الأحد، 23 يوليو 2017

الطفل الأخرس والمتشرّد

تأليف : امل شانوحة


طفل,اخرس,ابكم,معاق,عجوز,متشرّد,بخل
لقد جمعنا القدر !

- ارجوك امي خذيني معك .. اعدك بأن لا اشاغب 
((قالها الولد (ذو العشر سنين) بحزن لأمه بلغة الإشارة فهو وُلِدَ اصمّ .. وبالرغم ان اصدقاء امه اقترحوا عليها اكثر من مرة أن تجري له عملية جراحية تساعده على السمع الا انها رفضت ان يتدخّل أحدٌ بحياتها , فهي كانت معروفة لدى الجميع ببخلها و حرصها الشديد على المال , ولهذا لم تُقدّم الكثير لأبنها الصغير الذي اعتادت ان تتعامل معه بلغة الإشارة والتي تعلّمها في مدرسته الحكومية المجّانية لذويّ الإحتياجات الخاصة))

اجابته امه بغضب (مع تحريك يديها بلغة الإشارة) : 
-قلت لا يا جيم !! ستبقى في المنزل , لأني كلما اخذتك معي الى السوق تطالبني بالحلوى وتبكي كثيراً ان لم احضرها لك ..ولهذا سأذهب لوحدي وأحضر لك بسكويتاً رخيصاً ولا شيء غيره .. والآن سأخرج وأُقفل الباب , وسأحاول ان لا اتأخّر عليك 

وخرجت الأم تاركةً ابنها الأبكم يبكي بصمتٍ وقهر 
***

وكالعادة ذهبت الأم الى سوقٍ بعيدة عن الحيّ الذي تسكن فيه لأن بضائعه أرخص ثمناً .. 

وبعد ساعتين , خرجت من المحلّ التجاري .. 
وبينما كانت تضع اغراضها في صندوق سيارتها القديمة , تفاجأت بفوهة مسدسٍ بارد يلامس رقبتها
- لا تصدري صوتاً و الاّ افرغت المسدس في رأسك
وعندما استدارت رأت رجلاً مقنّعاً , فقالت بخوف :
- وماذا تريد مني ؟!
صرخ بها : هاتي الحقيبة !!

ولبُخلها قاومت اللّص بكل قوة خوفاً على بطاقاتها الإئتمانية 
فاضطر اللّص أن يركلها على قدمها بقوة .. لكنها استطاعت قبل ان تسقط على الأرض متألّمة ان تزيل القناع عن وجهه
فصرخ عليها بغضب :
- ماذا فعلتي يا غبية ؟!!
برعبٍ شديد : والله لم اقصد ..ارجوك لا تقتلني
- لم اكن انوي قتلك , لكن بعد ان رأيتي وجهي صار لابد ان اتخلّص منك , فأنا لا ارغب بالعودة مجدّداً الى السجن

فصارت تبكي وترجوه : 
- احلف لك بأنني لن أبلغ عنك الشرطة .. ارجوك دعني اعيش ..فقد حبست ابني الأخرس داخل المنزل , وان قتلتني سيموت جوعاً 
فقال اللّص بدون مبالاة :
- لتذهبي انت و إبنك الى الجحيم !!

ثم اطلق النار على رأسها لتسقط على جنبها جثةً هامدة .. و يسرع هو بركوب دراجته النارية وهو يُخفي حقيبتها داخل ملابسه .. ثم يفرّ هارباً
***

وحلّ الليل ...والأم لم تعدّ بعد الى المنزل ممّا اخاف ابنها كثيراً , وقد حاول جيم الخروج من المنزل لكن الباب كان مقفلاً بإحكام .. فاتصل برقم الجيران لكنهم لم يفهموا شيء من همّهماته , وأقفلوا الخط في وجهه لأنه بكل الأحوال لن يسمع جوابهم 
ولسوء حظه لم تترك امه الجوّال في المنزل كي يرسل منه رسالةً خطيّة الى ايّ شخص من معارفه او الى مركز الشرطة 
حتى ان طرقه على زجاج المنزل لم يسمعه أحد , لأن امه كانت مستأجرة أرخص البيوت لوجوده منعزلاً عن باقي منازل الجيران
***

وصار الوقت في منتصف الليل ..وبدأ جيم الصغير يتضوّر جوعاً , ولم يجد في الثلاجة سوى بعض الجبن و الخبز وخمس بيضات ولا شيء غيرهم , لأن أمه كانت تنوي احضار حاجيات البيت للأسبوع المقبل 

وقد نجح في تقليد امه بوضع البيض في المقلاة , لكن الطعم لم يكن لذيذاً لأنه لا يعرف نوع البهار المستعمل لتحسين النكهة , ومع هذا أكل البيض الشبه ناضج مُرغماً وعاد الى سريره على أمل ان تعود أمه في الصباح .. لكن للأسف هذا لم يحصل !
***

ومرّ يومان آخران ..دون ان يشعر أحد من الجيران بوجود الصغير لوحده في المنزل , وكان في عصر هذا اليوم قد أكل آخر بيضة وقطعة جبن وكسرة خبز موجودة في الثلاجة .. فبكى جيم بحزن وهو يكلّم نفسه :
- لابد ان امي هربت وتركتني لوحدي لأنني كنت اطالبها بالكثير من الحاجيات , لكن ماذا افعل ان كان جميع أصدقائي يملكون الهواتف النقّالة والألعاب الأكترونية ويلبسون دائماً ثياباً جديدة , كما يحضرون معهم الى المدرسة الكثير من الحلوى .. فما ذنبي ان احرم من كل هذه النِعم ؟!

ثم تذكّر ما قاله له صديقه بلغة الإشارة (فهو ايضاً ولد اصمّاً لكنه بدأ يسمع بعد العملية) :
- امك غنيّة يا جيم , فهي رئيسة ابي بالشركة وتملك الكثير من المال , فلما وضعتك معنا بهذه المدرسة الرخيصة ؟! ولما تحرمك من سماع الأصوات ؟ فأبي بالرغم انه موظفٌ بسيط الا انه جمع راتبه لعدة شهور كي يعمل لي العملية ..وهاهم وضعوا لي هذه السمّاعة التي جعلتني اسمع كل شيء , حتى انني بدأت انطق ببعض الكلمات البسيطة

-انت تكذب !! امي لا تملك ايّ المال.. نحن اناسٌ فقراء
- بل هي امرأة ثريّة يا جيم , لكنها بخيلة جداً لدرجة أنها طلقت والدك عندما خسر عمله , و رمت بجدك في دار المسنين الحكومية كي لا تصرف عليه.. الجميع يعرف ذلك !!
جيم بغضب (وبلغة الأشارة) : انت تكذب !!

وحينها حصلت بينهما مشاجرة عنيفة , عوقب على أثرها جيم من ادارة المدرسة وكذلك من امه التي لم تعرف ان سبب العراك كان دفاع ابنها عن سمعتها

ثم عاد جيم الى الواقع وهو مازال يبكي : هل حقاً امي بخيلة ؟! وهل تركتني هنا لأموت جوعاً خوفاً على مالها , اذا كان هذا الكلام صحيحاً فسأكرهها للأبد !! .. لكن اولاً اتمنى ان تعود الى المنزل , فأنا خائفٌ جداً لوحدي 
*** 

وفي اليوم التالي ..استيقظ جيم ظهراً وهو خائر القوى , ثم اقترب بتعب نحو النافذة ليراقب الشارع الذي كان خاليّاً من المارّة في الأيام الفائتة لكنه هذه المرّة لمح عجوزاً يبدو من هيئته انه رجلٌ مُشرّد وكان حينها ينظر حوله وكأنه يبحث عن شيءٍ ما , فأسرع الولد بالطرق على النافذة بكلتا يديه ليلفت انتباه .. وحينما رآه العجوز اقترب من النافذة وهو يقول :  
- مالذي تريده يا ولد ؟!

فأشار الولد نحو الباب ..
فقال العجوز : اذاً افتح لي الباب
فأشار الصغير بيده على انه مقفول
العجوز : مقفول ! طيب اين اهلك ؟

فأخبره جيم أنه لا يدري .. ثم طلب منه ان ينتظر قليلاً , واسرع الى غرفته واحضر دفتره , و كتب عليه هذه الجملة : 
((امي ذهبت منذ ايام الى السوق ولم تعدّ حتى الآن .. والباب مقفولٌ عليّ , ولا يوجد طعام في المنزل واكاد اموت جوعاً ..ارجوك ساعدني يا عم))

وما ان قرأ العجوز هذا الكلام , حتى اسرع بخلع الباب بكتفه بكل ما أوتيّ من قوة حتى كسره , فهو بالنهاية بيتٌ مهترىء و قديم
وما ان فتحه حتى ركض الصبي اليه بفرح وهو يقول له بلغة الإشارة : ((شكراً))

لكن الغريب ان العجوز فهم عليه , وسأله بلغة الإشارة :
- هل انت اخرس يا ولد ؟!
فتفاجأ جيم :
- وهل تفهم بلغة الإشارة يا عم ؟!
فأجابه ايضاً بالأشارة : نعم , فزوجتي كانت صمّاء و بكماء
- وانا ايضاً
- وهل ذهبت امك الى السوق الموجود بآخر الشارع , لأني مررتُ بجانبه قبل قليل ؟
- لا , امي بالعادة تذهب الى سوقٍ بعيد موجود قرب محطة بنزين عند مدخل المدينة.. هل عرفته ؟ 
- اظن ذلك ..حسناً البس حذائك , و دعنا نذهب الى هناك لنسأل عنها

- لكني جائع جداً يا عم 
- طيب معي بضعة دولارات اعطاني ايّاها البارحة احد السوّاح , سأشتري لك بها سندويشاً .. ثم نذهب لنسأل عن امك 
بقلق : و ان لم نجدها هناك ؟
- حينها نذهب الى الشرطة و نبلّغ عن اختفائها 
بحزن : وهل تظن انه حدث لها مكروه ؟
- الم تقل انها غائبة منذ ايام ؟
- نعم , منذ الأربعاء الفائت
- يعني خمسة ايام ! المهم لنذهب ونسأل , وعسى ان تكون امك بخير

وبينما يلبس جيم حذائه كان العجوز يكلّم نفسه (مُخفياً قلقه) :
((اتمنى بالفعل ان يكون هناك عائقاً قسري منعها من العودة لأبنها , و الاّ والله سأقوم باللازم لأحبس هذه الأم المُهمِلة))
***

ووصلا اخيراً الى السوق ..وكانت المفاجئة حينما اخبرهم عامل المحطة بأن هناك سيدة قُتلت في موقف السيارات قبل خمسة ايام , ولم يعرف احد هويتها لإختفاء اوراقها الرسمية , وهي الآن في المشرحة 
العجوز وهو ينظر للولد الأصمّ بحزن : جيد انك لم تسمع شيئاً يا مسكين
***

جيم باستغراب : لماذا نحن هنا بالمستشفى ؟ ولما يرافقنا هذا الشرطي يا عم ؟!
لكن العجوز لم يجبه .. 
ثم قال الشرطي له :
- من الأفضل ان تدخل لوحدك كي ترى الجثة
العجوز : انا لا اعرف السيدة .. لكن معي ابنها وهو اصمّ 
الشرطي : اذاً اخبره بلغة الإشارة ان امه ربما تكون بالداخل
العجوز وهو يتمّتم بضيق : يا الهي ! كيف أخبره بذلك

وبعد ان اخبر العجوز الصغير بالأمر , بدأ يلوّح بيديه بغضب :
جيم : لا !! امي لم تمت .. هي لم تمت يا عم !! 
فحاول العجوز تهدأته : ربما ليست امك , لكن عليك ان تراها لتتأكّد
***

وما ان رآى جيم السيدة الممدّدة على سرير المشرحة حتى انهار فوق جسدها باكياً بشدّة , فعرف كلا الشرطي و العجوز (اللذان كانا يقفان عند الباب) بأنها امه 
وبعد دقائق .. استطاع الشرطي بصعوبة إبعاد الصغير الغاضب والحزين عن جثة والدته.. 

لكن قبل ان يُعيد الممرّض المرأة الى الثلاجة لمحها العجوز بالصدفة , فصرخ قائلاً بدهشة : توقف لحظة !! دعني ارآها  
الشرطي : الم تقل قبل قليل انك لا تعرفها ؟
العجوز بقلق شديد : نعم , لكن ارجوك دعني أراها , اريد ان اتأكّد من شيءٍ ما 
ثم قال للممرّض بصوتٍ مرتجف : لو سمحت , اكشف الغطاء عن وجهها من جديد 

وما ان رآى العجوز وجهها حتى انصدم تماماً !
الشرطى باستغراب : هل عرفتها ؟!
العجوز وهو يمسك نفسه بصعوبة كي لا يبكي : نعم ... هي ابنتي العاقّة

ثم عرف الشرطي منه لاحقاً : ان والدة الصبي هي نفسها ابنة العجوز التي رمته بدار المسنين بعد ان توفّيت امها الصمّاء .. ولأن والدها كان ضابطاً سابقاً بالجيش استطاع بذكاء الهرب من هناك , الا انه اصبح متشرّداً بالشوارع لسنواتٍ عدّة , باحثاً في كل مكان عن عنوان ابنته الجديد بعد ان تزوجت وانتقلت الى منطقة اخرى .. لكنه لم يكن يعرف انها تطلّقت مؤخراً , وبأنها انجبت ابناً اصمّاً كجدّته
***

وفي يوم الجنازة .. قال العجوز وهو يمسح دموعه قرب جثة ابنته (قبيل دفنها) 
- لي سنوات وانا ابحث عنك كي أقف في وجهك واعاتبك بشدّة عمّا فعلته بي , الا انني وصلت متأخّراً .. لكن رغم ذنبك الكبير بحقي الا انني لن اتخلّى عن ابنك , بل سأعتني بحفيدي جيداً .. اعدك بذلك .. سامحك الله يا ابنتي 
***

وبعد شهور ..استطاع الجدّ ان يكون الوصيّ على اموال حفيده بعد ان أُوكلت اليه ادارة شركة ابنته .. حتى ان تلك البطاقات التي سرقها اللّص لم يستفد منها كثيراً , لأن صديقة القتيلة كانت موظفة في البنك وحين لاحظت السحب المتكرّر من بطاقة صديقتها (البخيلة) اوقفت الحساب فوراً كإجراءٍ احتياطي , مما افشل مخطّط اللّص الذي تمّ القبض عليه لاحقاً 
***

وفي خلال سنة .. استطاع جيم النطق ببعض الكلمات السهلة بعد ان دفع جده تكاليف العملية لإعادة السمع له , و من ثم نقله الى مدرسةٍ راقية للأحتياجات الخاصة بعد ان انتقلا سويّاً الى قصرهما الفخم  
وقد استطاع الجد ادارة شركة ابنته بجدارة بعد ان احبه جميع الموظفين لكرمه المتواصل معهم 
***

وفي ظهر احد الأيام .. وقف الجدّ يشاهد حفيده من خلال النافذة بأعلى قصره وهو يلاعب ابناء الجيران ويوزّع عليهم الحلوى في عيد ميلاده

فتمّتم قائلاً : لن احرمك من شيء يا حفيدي العزيز , فكلانا تعذّب من نفس السيدة , لكن القدر جمعنا معاً لنكون سعداء الى الأبد 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

التوأمتان المتعاكستان

تأليف : امل شانوحة  الطيّبة والشريرة دخلت السكرتيرة الى مكتب مديرها (جاك) لتجده يفكّر مهموماً :   - إن كنت ما تزال متعباً ، فعدّ الى قصرك ...