الخميس، 30 مارس 2017

انا افقد موهبتي !


تأليف : امل شانوحة


الكتابة,كتّاب,ايتام,دار,المسنين,قسوة,موهبة,كتابة
انت منافستي الصغيرة

((اريد ان اكتب شيئاً ... ايّ شيء !! .. مرّت ثلاثة اشهر و لم اكتب ايّ حرف .. ماهذه المصيبة !))

و هنا تدخل الممرضة الى غرفته :
- استاذ مصطفى
- نعم
- عليك ان تنزل حالاً , فقد حان موعد الغداء
- الا تريني مشغولاً ؟!! 
- انت تعرف القوانين جيداً , اذا لم تأكل الآن فعليك الإنتظار لوقت العشاء
- افّ , حسناً حسناً ..فهمت
- كما ان رئيس الدار يحضّر لكم مفاجأة
فتمّتم بقلق : خيرٌ ان شاء

ثم اتجه بكرسيه المتحرّك نحو المصعد الذي اوصله لقاعة الطعام الجماعية مع باقي المسنين في الدار
و هناك قالت صديقته العجوز (هدى) لأثنين آخرين يشاركونها المائدة :
- هآقد اتى مصطفى
و بعد ان اقترب منهم ..
- كيف حالكم يا اصدقاء ؟

فقال مروان :
- ظنّنا انك لن تأتي يا رجل
- كنت اكتب شيئاً
بارتياح و الإبتسامة على وجهها :
هدى : أحقاً ؟!!  .. أهذا يعني انه عاد الهامك ؟
فقال مصطفى بضيق : يعني .. قليلاً

فأراد الرجل الآخر (فؤاد) ممازحته :
- لا تحاول يا رجل , فقريباً سيصيبك الزهايمر كما اخونا احمد هناك
و اخذ يضحك .. فأجابه مصطفى بعصبية : 
- ربما انتم !! لكنني كاتبٌ مشهور , و اُشغل عقلي دائماً بالقراءة  و الكتابة , و لست مثلكم اقضي وقتي كلّه بلعب الطاولة و الورق و السخافات الأخرى !!
- كنت امزح ! يا الهي كم انت رجلٌ صعب

ثم رأى الممرضة وهي تصرخ على العجوز احمد(المصاب بالإلزهايمر) :
- لما ازلت حفاضتك ؟!! هآ قد اوسخت نفسك من جديد !!
فانتفض مصطفى غاضباً :
- لا تصرخي عليه , فهو في مقام والدك !!
لكنها جرّت كرسي احمد بعيداً لتنظفه و هي متضايقة  

و قد ضايق هذا الحدث مصطفى كثيراً , فسحب كرسيّه المتحرك من خلف المائدة :
- سيدة هدى اعذريني , لكني سأتناول طعامي في الشرفة هذه المرّة
هدى بنبرة حنونة : كما تشاء

لكن قبل ان يذهب , اتى رئيس الدار مُعلناً خبراً مفاجئاً للجميع !
- اخواني !! لقد تقرّر منذ اليوم السماح بزياراتٍ متكرّرة لمجموعة من اطفال اليتامى للأنضمام الينا  

فكان اثر الخبر على المسنين مختلف , فمعظم نساء العجائز كنّ فرحين بهذا القرار الجديد , بينما الرجال منهم كانوا مشتتي الذهن ! فمنهم من يراه قراراً متسرعاً و أحمقاً , و منهم من تقبّل الموضوع بغرابة

فحاول المدير تهدئة الموقف :
- اعرف ما تفكرون به , لكننا لن نحضر سوى الأطفال فوق سن الخامسة و تحت سن الثالثة عشر , ايّ السن الذي باستطاعتكم التحدّث معهم
فتقول هدى بفرح : هذا قرارٌ جميل !! كما ان الأولاد بهذا العمر يحبّون الأجداد , و نحن بهذا السن نحب ملاعبة الأطفال

المدير : و انا اتفق معك يا هدى , فالأيتام بحاجة الى شخصٍ كبير يعلّمهم خبرته بالحياة , و انتم ايضاً بحاجة للشعور بالمسؤولية من جديد
فقال مصطفى بعصبية : 
- ليس جميعنا ! ثم الم يكن الأجدر بك ان تناقشنا بهذا القرار اولاً ؟ 
المدير بحزم : هذا ليس قراري سيد مصطفى , بل قرارٍ وزاري .. كما ان الغرض الأول منه هو الترفيه عنكم

مصطفى بعصبية : و الله ان كانت الوزارة حقاً تهتم بترفيهنا , فكان الأولى بها ان تمنحنا تدليكاً شهرياً ..
فقاطعه صديقه فؤاد ممازحاً : نعم تدليكاً من ممرضات آسيويات جميلات
فردّ مصطفى بحزم : كنت اقصد علاجاً فيزيائياً لمن هم في مثل حالتي
و آشار على كرسيه المتحرك

ثم اردف قائلاً للمدير : و في حال كانت الوزارة الزمتك بأن تحضر احداً الى هنا , فكان القرار الأفضل هو ان تسمح لمجموعة من الشباب الجامعي ان يزورونا كيّ نعطيهم خبرتنا بالحياة , لا ان تعطي الإذن لمجموعة من المشاغبين الصغار الذين حتماً سيقلقون راحتنا 
ثم حرّك كرسيه نحو الشرفة متضايقاً

بينما تقدّمت احدى الممرضات من المدير , و سألته بتردّد : 
- استاذ محمد .. هل هذا سيزيد من مسؤلياتنا ؟!
- لا تقلقي .. فالأطفال سيرافقهم مسؤولين من دار الأيتام 
و هنا رنّ جواله :
المدير : (( نعم .. آه وصلوا .. ادخلوهم الى قاعة الطعام ))
ثم اغلق هاتفه , و قال للمسنين : 
- لقد وصل الأطفال الآن .. استمتعوا !!

و بخلال دقائق انتشر الأربعون ولداً بين المسنين .. و بأقل من ساعة كانوا اندمجوا فيما بينهم , حيث انفرد كل مسنّ بولدٍ او بنت على انفراد و هم  يجرون معهم الأحاديث ليتعرّفوا عليهم اكثر .. 

بينما بقي العجوز مصطفى لوحده في الشرفة و هو يراقبهم من بعيد , ممسكاً بقلمه و دفتره و هو يحاول كتابة بعض الأفكار الأدبية .. و صار يتمّتمّ بضيق :
(( اللعنة !! لم اكتب سوى سطرين من القصة .. اصلاً كيف سأكتب الآن مع هذا القرار الغبي و كل هذه الضوضاء المزعجة .. يبدو ان ايامي ككاتب انتهت هذا اليوم ))

- مرحباً !!
قالتها طفلة في الثامنة اطلّت من باب الشرفة
نظرة خاطفة من مصطفى , ثم اعاد نظره بغضب الى دفتره مشيراً اليها بيده , قائلاً بلا مبالاة :
- اذهبي يا فتاة عند غيري , فأنا مشغول

لكنها مع هذا دخلت , و اغلقت الباب الزجاحي خلفها..
- الا تفهمين يا بنت ؟!
لكنها لم تكترث بغضبه بل اقتربت نحوه و هي تنظر نحو دفتره , ثم سألته باهتمام : ماذا تكتب يا عمو ؟
- و مادخلك انت ؟!!
- اتكتب قصة ؟
- و كيف عرفتي ؟!
- احقاً ؟! كنت اخمّن فقط .. طيب عن ماذا تدور القصة ؟
- عن فتاةٍ صغيرة
- آه جميل !! و هل هي في مثل عمري ؟
- و كم عمرك ؟
- ثماني سنوات
- اذاً نعم , هي في عمرك
- و ماذا تفعل هذه الفتاة , هل تطير ؟
- تطير ! انا لا اكتب هذه السخافات , بل اكتب قصصاً حقيقية
- اذاً ماذا فعلت هذه الصغيرة ؟

فتنهّد بغضب ثم سكت .. فألحّت عليه :
- هيا يا عمو اخبرني !!
و بتردّد و ضيق قال لها :
- كانت تهرب مع اهلها على متن السفينة
- و مما تهرب ؟ هل من التنين ؟
- تنين ! قلت قصصاً حقيقية !! (بسخرية) ..فهل رأيتِ تنيناً من قبل ؟
- نعم .. (بنبرة حزينة) ..العم خالد
- و من هو ؟!
- المسؤول عنّا في الدار
- و ماذا يفعل ؟
- يضربنا بقوة لننام .. انظر
و أرته يدها التي عليها آثار المسطرة

- لا يحق له ضربكم ! هل يعرف مديركم بالأمر ؟
- تقصد مديرتنا ؟
- نعم , هل تعرف بذلك ؟
- لا اظن , فهو يقول بأنه سيقتلنا ان اخبرنا احد !
- اذاً سأحاول ان احلّ الموضوع 
- طيب لا تنسى ان تخبرهم عن لؤي .. فالعم خالد دائماً يعاقبه بالحبس في قبو الميتم لأنه مشاغب
- لا يجوز هذا ابداً , سأتصرّف بهذا الخصوص .. لا تقلقي
الطفلة بحماس : هذا جيد !! و الآن اخبرني البقيّة 
- عن ماذا اخبرك ؟!
- ماذا فعلت الفتاة بالتنين ؟
- ايّ تنين !! .. أفّ يالهي ! .. لا يا عزيزتي , القصة التي اكتبها هي عن فتاةٍ لاجئة
- و ماذا يعني لاجئة ؟
- ايّ هربت مع اهلها من الحرب لبلدة اكثر أماناً
- و هل والدها هو القبطان ؟ 
- لا !
- (فقالت بحماس) اذاً هو القرصان !!

فيفكّر قليلاً ثم يبتسم : 
- بل اظن انها ستكون قصة اجمل لو كانت تظن ان والدها هو قبطانٌ محترم , لكنها تتفاجىء و على محض الصدفة بأنه قرصان دنيء 
- يا سلام !! تبدو قصة جميلة يا عمو .. 

ثم بدأت البنت تطرح افكارها ليدمجها هو بذكاء داخل قصته الجديدة ,  و بعد ان فكّرت قليلاً تقول له :
- اذاً لنتخيل يا عمو انها قصة بنت تحب والدها كثيراً لكنها تعيش مع جدتها , لأن والدها يذهب كل اسبوع نحو البحر 
- نعم عزيزتي , لكن الأفضل ان نجعله يغيب شهوراً طويلة بالبحر 
- نعم هذا احسن .. و في يوم اختبأت داخل سفينة والدها
- ليتفاجىء بها و هو في وسط البحر
- نعم نعم !! ولم يقدر هو ان يعيدها لجدتها .. (ثم تفكّر قليلاً) ..و ذات يومٍ اقتربت منهم سفينةٌ اخرى

- و في تلك الأثناء , طلب من ابنته ان لا تخرج من غرفتها
- لكنها لحقته , و استطاعت ان تراه و هو يتحوّل لقرصان
- تقصدين يسرق السفينة الأخرى و يخطف ركابها
- وهل القرصان يخطف الركاب ؟!
- نعم و احياناً يقتلهم
- اذاً هي تمنعه من ذلك  
- صحيح تنقذ الوضع باللحظة الأخيرة .. ربما لأنها رأت شيئاً
- اذاً لابد انها رأت ولداً في مثل عمرها بين ركّاب السفينة المختطفة

فأكمل مصطفى بابتسامة : نعم و استطاعت ليلتها ان تسرق مفاتيح والدها و تُفرج عن ركّاب السفينة المحتجزين في قبو السفينة , الذين قاموا لاحقاً بالهجوم عليه و على باقي العصابة .. خاصة ان القراصنة كانوا وقتها يحتفلون و هم سكارى
- ما معنى سكارى ؟!
- اي .. يعني نعاسى
- نعم .. ثم ماذا حصل بعدها ؟

و هنا قاطعتهم مسؤولة الأيتام حينما دخلت عليهم : 
- آه ! انت هنا يا سارة , و نحن نبحث عنك
فيقول مصطفى للبنت :
- اسمك سارة اذاً ؟
- نعم و انت يا عمو ؟
- العم مصطفى
فتلتفت الطفلة نحو معلمتها :
- العم مصطفى كاتب يا آنستي , و انا اساعده بكتابة قصة .. اليس كذلك يا عمو ؟
فردّ بابتسامة : هذا صحيح
المعلمة : هذا جيد ..لكن علينا العودة الى الدار
- الا استطيع البقاء مع عمو قليلاً ؟
- غداً نأتي .. هيّا الى الحافلة
- حسناً عمو ..هل تستطيع اكمال القصة لوحدك ؟
فيبتسم قائلاً : سأحاول
- اذاً سآتي غداً لتخبرني بها كاملة
- ان شاء الله 
- وداعاً عمو !!

ثم اسرعت الفتاة الى الداخل لكن قبل ان تلحقها معلمتها , اوقفها العجوز سائلاً :
- لحظة يا آنسة .. هل يوجد عامل عندكم اسمه خالد ؟
- نعم !
- لقد اخبرتني سارة انه يضربهم بقسوة كل يوم
- أحقاً ! لقد انتبهت للأمر هذا الصباح , عندما كنت انا و باقي المسؤولات نلبسهم ثياباً جديدة للحضور الى هنا , و كانت آثار الضرب موجودة على جلودهم , لكنهم جميعاً رفضوا الكلام 
- ذلك لأنه يهدّدهم بالقتل ان فضحوه 
- القتل ! .. حسناً لا تقلق , سأخبر المديرة بالأمر ..لكن اتدري يا سيد , انا سعيدة لأن سارة احبّتك .. يبدو انك ذكّرتها بجدّها المرحوم

- جدّها ! اليست يتيمة ؟!
- هو صحيح ان معظم من في الدار لقطاء للأسف , لكن والدا سارة توفيا في حادث سيارة , و قد ربّاها جدها حتى سن السادسة , لكنه توفي منذ سنتين فأحضروها الينا
- الآن فهمت لما هي طلقة اللسان
- اتدري انها اتت الينا و هي تعرف القراءة جيداً ! فقد كان جدّها يقرأ لها القصص منذ صغرها 
- لهذا لديها خيالٌ خصب
- نعم كما ان جدّها رجلٌ غني , اعتقد انك سمعت بإسمه .. السيد محمد سعيد  
- صاحب دار النشر الشهيرة ؟!
- نعم هو , و قد كتب دار النشر بإسمها , لكن عمها (الوصيّ عليها) استولى على ميراثها و رماها عندنا في دار الأيتام
- ما ابشع الظلم في هذه الدنيا !
- ماذا نفعل ؟ .. هذا نصيبها

لكن قبل ان تذهب المشرفة عاد و سألها العجوز :
- اريد ان اسألك سؤالاً .. ما مصير هؤلاء الأيتام ؟
فتجيب بحزن : الأولاد يعلمونهم صنعةً مهنية و يسرحوهم من الدار بعمر 18 و احياناً في 16.. اما الفتيات فيزوجوهنّ عادة بعد سن 18 ,  و العرسان يكونوا اما عجائز او معاقين او بخلاء .. اما من تبقى عزباء مثلي , فعليها ان تصبح مدرسة بنفس الدار
- آسف .. لم اكن اعلم انك يتيمةٌ ايضاً !
بنبرةٍ مكسورة : و لهذا احنّ عليهم , فقد عشت معاناتهم 

و هنا ! ظهر صوتٌ قوي :
- آه ! هذا بوق الحافلة ..عليّ الذهاب .. لكني سأحضر سارة اليك غداً 
- اذاً سأحاول ان انهي لها قصتها هذه الليلة 
- هذا جميل

و بعد ان ذهبت و انطلقت حافلة الأيتام .. اقتربت السيدة هدى من زجاج الشرفة لترى صديقها مصطفى منهمكاً في الكتابة , فأطلّت من الباب قائلة بسعادة :
- لا اريد الهائك , لكني سعيدة انك عدّت للكتابة ثانية
- آه هدى ! تعالي .. اريد ان اخبرك عن الطفلة سارة 

و بعد ان اخبرها مضمون القصة الصغيرة .. قالت له :
- و مالمشكلة يا مصطفى ؟! فالكاتب الجيد عليه ان يحاول الكتابة في جميع المجالات
- لكن قصص اطفال ! انا لم اتخيّل نفسي اكتب في هذا المجال ابداً 
- و ما يدريك , ربما تنجح فيه اكثر من المجال الدرامي .. كما انها وريثة دار نشر , فربما يساعدك ذلك في نشر كتبك .. فأنت تعبت طوال حياتك من تعاملك مع دور نشر لصوص قاموا بنشر قصصك بثمنٍ زهد , فربما يتغير الأمر الآن 

مصطفى بدهشة : و من اخبرك بهذا الموضوع ؟!
- الأخبار تنتشر هنا بسرعة ..هيا لا تحزن يا صديقي , فقد قرأت معظم كتبك و هي رائعة حقاً , لكننا بزمن لم يعد الشباب يقدّرون فيه الكتب الأدبية كما السابق , و لهذا ربما وضع الله هذه الفتاة في طريقك لتغير من طريقة كتابتك , و ربما ينشهر اسمك اخيراً في مجال قصص الأطفال الخيالية .. كما اظن ان الصغيرة ستساعدك بنشر ق..
مقاطعاً و معاتباً : هدى !! انا لن استغلّ هذه الفتاة ..انا فقط احوّل افكارها لقصة كاملة , لكن بعد ان انهي قصتها كما وعدتها سأعود لكتاباتي الدرامية الأدبية 
- حسناً فهمت .. طيب سأتركك الآن لتكمل عملك
***

و في اليوم التالي..اتت سارة مع بقية الأيتام في نفس الوقت , ليتفاجىء بها مصطفى بعد ان اطلّت من باب الشرفة بينما هو منهمكٌ في الكتابة : 
سارة بحماس : هآ عمو !! هل انهيت قصتي ؟
معاتباً برفق : قولي مرحباً اولاً
- مرحباً جدّو .. ام عليّ ان اناديك بعمّو ؟
فتذكّر انها كانت تعيش مع جدّها و ربما تحنّ اليه , فقال بابتسامة حنونة :
- لا جدّو اجمل ..هيا اجلسي لأخبرك القصة
- قبل ان تخبرني عنها , اريد ان اسألك سؤالاً اولاً 
مبتسماً : خير , ماهو ؟
- اين هم اولادك يا جدو , هل يزورونك ؟
- انا لم اتزوج اصلاً , لأني كنت منهمكاً بشغلي
- ماذا يعني منهمك ؟!
- ايّ مشغول بالعمل طوال الوقت , حتى ضاعت سنوات عمري
- طيب لا بأس ... (و تسكت قليلاً , ثم تقول بحماس) .. اذاً اخبرني الآن بالقصة !!
- لا اولاً دعينا نتغدّى سويّا , ثم نعود الى هنا .. هيّا بنا

و بعد الغداء عادا الى الشرفة , و هناك اخبرها بالقصة التي اعجبتها كثيراً
قالت الطفلة بحماس : بما ان هذه القصة انتهت , علينا اذاً التفكير بقصتنا التالية
- لا يا سارة ! عليّ ان انهي كتابي , فأنا ..  
لكنها امسكت بيده و هي تقول بأصرار : لا ارجوك جدّو ..دعني أؤلّف قصة جديدة معك , فأنا فكرت بها طوال الليل
- أحقاً ؟ اذاً اخبريني بالفكرة اولاً
- الكوابيس
- ماذا بها ؟
- من يجعلنا نرى الكوابيس ؟
- اعتقد الشيطان
- و ماذا عن الأحلام الجميلة ؟
- اظن ملاكاً ما !
- اذاً لما لا نكتب عن وظيفة كلاّ منهما 
- تقصدين تأثيرهما على نشاط الأنسان و حيويته اليومية
- لم افهم قصدك ! لكن دعنا نقول انهما يتعاركان معاً
- تقصدين يتنافسان فيما بينهم ..(ثم يفكّر قليلاً) .. اتدرين يا سارة اظنها فكرةٌ جيدة .. ربما نكتب قصة انسان و صراعه مع احلامه  و كوابيسه
- لا بل قصة فتاةٌ صغيرة 
- حسناً كما تشائين
- و سأجعل عمّي ينشرها لك
بابتسامة حزينة : ربما يا عزيزتي

فهو يشعر بالشفقة عليها , لأنه بالرغم من ان عمها رماها في دار الأيتام الا انها مازالت تثق به ! و هنا قطعت افكاره قائلة بارتياح :
- آه صحيح !! اتدري ان العم خالد لم يعد يعمل عندنا
- أهذا صحيح ؟! ماذا حصل ؟
- لا ادري ! لكنه كان يشتمنا جميعاً و هو خارجاً هذا الصباح من الدار .. لقد كان بالفعل غاضباً جداً !
- اظن على الأطفال ان يشكروكِ يا سارة على ذلك
- لماذا ؟! ماذا فعلت انا
فيقول مبتسماً : لا عليك , دعينا ننهي قصتك الثانية
***

و ذات يوم اتت سارة و هي حزينة , فسألها العم مصطفى :
- ما بكِ يا سارة ؟
- انا حزينة يا جدو , فقد اخذونا البارحة الى حفلةٍ مدرسية 
- و مالذي يحزن في الموضوع ؟!
- كان اهلهم متواجدون معهم , و كان عيد الأم .. و هذا ما احزن اصدقائي اليتامى , حتى ان هناك يتيماً في الخامسة سألني : ماذا يعني ام ؟! و قد ابكاني ذلك , فقد تذكّرت امي .. (و صارت تبكي) 
مصطفى متضايق عليها : كانت فكرة دمجكم مع الطلاب العاديين خاطئة تماماً

سارة : هذه ليست المرة الأولى التي يحزنوننا فيها .. فالسنة الفائتة اخذونا الى مدينة الملاهي , و كان هناك مصورين و اعلام , و رجلٌ مهم يتصوّر معنا
- آه .. السنة الفائتة كانت فترة انتخابات نيابية , ربما احدهم اراد ان يستغلكم لكي ينجح بالإنتخابات .. المهم اكملي ما حصل
- اعطونا تذكرة واحدة , و قد كنت كما جميع الأطفال نريد اللعب بأكثر من لعبة , لكنهم رفضوا ذلك .. بل حتى انهم لم يطعمونا ايّ شيء , و لا حتى بوشار.. (و هي تمسح دموعها) ..كم كنت سعيدة برفقة اهلي .. لكن يبدو انهم غاضبون منّي !

- لا طبعاً ! هم فقط سبقوكِ الى الجنة و ..  
مقاطعة بغضب : اذاً لما لم يأخذاني معهم الى هناك ؟!!
- لأن لكل انسانٍ قدر .. اقصد لكل منّا توقيتٌ معين للذهاب من هذه الدنيا , طبعاً بعد ان ينهي الهدف الذي خلقه الله لأجله 
- و مالهدف من بقائي حيّة ؟!
- هآ انت تقومين فعلاً بهدفك  
- تقصد كتابة القصص !
- نعم .. و اتمنى ان تدعي الكتابة تأخذك الى عالم الخيال و تبعدك عن كل احزانك و همومك .. ايّ اجعليها هدفك الأعلى يا سارة ..  
لكنه مازال يشعر بحزنها , فيقول لها و هو يفتح ذراعيه..
- تعالي حبيبتي
و يضمّها للمرّة الأولى مما اراحهما هما الأثنان
***

و مرّت الشهور بسرعة كتب فيها العم مصطفى و سارة عشرات قصص الأطفال سويّاً .. إلى أن آتى يوم لم تأتي فيه سارة مع بقيّة اصدقائها الى دار المسنين.. فاتجه العم مصطفى بكرسيه المتحرّك نحو المسؤولة عنهم  و سألها بقلق :
- اين سارة ؟! لما لم .. 
فقاطعته قائلة : عمها قدم الينا البارحة , و اعادها معه الى منزله
بخوف : لا !! اكيد عمها سيؤذيها  
- لا اظن , فقد بدا مختلفاً تماماً ! ربما بسبب طلاقه الأخير كما اخبرنا بذلك ..
فذهب العم مصطفى بعدها الى غرفته و اغلق على نفسه الباب و هو يشعر بضيقٍ شديد و قلق على مصير صديقته الصغيرة
*** 

و بعد يومين .. قدِمَ عمّ سارة الى دار المسنين , و دلّته الممرضة على العجوز مصطفى الذي كان يجلس حزيناً لوحده على الشرفة , فأقترب منه قائلاً :
- هل انت الأستاذ مصطفى ؟
- نعم , من حضرتك ؟
- انا عمّ الطفلة سارة
فنظر اليه بإشمئزاز , ثم ادار له ظهره (بكرسيه المتحرّك) ..فاقترب الرجل منه قائلاً :
- اعرف بما تفكّر به , لكن يبدو ان الله عاقبني و بقوة على ظلمي لأبنة اخي .. فقد طلقتني زوجتي بعد ان علمت منذ ايام بأني عقيم  و لا علاج لحالتي .. و لهذا قمت بأخذ سارة لبيتي و قمت بتدليلها  و احضار الكثير من الهدايا لها , لكنها ظلّت تبكي و تقول بأنها مشتاقة الى جدّها .. في البداية ظننتها تتكلّم عن ابي , لكنها اخبرتني عنك و عن قصصك , و بصراحة اعجبتني افكارك كثيراً

- هذه افكارها هي , انا فقط اكتبتهم لها 
- و هل ممكن ان تسلّمني نسخاً منها ؟ و انا اعدك اذا كانت جيدة كما وصفتها لي سارة فسأطبعهم لك بدار النشر , لأن اكثر مبيعاتنا من قصص الأطفال
و بعد تردّد و اخذ و ردّ , اعطى مصطفى جميع نسخ قصص الأطفال لعمّ سارة
***

و بالفعل صدرت الكتب بعد شهر.. 
و جلست هدى و صديقاه في الدار يقرأوا القصص بكتبها الملونة المليئة بالصور و هم يجلسون معه بالشرفة , فقال صديقه (فؤاد) ممازحاً :
- يعني اصبحت غنياً يا مصطفى ؟
- نعم لكن لا تقلقوا فأنا لن اترك الدار , فقد تعوّدت عليكم جميعاً
فيسأله صديقه الآخر (مروان) : و ماذا عن دار النشر ؟
- لقد تعاقدوا معي اليوم صباحاً على سلسلة من القصص , و لهذا طلبت من العم ان تزورني ابنة اخيه سارة لنكمل العمل سويّاً
هدى بابتسامة : ارأيت يا مصطفى , هآقد نجحت اخيراً بالكتابة
- من كان يظن انني سأنجح في مجال قصص الأطفال , رغم انني لم انجب في حياتي !

ثم يضحك.. فتسأله صديقته باستغراب :
- ما بك ؟!
مصطفى : لقد أصبحت جدّاً قبل ان اصبح اباً يا هدى , اليس هذا غريباً ؟!
فتجيبه بفخر : و جدّاً رائعاً ايضاً 
فيقول صديقه (مروان) : ما اعجبني حقاً هو الأهداء الموجود في الصفحات الأولى من القصص 
و يقرأه بصوتٍ مسموع :
(( اهداء الى حفيدتي سارة , التي غيّرت مسيرتي المهنية نحو الأفضل ))
و عقّب قائلاً :
- اهداءٌ جميل يا مصطفى

و هنا ! دخلت عليهم سارة الصغيرة من باب الشرفة الزجاجي , و قالت بحماس :
- انا اتيت يا جدووو !!!
مصطفى متفاجىء : آه ! اهلاً و سهلاً بحفيدتي الحلوة .. تعالي لأعرّفك على اصدقائي ..هذه هي السيدة هدى , و هذان هما مروان و فؤاد 
سارة : كيف حالكم جميعاً ؟
هدى بابتسامة : بخير يا صغيرة .. 
ثم تقول السيدة لمروان و فؤاد : دعونا نتركهما ليكملا العمل

و بعد ان دخلوا العجائز الثلاثة الى الداخل ..
مصطفى : هآ يا سارة , كيف هي الحياة مع عمك ؟
- جيدة , لكني افضل ان ابقى معك هنا
- في دار المسنين !

و هنا تسمعهم المشرفة فتقول :
- سارة انت تعيشين الآن مع عمك , و يمكنك زيارة العم مصطفى  متى تشائين
سارة بشفقة : انا افكر بأصدقائي اليتامى , و ارى انه من الأفضل ان يعيشوا معهم 
و تشير الى العم مصطفى 
فتقول المشرفة : هذا صعب يا سارة , فالأطفال سيضايقون كبار السن بأصواتهم
سارة : اذاً ليكن لكلاً منهما طابقه , لكنهم يتشاركون الملعب و قاعة الطعام سويّاً , ما رأيكما ؟

يبتسم مصطفى : اتدرين يا سارة .. انها فكرةً جميلة ! .. لما لا نكتب لاحقاً عن قصتنا انا و انت , و ربما يقرأها احد المسؤولين و يقبل بفكرة دمج الدارين
سارة بحماس : حسناً !! ..و هآقد وجدنا يا جدو فكرة قصتنا الجديدة
يبتسم : نعم عزيزتي 

و بعد ان ودّعته , نظر اليها من اعلى الشرفة و هي تستقلّ سيارة عمها .. فتمّتم مبتسماً : 

((سارة سعيد .. ستكونين اسماً بارزاً في عالم الكتابة , يا منافستي الصغيرة ))


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

التوأمتان المتعاكستان

تأليف : امل شانوحة  الطيّبة والشريرة دخلت السكرتيرة الى مكتب مديرها (جاك) لتجده يفكّر مهموماً :   - إن كنت ما تزال متعباً ، فعدّ الى قصرك ...