفلاً فلسطينياً يحاول اشعاله بالنار .. 
- آه فهمت .. لكن أتدري .. لم اكن اعرف انك رسّامٌ ماهر هكذا , منذ متى طوّرت موهبتك ؟
- يعني منذ سنتين بدأت التمرّن على الرسم .. لحظة ! سأريك باقي لوحاتي 
- سأراها كلّها بالتأكيد , لكن دعنا نأكل اولاً قبل ان يبرد الطعام
***

في المساء وقبل ان يذهبا الى النوم .. دخل عزوز المطبخ ليساعد فرح في جليّ الصحون 
فرح : لا داعي يا عزوز .. اذهب انت للنوم وانا سأرتب المطبخ ثم انام 
عزوز : لا , سننهيها سويّاً

وبعد ان اصرّ على المساعدة , صارت تغسل هي بالصابون وهو بالماء ..الى ان سمعا صوت مفاتيح آتياً من الخارج
فقالت فرح لعزوز بقلق : ما هذا الصوت ؟!
عزوز بضيق : يبدو ان خالتك عادت الينا 
معاتبة : الظاهر انك تشاجرت مع امك كعادتك ايها الشقيّ , هيا تعال معي لأصالحكما على بعض

و أمسكته من يده وسحبته نحو الباب الخارجي .. لكن ما ان فتحت خالتها الباب ورأت ابنة اختها تمسك بيد الشاب , حتى غضبت غضباً شديداً وأبعدتهما عن بعض بعنف :
- اترك يدها ايها اللعين !!
فرح بدهشة : خالتي ! أمازلتي غاضبة من ابنك ؟!
فصرخت الخالة بغضب : هذا ليس ابني يا فرح , بل هذا هو اليهودي الذي قتل عزوز واحتلّ نصف بيتنا !!

ووقع الخبر كصدمةٍ عنيفة على رأس فرح التي كانت تعشق ابن خالتها منذ الصغر 

فتدخل الشاب محاولاً تهدئة الموقف وقال لخالتها : 
- قلت لك الف مرة بأنني لم اقتل ابنك بل العسكري الذي كان يرافقني .. فأنا مجرّد رسّام ايطالي , هو صحيح ان امي يهودية لكن والدي مسيحي , والمسؤولين في مجال عملي ارسلوني الى اسرائيل , وهم من اعطوني هذا العنوان , وولله لم اكن اعرف ان البيت مسكون ..ولوّ لم يشجّ ابنك المجنون رأسي بالحجارة لما أطلق المرافق عليه النار .. كم مرة عليّ شرح هذا الموضوع لك يا خالة ؟
- لا تقل لي خالة ابداً , ايها اللعين !!

وهنا إسودّت الدنيا في وجه فرح , وانهارت قواها وسقطت على الأرض ..فحاول الأيطالي حملها لكن الخالة أبعدته عنها .. 

فعاد الى غرفته حزيناً بينما كانت الخالة تغسل وجه فرح بالماء لتستعيد وعيها..  

وبعد ان أدخلتها غرفتها , قالت لها الخالة معاتبة :
- إمسحي دموعك يا فرح واخبريني , كيف بقيت اسبوعاً معه دون ان تلاحظي بأنه ليس عزوز ؟!
فرح بحزن : انا لاحظت ان تصرّفاته تغيرت كثيراً , لكن شكل هذا اللعين لم يكن أجنبياً بل هو أقرب الى الرجل الشرقي ولهذا انخدعت به .. (تسكت قليلاً) ..انا قلبي يؤلمني كثيراً يا خالة
فحضنتها خالتها لتدخل فرح في نوبةٍ من البكاء المرير 

وقد نامت فرح تلك الليلة وهي غارقة بدموعها حزناً على كل تلك المشاعر التي أصبحت فجأة محرمةٌ عليها
*** 

ومرّ اسبوعٌ كامل .. لم تتحدّث فيه فرح بكلمة مع الشاب الأيطالي الذي عرفت بأن إسمه (ليوناردو) .. الى ان أتى اليوم الذي تمّ فيه الأعلان بأن الغد هو اول ايام رمضان .. فوضعت فرح السلم في ساحة البيت وبدأت بتعليق زينة رمضان ... وهنا سمعت صوته وهو يقول لها :
- أتريدين المساعدة ؟

فارتبكت وكادت تسقط من السلم لكنه امسكها , فنزلت غاضبة من السلم وهي تقول :
فرح : ايّاك ان تلمسني ثانيةً , أفهمت ؟!!
فطأطأ ليوناردو رأسه بحزن قائلاً : كما تشائين يا فرح .. وانا أعدك بأن اعود الى ايطاليا في نهاية الشهر 
فقالت له بلؤم : سيكون حينها عيدنا عيدين
فخرج من البيت مذهولاً وغاضباً في نفس الوقت
***

ومضت ايام رمضان .. ومازالت فرح وخالتها تتجنبان الحديث مع الشاب او حتى النظر في وجهه طوال الوقت , بينما ظلّ هو يراقبهما من بعيد , خاصة في وقت الفطور والسحور , لكنه لم يكن يشاركهما الطعام , بل كان يشتري الطعام لنفسه ويأكله وحيداً في الغرفة ..
*** 

وفي منتصف الشهر.. اشتمّ ليوناردو رائحة جميلة عند الأفطار جعلته يخرج من الغرفة .. وكانت حينها فرح تحمل طنجرة الطعام متوجهة الى غرفة الجلوس , فناداها من بعيد بصوتٍ منخفض كي لا تسمعه خالتها 
- فرح .. فرح .. ماذا طبختم لهذا اليوم ؟ لأن الرائحة زكيّةٌ جداً
لكنها لم تجيبه , بل دخلت الى غرفة الجلوس واغلقت الباب خلفها .. فعاد هو حزيناً الى غرفته ..  
***

وبعد الإفطار .. وفي اثناء انشغال الخالة بإعادة بقايا الطعام الى الثلاجة .. سمع ليوناردو طرقاً خفيفاً على بابه , ففتح الباب ليجد فرح ومعها صحن طعامٍ له , فأخذه منها بسعادة وهو يقول مازحاً :
- هل وضعت فيه السمّ ؟
فأخذت فرح الملعقة وأكلت قليلاً منه , ثم قالت بلؤم :
- هل اطمأنيت الآن ؟ ..ولا تقلق ثانيةً , فنحن شعبٌ لا يعرف الغدر .. والآن سأذهب لأحضر لك ملعقة اخرى
لكنه سحب منها الملعقة قائلاً :
- بالطبع لن اشمئزّ من حبيبتي 

لكنها لم تهتمّ لغزله , فسألها بعد ان تناول لقمة من الصحن 
- يا الهي طعمها لذيذٌ جداً ! ما اسم هذه الطبخة ؟
- اكلة المسخّن من دجاج وصمّاء وبصل وخبز مرقوق , هي طبخة مخصّصة للمناسبات

ثم نظرت الى الواحه الفنية والألوان مبعثرة في الغرفة , وقالت له مُنبّهة :
-حاول ان لا توسّخ غرفة الشهيد عزوز 
- اصلاً انا اعدّت جميع اغراضه لأمه , ما عدا صورة له كانت معلقة على الحائط
- واين هي ؟
- في الدرج
فمدّت يدها له , قائلة بحزم : اعطني ايّاها !!
فردّ ممازحاً : لا !! انا اغار عليك منه
فنظرت اليه شزراً واغلقت الباب خلفها , وهي تقول بصوتٍ منخفض وبغضب :
- ياله من أحمق !!
***

وانتهى رمضان سريعاً .. وفي صباح العيد .. رآها تلبس ثياباً جديدة جميلة , فقال لها :
- كم جميلٌ عليك هذا الفستان يا فرح
لكنها لم تجيبه .. 
وبعد قليل .. خرجت خالتها من البيت , لكن قبل ان تلحق بها أوقفها ليوناردو :
- الى اين تذهبان ؟
فرح : لزيارة القبور
باستغراب : القبور في يوم العيد !
فقالت بلؤم : نعم , سنزور شهدائنا الذين سقطوا بأيديكم
بغضب : قلت لك انني لست صهيونياً !!
وهنا سمعت خالتها تناديها من الخارج :
- فرح !! هيا بنا , لقد تأخرنا
فنظرت اليه بغضب , ثم اقفلت الباب خلفها
***

وفي آخر ايام العيد .. وبعد عودة فرح والخالة من زيارة الأهل , تفاجئتا بحقيبة السفر عند الباب .. 
وهنا خرج ليوناردو من الغرفة وهو يقول لهما :
- انا عائدٌ اليوم الى ايطاليا , لكني لن اخبر المسؤولين اليهود عن ذلك خوفاً من ان يحضروا بديلاً عنّي يسكنوه معكم .. لكني لم اردّ الذهاب الى المطار قبل توديعكما  
فقالت الخالة بلؤم : ((درب يسدّ ما يردّ))
ثم دخلت غرفتها بعد ان صفقت الباب بقوة .. 

وهنا اقترب ليوناردو من فرح وقال بحزن :
- ارجوك يا فرح ..غيري رأيك وتعالي معي , فأنت حاصلة على الجنسية الأمريكية ويمكننا العيش سويةً في ايطاليا او اميركا
فرح بحزم : هذا مستحيل يا ليوناردو !!
- ومالذي يمنعك أن تتزوجينني ؟ فأنا احبك جداً يا فرح 
فردّت عليه بغضب : اتريد ان تعرف مالذي يمنعني ؟ يمنعني آلاف الشهداء , ومئات المحتجزين في سجون الإحتلال , والملايين المهجّرين في كل بقاع الأرض .. هل فهمت الآن ؟!!

- طيب ما ذنبي انا بكل هؤلاء ؟! فأنا لا الومك مثلاً على مقتل اجدادي في محرقة الهولوكوست
فردّت بغضب : لأنه اصلاً لا ذنب لشعبي بهذه الحادثة ! وان كنتم بالفعل تريدون العدالة , فكان الأجدر بكم احتلال المانيا التي أبادتكم , لا ان تهجّرونا من بلادنا بلا سبب ! 

- ارجوك اهدأي قليلاً .. (ثم يتنهّد بضيق) .. الا تذكرين كيف كنّا متفقين مع بعضنا قبل عودة خالتك ؟
- لأني كنت اظنك ابن خالتي وابن بلدي , الشاب الشهم عزوز !!
بنبرةٍ منكسرة : يعني لا يوجد أمل لنا يا فرح ؟ 
فسكتت قليلاً ثم قالت : حسناً ... سأقبل بعرضك , لكن عندي شرط
بفرحٍ وارتياح : أشرطي ما شئتِ !!

فرح بعيونٍ دامعة : عليك ان تحضر لي ورقة موقعة من مليار مسلم حول العالم يوافقون فيها على زواجي من ابن المحتلّ , وحينها فقط أقبل بك
فطأطأ ليوناردو رأسه بحزن وقال : والى متى يا فرح ستبقى هذه العداوة بين شعبينا ؟ فالمدة قاربت السبعين عاماً ! 
فرح بغضب : وستبقون أعدائنا الى يوم الدين !! والآن اخرج من حياتنا يا ليوناردو اليهودي !! 
بابتسامةٍ حزينة : انا لن أغضب منك يا فرح ... يا حبّي الحقيقي

ثم حمل حقيبته وفتح الباب الخارجي .. وخرج من الباب , وهو يقول لها بعينين دامعتين :
- قبل ان انسى , لقد تركت لك هديةً صغيرة في غرفتي .. الى اللقاء يا فرح
- لا !! لن يكون هناك لقاءً آخر بيننا.. بل هو وداعٌ أبدي يا ليوناردو
ثم صفقت الباب في وجهه بغضب ..
***

وفي طريقه الى المطار .. أتاه اتصال على جواله 
ليوناردو بضيق : (( الو .. نعم انا في طريقي الآن الى المطار .. لا لم تنفع حيلي العاطفية معها .. نعم صحيح هي مغتربة في الخارج لكن قلبها مخلصٌ لبلدها , ولهذا لم استطع تجنيدها لمصلحة الموساد .. واتمنى عندما اعود من اجازتي ان تعطوني مهمّة ليس فيها عنصراً نسائي , ورجاءً لا تسألني عن الأسباب .. حسناً اتفقنا , الى اللقاء ))

ثم اغلق جواله وهو يتنهّد بحزن : ليت نسائنا طاهرات كنساء العرب !
*** 

و في داخل المنزل .. توجهت فرح بعد ذهاب ليوناردو الى غرفة عزوز ..فوجدته قد علّق على الجدار لوحة لها , وقد رسم داخل عينيها الدامعتين علم فلسطين .. فتوقفت فرح امامها وهي تُمّعن النظر فيها بشرود .. حتى نزلت دمعة على خديها .. وهنا قالت لها خالتها (التي كانت تقف خلفها) معاتبة :
- أتبكين على هذا اللعين , يا فرح ؟!!
- لا ابداً يا خالة 

ومسكت لوحته وكسرتها على الأرض .. ثم قامت بإخراج صورة عزوز من الدرج وعلّقتها مكان الرسمة على الجدار..وقالت وهي تمسح دموعها :
- بل كنت أبكي على ابن بلدي , الشهيد البطل .. عزوز الغالي
فتنهّدت امه بحزن وقالت : رحِمَ الله ابني البطل

فاقتربت فرح منها وحضنتها .. 
وبعد ان تمالكت نفسها , قالت فرح وهي تمسح دموعها :
- والآن ساعديني يا خالة كيّ نطهّر غرفة الشهيد من نجاسة العدو

فابتسمت لها خالتها بفخر 

مسابقة الجدارة

تأليف : امل شانوحة منصبٌ رفيع إستوفى خمسة شباب شروط الوظيفة في شركةٍ مرموقة .. واجتمعوا في مكتب المدير العام (أغنى تجّار البلد) الذي قال لهم...