الخميس، 30 مارس 2017

الإنتقام الرحيم

تأليف : امل شانوحة


اب,ابن,خطف,اغنياء,فقراء,خيانة,انتقام
لا اطيق صبراً لرؤية ابني


قاد السيارة بعد ان وضع اغنية الأحرف الأبجدية لإبن السيد (الذي يعمل لديه) بناءً على طلب الوالد
و بعد قليل ..
- مراد .. اخفض الصوت قليلاً كي اجري مكالمة هاتفية
- حاضر سيدي

ثم تكلّم السيد بالهاتف , بينما كان السائق ينظر من حينٍ لآخر نحو الطفل ذو 4 سنوات الذي كان يجلس هادئاً في مقعد السلامة بالخلف 
((الو احمد .. دعّ السكرتيرة تحضّر العقد , انا في طريقي اليكم الآن .. ماذا ؟ ..آه تقصد الصوت .. انها اغنية لسامي , السائق سيوصله الى الحضانة , انه يومه الدراسي الأول .. من ؟! .. ديانا .. آه من زوجتي .. طلبت منها ان تأخذه هي , لكنها عزمت اصدقائها على الفطور في القصر .. ماذا عسانا ان نفعل ؟..المهم انتظروني ..سلام))
و اغلق السيد هاتفه .. 

و بعد نصف ساعة , وصل الى شركته و قبل ان ينزل من المقعد الأمامي , نظر الى إبنه الصغير في الخلف و قال على عجل :
- سامي حبيبي .. ستذهب اليوم الى مكانٍ جميل و ستتعرّف على اصدقاء في مثل عمرك .. عدّني ان تكون ولداً كبيراً و لا تبكي , فأنت  ستمضي بعد الوقت في اللعب ثم يعيدك مراد ثانيةً الى المنزل .. مفهوم بابا 

ثم نزل بسرعة غير آبه ببكاء الصغير الخائف , مما اضّطر السائق الى وضع اغنية اطفال جديدة عساها تهدّئه قليلاً لحين ايصاله الى روضته 

و هنا تتصل به خادمة القصر 
((نعم سلمى .. ماذا قلتي ؟.. ارفعي صوتك أنا لا اسمعك جيداً.. نعم هو يبكي و لا شيء يسكته ... و لما افعل هذا ؟! انت رأيتي البارحة كيف عاتبتني السيدة لأني حملته بعد ان جرح ركبته .. و ما ادراني , ربما تخاف عليه من الجراثيم .. ماذا تقصدين ؟ و لماذا تخاف مني انا بالذات ؟! سلمى انا لا اسمعك جيداً .. كلّميني بعد قليل , و ذكّريني بما ينقصكم لحفل السيدة كي احضره معي .. سلام))

ثم نظر الى الولد من خلال مرآة السيارة , و قال بشفقة : 
- يالك من مسكين .. فأبواك منشغلان دائماً عنك , حتى في يومك المهم هذا .. الغريب انهم انجبوك بعد الكثير من العلاجات في اهم المستشفيات الأجنبية , فلما قلّة حنانهم عليك ؟! .. طبعاً انت لا تفهم شيئاً مما اقوله .. لا يهم !


((( ثم شرد بتفكيره :
لما تصرّ سلمى على ان احمل الصبي كي اهدّأ من روعه ؟! و لما السيدة تكرهني لهذه الدرجة , رغم انني اعمل عندهم منذ شهرين فقط ؟!

ثم تذكرّ انه سمع مرة بعضاً من شجار السيدة ديانا مع الخادمة سلمى عندما كان يُحضر اغراض السوبرماركت من السيارة و يدخلها الى المطبخ حيث كانا
- انت السبب !! انت احضرته الى منزلنا 
- سيدتي آسفة لقول ذلك ..لكنكم مدينون له بهذا
- اسكتي ايتها الخادمة !! كلمة اخرى و ارميكما سويّاً بالشارع من حيث اتيتما 
فتسكت الخادمة بامتعاض , بينما تُكمل السيدة كلامها
- حقاً لا ادري كيف استطعتي اقناع زوجي بإحضاره الينا

و هنا انتبهت السيدة لوقوف السائق مراد عند باب المطبخ 
- أكنت تتنصّت علينا ؟!!
- لا سيدتي .. الآن وصلت 
- حسناً أدخل الأغراض 
ثم ذهبت السيدة و هي تشير بعينيها للخادمة بإشارة تعني ان تصمت تماماً و لا تُخبر السائق بشيء !)))


و في هذه اللحظات .. انتبه السائق الى وصوله للحضانة 
- و هآقد وصلنا الى مدرستك يا صغير .. هيا بنا
لكن الصغير اصابته الهستيريا بعد ان تركه السائق في الحضانة .. فأسرعت المعلمة الى الخارج لتنادي مراد قبل ان يركب السيارة
- استاذ لو سمحت !! الصغير يصرخ بقوة , ارجوك تعال معنا

و ما ان دخل مراد الحضانة حتى اسرع اليه الصغير الذي كان يبكي بخوف .. و ما ان ضمّه السائق الى صدره حتى هدأ تماماً ! و هذه كانت نفس ردّة فعل الصغير البارحة حين حمله بعد ان وقع من دراجته 
المعلمة بابتسامة : يبدو ان ابنك متعلقٌ جداً بك
مراد و هو مازال مندهشاً : ماذا ! لا لا ..هو ابن السيد الذي اعمل لديه  
- برأيّ ان تبقى معه قليلاً الى ان يتعوّد على اصدقائه الجددّ  

و بعد ان بقيّ مراد بعض الوقت يلاعب الصغير بغرفة الألعاب , ودّعه بهدوء ثم ذهب 
***

و في السيارة .. شرد مراد قليلاً و هو يتذكّر زوجته المرحومة عندما كانت حاملاً بشهرها الخامس
- اتدري يا حبيبي .. انا اعدّ الأيام و الساعات كيّ الدّ صغيرنا , والله اتمنى ان اراه اليوم قبل الغد
- سترينه يا عزيزتي و سنربّيه جيداً , لا تقلقي

ثم عاد السائق بذهنه و مسح دمعته بغضب
- عليك اللعنة ايتها الخائنة !! اتمنى ان تكوني في جهنم الآن

و هنا تتصل به سيدة القصر
- مراد .. اين اغراض حفلتي يا غبي ؟!! فأصدقائي على وشك الوصول
- سأحضرهم حالاً سيدتي .... الن تسأليني عن الصغير ؟
- و لا تنسى ان تجلب العصير .. مفهوم !!
- حاضر !

و اغلقت الهاتف في وجهه
باستغراب : لم تسألني عن ابنها ! يالقلبك القاسي يا امرأة .. (و بغضب) ..اللعنة على كل النساء !!
***

و مرّت الشهور داخل القصر .. كان مراد فيها منشغلٌ بعمله كسائق , رغم تزايد علامات الإستفهام في ذهنه .. 
فلما يشعر مثلاً بأنه مراقب من قبل السيدة خاصة عند لعبه مع الصغير !  و لما يشعر بأن الخادمة تُخفي عنه امراً ! هذا عدا عن الأشخاص الذي كان يقابلهم السيد في مكتبه , حيث بدت اشكالهم اقرب الى رجال عصابات
  
و جاء اليوم الذي طردت فيه السيدة خادمتها سلمى من القصر , وكان عليه ان يوصلها الى المحطة كي تعود الى قريتها 
لكن قبل ان تستقلّ القطار اعطت السائق رسالة و هي تقول :
سلمى : كتبت لك كل شيء هنا ..(و بنبرة شفقة).. كان الله في عونك  يا مراد 

و عندما عاد السائق الى غرفته في حديقة القصر قرأ الرسالة و كان فيها :

((اخي مراد .. لا ادري كيف سأخبرك بالحقيقة .. لكن زوجتك لم تخونك مع خطيبها القديم .. لقد اجبروها على قول ذلك كي يأخذوا منك ابنك ..اتذكر الأشخاص الذين ضربوك في الشارع حتى اوشكت على الموت , سيد القصر هو من ارسلهم اليك .. القصة كالتالي : اظنك تعرف كم عانت السيدة ديانا حتى حملت , و بعد ان اخبرت الإعلام و جميع معارفها بالأمر اتضح انه حملٌ كاذب , وحينها طمعت بإبنك .. لكن زوجتك رفضت تماماً ان تبيعهم الولد واستقالت من عملها كطبّاخة القصر , فهدّدوها بقتلك .. و عندما عدّت انت الى بيتك بعد اسبوع قضيته بالمستشفى , اخبرتك المسكينة بأن الولد ليس ابنك , لأنها كانت خائفة عليك منهم .. وانت ماذا فعلت ! طلقتها بعد ان اشبعتها ضرباً , و بالكاد استطاع الطبيب انقاذ حملها .. و في الوقت الذي امضيته في السجن بسبب العنف الزوجي , كانوا الملاعيين قد سجنوا زوجتك شهوراً في قبو القصر الى ان جاء يوم الولادة , لكن الطبيب (الذي احضروه بالسرّ) لم يستطع وقف النزيف .. و قاموا لاحقاً بإرسال جثمانها الى قريتنا بعد ان زوّر طبيبهم شهادة الوفاة و بأنها ماتت مع جنينها لضعفٍ في قلبها , و الغريب انه لم يلاحظ احد عدم وجود جثة الصغير معها ! .. و على فكرة : انا التي اصرّيت على السيد ان يوظّفك بالقصر (بعد ان خرجت من السجن) لأني اقنعته بأنه من الأفضل ان تبقى تحت رقابتهم كيّ لا تعرف بموضوع ابنك بالصدفة.. و قد هدّدوني لاحقاً بالقتل في حال بحت لك بالسرّ , لكني لم اعدّ احتمل ان اراك تلاعب الصغير على انه ابن السيد , واظنك لاحظت كيف يهدأ عندما تكون بجانبه .. و الآن لم اعد خائفة منهم بعد ان تركت عملي , فأنا مدينة بذلك لزوجتك فهي كانت زميلتي في العمل و كلنا بالنهاية ابناء نفس القرية .. و لهذا ارجوك يا مراد .. انتقم لزوجتك و استرجع ابنك من ايدي الأشرار .. لكن كنّ حذراً لأنك تحت المراقبة و كذلك جوّالك .. و القرار الآن يعود اليك .. بكل الأحوال انتبه على نفسك .. مع السلامة)) 

رمى مراد الرسالة جانباً و قلبه يرتجف بشدّة .. مسح العرق عن جبينه و هو يحاول ان يتذكّر ليلته الأخيرة مع زوجته التي اشبعها فيها ضرباً و هو ينعتها بأسوء الألقاب و الألفاظ 
- لا ! هذا غير صحيح .. الصغير هو ابني ! .. هل ظلمت زوجتي ؟!.. اللعنة مالذي يحصل من ورائي ؟!

و لم يستطع مراد النوم طوال الليل , و هذا ما جعله يلاحظ اصوات المتسلّلين ليلاً الى القصر
***

في صباح اليوم التالي بالمستشفى :
سيد القصر : لا ادري كيف اشكرك يا مراد , فأنت انقذت ابني من ايدي الخاطفين ..
مراد : هذا واجبي .. لكن من هم ؟ و ماذا يريدون من الصغير ؟
- منافسي في العمل , يريدون خطف ابني للضغط علي كي انسحب من المناقصة .. و قد اخبرت المحقق بكل شيء و هم سيتكفّلون بالموضوع 

و هنا خرجت السيدة من الغرفة , فسألها زوجها بقلق :
- كيف هو ابني ؟
- لا تقلق , لقد نام بعد ان اعطته الممرضة مهدّئاً .. اتمنى ان لا يترك الجرح علامة في رأسه

ثم تلتفت الى السائق و تقول :
- شكراً لأنك انقذت ابني 
- لا شكر على واجب 

ثم ذهب السيد و زوجته الى غرفة الطبيب ليستفسروا عن المدة التي سيمضيها الصغير في المستشفى

و بينما كان السائق ينتظرهما في الممرّ , لاحظ بقعة دماء الطفل 
على سترته عندما حمله بعد ان اسقطه احد الخاطفين عندما انهال عليهما ضرباً بالعصا .. و هنا خطرت على باله فكرة و هي ان يذهب الى مختبر المستشفى و يطلب مقارنه دمه بدم الطفل لفحص الأبوّة
***

و في المساء .. كانا قد تركا السائق لوحده في المستشفى كي يعيد الطفل صباحاً الى القصر .. و حينها اقتربت منه الممرضة وقالت: 
- لقد ظهرت نتيجة فحص الدم .. تفضّل

و اعطت مراد الظرف , ففتحه و قلبه يدقّ بقوّة .. و كانت النتيجة تؤكّد ما قالته الخادمة .. و عرف انه ظلم زوجته المرحومة , فانهار ببكاءٍ مرير..  ثم لم يشعر بنفسه الا و هو يدخل غرفة الصغير النائم و انحنى قربه  و صار يقبّل وجنته و يداه و رجلاه و هو يبكي بقوّة :
- ابني حبيبي .. سامحني بابا .. لقد ظلمتك و ظلمت امك .. سامحني يا عمري

و بعد ان امضى ساعة يتأمّل شكل ابنه النائم , جلس مراد طوال الليل على الكرسي المقابل لسرير الطفل و هو يخطّط كيف سينتقم من سيد القصر و زوجته اللذان دمّرا حياته و حياة عائلته
***

بعد شهر .. استطاع مراد ان يتعرّف على احد منافسيّ سيد القصر الذي اعطاه ملفاً مهماً كان قد سرقه من مكتب السيد , و الذي ادّى لاحقاً الى خسارة مالية كبيرة كانت السبب في تزايد المشاكل بينه وبين زوجته .. 

و مرّت الأيام الى ان اتت الليلة المنتظرة حين انفجر الرجل غضباً من زوجته ديانا فدفعها بقوة لتسقط من اعلى الدرج و تدقّ عنقها .. فأسرعت الخادمة الجديدة بالإتصال بالإسعاف .. 

و هنا اقترب مراد من السيد الذي كان يبكي فوق جثتها مذهولاً واستغلّ شتات افكاره و اقنعه بالهرب قبل ان تصل الشرطة وتسجنه لقتله زوجته .. و بالفعل اجلسه بالمقعد الأمامي بينما وضع الصغير في مقعد السلامة الخلفي و قاد السيارة الى اطراف المدينة  
و بعد ان هدأ السيد من بكائه الهستيري , انتبه على وجود الطفل في المقاعد الخلفية , فسأل السائق :
- و لما احضرته معنا ؟!
- من الأفضل ان تسافر معه الى خارج البلاد .. و لا تقلق , فكل شيءٍ جاهز .. جواز السفر و تذكرة الطائرة..
السيد باستغراب  : و كيف عرفت انني سأحتاجهم هذا اليوم ؟!
- لم اعرف .. لكن السيدة طلبت مني ذلك قبل يومين , يبدو انها كانت تخطّط الى رحلة ..
مقاطعاً و بعصبية : رحلة و نحن في وسط ازمة مالية ! يالها من متعجرفة مجنونة !! 

ثم يتذكر ان زوجته ماتت قبل قليل فيعود الى البكاء .. و ظلّ هكذا الى ان توقفت السيارة على حافة الجبل .. و اذّ به يتفاجىء بمراد يرفع في وجهه المسدس و يقول مهدّداً : 
- لكنك لن تسافر الى ايّ مكان , بل ستلحق بزوجتك بعد قليل 

السيد بدهشة و خوف : ماذا تفعل يا مجنون ؟!
- استردّ حياتي ايها اللعين !! فقد عرفت كل شيء و كيف خططت انت و زوجتك العاقر لتسلبا مني ابني 
بخوف : كانت فكرة زوجتي , انا لم ..

- انت من ارسلت الأشخاص الذين كادوا يقتلونني , و انت من طلبت من محاميك ان يسجنني بتهمة العنف الأسري , و كل هذا للضغط على زوجتي كي تعطيكم الولد
- اذاً خذّ ابنك و اتركني ارحل من البلد !! اصلاً انا لم اشعر بحنان الأبوّة تجاه طفلك , و كأن هناك شيء يمنعني من ذلك ! و كذلك زوجتي

- طبعاً ..و كيف ستحبون ابن السائق و الطباخة التي كانت تعمل لديكم , هذا لا يليق بمقامكم الرفيع .. لكني مع هذا سأقبل بعرضك  و آخذ ابني و ارحل .. لكن ان اقتربت مني او منه ثانيةً فسأقتلك .. افهمت !! سأقتلك !! 
السيد بخوفٍ شديد : لن اقترب منكما .. اعدك بهذا .. خذه و دعني اذهب .. ارجوك

و خرج مراد من السيارة بعد ان اخذ ابنه النائم معه .. لكن قبل ان يبتعد وضع الصغير يده على فم والده , و على الفور تذكّر مراد زوجته التي كانت لديها نفس العادة حيث لا تنام الا بعد ان تضع يدها على فمه .. و صار يتخيّلها و هي تبكي وحيدة في قبو القصر الذي امضت فيه شهوراً , و كيف ماتت من نزيف الولادة قبل ان ترى وليدها التي كانت تنتظره بفارغ الصبر .. 

فعاد اليه جنونه !!! ووضع ابنه النائم على الرصيف .. ثم انطلق مسرعاً نحو السيارة التي كان يحاول السيد ادارة محرّكها بصعوبة 
- هيّا تحركّي ايتها السيارة الملعونة !! ليس وقتك الآن لتتعطّلي ..ماذا يحصل ؟! .. لا ! مراد لا تفعل ارجوك !!

و حينها كان مراد يدفع بكل قوته السيارة , لتسقط (و بداخلها السيد) من اعلى الجبل

ثم يعود ليحمل ابنه و هو يبتسم ابتسامة النصر  

اين انت يا ابي !!

كتابة : امل شانوحة


رحلة البحث عن ابن الضابط التركي

(قصة مستوحاة من احداث حصلت في عام 1958 ابّان الحرب الأهلية بين القبارصة الأتراك و القبارصة اليونان) 
***

في ذلك الصباح .. خرج (مراد) لينادي على ابنه ذو 10 سنوات و الذي كان يلعب مع الخراف خارج المنزل , تاركاً زوجته ترتّب له حقيبة السفر و هي تبكي بقلق

- ابني تعال الى هنا , اريد ان اخبرك بموضوع مهم
لكن الأب لم يستطع قول شيء و كان يحبس دمعته بصعوبة حين فاجئه الصغير قائلاً بحزن :
- ستذهب انت ايضاً الى الحرب , اليس كذلك يا ابي ؟
اجابه بدهشة : و كيف عرفت ؟!
- كنت اسمع بكاء امي طوال الليل , كما ان ابن الجيران اخبرني البارحة ان اخاه الكبير انضمّ الى حركة فولفان
- صار اسمها الآن المقاومة التركية
بحزن : ليتك لم تكن ضابطاً يا ابي 
- هذا هو قدري , و عليّ اللحاق بالجيش بعد قليل
- استذهب اليوم ؟!

- نعم .. سيأتي جارنا محمد ليأخذني بعربته الى المدينة و هناك سيرسلوني لقيادة كتيبة في معركتنا ضدّ القبارصة اليونان , و قد نضّطر ايضاً لصدّ الهجمات المباغتة من الملاعين الإنجليز .. كان الله في العون .. المهم اريدك ان تكون رجل البيت بغيابي و ان تنتبه على امك و كذلك الخراف .. و ان رأيت ايّاً من جنود العدو يقترب من هنا , فأقتله على الفور !! و قد وضعت السلاح الذي علّمتك عليه انت و امك في درج المطبخ , استعمله ان احتاج الأمر لذلك .. (بحزم) ..افهمت !!

الولد يحاول ان يخفي خوفه : لا تخف يا ابي , سأدافع عن بيتنا .. وانت حاول ان تعود الينا بالسلامة
فينزع الوالد عقد التميمة الذي يضعه في رقبته و يلبسه لأبنه
الأبن : لا يا ابي , انت تحتاجها اكثر مني
- الله هو الحامي يا ولدي , لكن عدّني ان تعيد لي تميمة جدك عندما اعود من الحرب

الولد بحزم و الدموع تترقّرق في عينيه : سأحافظ عليها بروحي يا ابي , اعدك بذلك
و بعد ان تأتي العربة , يحضن الضابط ابنه و يقبّل رأس زوجته الحزينة , و يتوجه مباشرة الى جُبهة القتال 
***

بعد شهور طويلة قضاها الضابط مراد بقيادة كتيبته ضدّ اليونانيين استطاع اخيراً اعادة بعض المناطق القبرصية للسلطة التركية .. 

و في احد الليالي .. و فور تقهقر جيش العدو من المنطقة , تفاجىء مراد بخروج بعض جنوده من الخندق (الذي كانوا يختبئون فيه) لجمع الغنائم .. فأسرع خلفهم صارخاً :
- ماذا تفعلون يا اغبياء ؟! المكان مليءٌ بالألغام !!! 

و فجأة ! انفجرت عبوّة تحت ارجلهم , فمات جنديٌ على الفور , بينما اخترقت الشظيّة رأس الضابط الذي كان خلفه , فسقط مراد مغشيّاً عليه  و خرجت الدماء من جبهته بغزارة
***

و في ذلك المساء , في منزله بالريف .. خرج ابنه (بولنت) خلف احد الخراف التي هربت من الزريبة دون علم والدته 

و قد وجده اخيراً على مسافة بعيدة من المنزل .. و هناك تناهى الى سمعه صرخات امه , فظنّ بالبداية انها تناديه .. لكن ما ان اقترب اكثر نحو المنزل حتى توضّحت له بأنها صرخات استغاثة , فترك الخاروف و ركض بأسرع ما يمكنه , الاّ ان صوت الطلقتان الناريتنان اوقفته ! فاختبأ خلف الشجرة ليشاهد بقلق جنديّاً انجليزي و هو يساعد صديقه المصاب (بطلقٍ في قدمه) ثم ركبا الدرّاجة النارية و انطلقا بعيداً , بعد ان قام احدهم بفتح باب الزريبة لتهرب منه جميع الخراف 

و بعد رحيلهما .. مشى الولد بخطواتٍ متعثرة و خائفة باتجاه المنزل ليجد والدته مقتولة على ارض المطبخ و ثيابها ممزّقة , ويبدو انها اطلقت النار على احدهما لتحمي شرفها , فقتلوها على الفور
فأمسك بيدها و صار يبكي :
- لم استطع حمايتك , لم افي بوعدي لوالدي .. سامحيني يا امي !! 
***

بعد اسبوعين قضاهما مراد في المستشفى العسكري كان الأطباء قد فقدوا الأمل باستيقاظه من الغيبوبة , و اخبروا رئيسه بأنه من الأفضل ان يخبر اهل الضابط بوفاته
*** 

في هذه الأثناء .. كان ابنه بولنت يعيش عند العم محمد (جارهم الفقير) لكن سوء احواله المادية جعلت زوجته تصرّ على ارساله الى الميتم 
محمد بضيق : لكن يا امرأة , البارحة فقط عرفنا بوفاة والده , فكيف تريديني ان ارميه خارج بيتي ؟! 

زوجته بعصبية : كنا نقوم بواجبه كل هذه الأيام على امل ان يردّ لنا والده ثمن اتعابنا , لكن بعد ان احترق منزلهم بقنبلة قبل يومين و اختفاء خرافهم و موت والده الضابط , فلا حاجة بأن نزيد مصاريفنا على ولدٍ يتيم .. ارسله الى الميتم , و لن يلومك الجيران بعد ان سمعوا البارحة صراخه الهستيري  

- من الطبيعي ان يفقد اعصابه بعد معرفته بخسارة كلا والديه.. علينا ان نصبر عليه قليلاً .. 
زوجته مقاطعة و بحزم : لقد كسّر نصف اطباقي ! و انا لست مضّطرة ابداً لأن اعيش مع هذا المجنون الصغير .. هيا ارسله الى هناك .. و حالاً .. اسمعت !!
***

و بعد عدّة ايام .. دخل رجل بصحبة زوجته الحامل الى المستشفى 
الجندي : يا اخ .. ممنوع الدخول , فهذا مستشفىً عسكري
الرجل بارتباك و قلق : اعرف يا اخي , لكن كما ترى زوجتي تلد الآن  و لا يوجد مستشفى قريب سوى هذا , ارجوك ادخلنا

و في الداخل .. استلقت المرأة على السرير المجاور لسرير الضابط المصاب , بينما راقب زوجها مراد بقلق , فقال له الطبيب  - لا تقلق , هو بالغيبوبة منذ قرابة شهر ..و نحن بانتظار موته كي نزيل عنه اجهزة التنفس 

لكن صراخ المرأة اثناء الولادة و من ثم صراخ الطفل جعلت الذكريات تعود الى ذهن مراد النائم ! فقد تذكّر يوم حمله لطفله اوّل مرة , و هذا ما جعل الدمعة تسيل على خده , و التي لم يلاحظها سوى الممرضة التي قالت للدكتور بدهشة :
- انظر كيف يبكي هذا الضابط و هو ميت !
الدكتور بارتياح : هذا لأنه بدأ يستيقظ .. يالها من معجزة !

و بالفعل بعد ايام ..كان الضابط في طريقه نحو الشفاء من اصابته
***

اما هناك في دار الأيتام ..فكان بولنت يعاني الأمرّين , سواءً من البرد القارص في المهجع , ام من سوء التغذية ..لكن الأسوء كان مشاجراته الدائمة مع رفقائه بالميتم حينما يحاولون اقناعه بموت ابوه , فهو رغم مرور كل هذه الفترة الا انه لم يقتنع بعد بخسارة والده , و كل من يتفوّه بذلك او يحاول نزع التميمة من رقبته كان يضربه بعنف , و هذا ما كان يسبّب له العقوبات القاسية من الإدارة سواءً بحرمانه من وجبة الغداء او حبسه في غرفة الفئران بالقبو , الى ان اصبح بولنت ولداً شاحباً و هزيلاً
***

بعد خروج الضابط من المستشفى كرّمه قادته بوسام الشجاعة الذهبي مع احتفال صغير في غرفة القيادة 
و بعد الحفل ..
اللواء احمد : هآ مراد , ماذا تنوي ان تفعله الآن ؟
مراد : هل تسمح لي بالإستقالة ؟

اللواء متفاجىء : لا طبعاً ! لست مستعداً للتخلّي عن افضل رجالي و نحن في خُضمّ المعارك
- سيدي ارجوك , انا مازالت متعباً .. كما اننا حالياً منتصرون , فدعني اذهب الى قريتي لأرى عائلتي فبالي مشغولاً عليهم , لأن زوجتي لم ترسل لي رسالة واحدة منذ قدومي الى هنا و هذا ليس من عادتها .. رجاءً سيدي

يفكّر قليلاً ثم يقول : اذاً اسمع .. سأعطيك اجازة شهر لتراهم و تطمئن عليهم ثم تعود مباشرةً الى هنا .. ماذا قلت ؟!
يسكت مراد قليلاً ثم يقول : حسناً سيدي كما تشاء .. يكفي ان اراهم بخير
***

في مبنى الأيتام .. يقترب الطبيب من بولنت القابع في القبو المعتم و الذي كان يسعل بألم مع ارتفاع حرارته
و بعد ان فحصه , سأله مدير الميتم بقلق :
- هل هو مصاب بالسلّ ؟!
الطبيب معاتباً : ليس بعد , لكن ان بقيّ في هذا القبو الرطب , فربما يصاب به 
- و ماذا افعل ان كان ولداً مشاغباً و يحتاج الى عقاب من وقتٍ لآخر  

فكتب الطبيب اسم دواء على ورقة و اعطاها للمدير و قال :
- اولاً اخرج الصبي من هنا , ثم اشتري له هذا الدواء و دعه يداوم عليه .. و من الأفضل عزله عن بقيّة الأولاد حتى وقت شفائه  
و بعد ذهاب الطبيب , قال المدير لموظفه 
- اسمع .. خذّ هذا الولد الموبوء و ارمه خارج الميتم 
الموظف متفاجىء : هل ارمه في الشارع و هو مريضٌ هكذا ؟!
بعصبية : و ما دخلي انا !! ارمه للخارج قبل ان يعدينا جميعاً بمرضه اللعين  
***

بعد اسبوع .. كان الضابط مراد يقف عند باب جاره محمد غاضباً 
- هل رميتم ابني في الميتم ؟!
فأقتربت منهما زوجة محمد الخائفة :
- آسفة سيدي .. كنّا نظنّك ميتاً ! 
مراد بغضب : و بدل ان تشفقا على الولد اليتيم , رميتماه في الشارع ! لعنة الله عليكما .. (و بنبرة تهديد) ..عندما اجده سيكون عقابكما عسيراً !!!
ثم ذهب الأب فوراً الى دار الأيتام (في البلدة القريبة من قريته) للبحث عن ابنه 
***

و هناك .. جنّ جنون مراد تماماً عندما عرف من حارس الميتم ان المدير (الذي انكر معرفته ببولنت) قام بطرد ابنه من الميتم و هو يحتضر من شدّة المرض .. فأسرع عائداً الى المكتب ..و كان على وشك ان يحطّم وجه المدير لولا تدخّل الموظفين لإبعاده عنه
***

و مرّت الأيام ببطأ على الوالد الذي كان يبحث عن ابنه ليل نهار , و على بولنت ايضاً الذي كان ينام كالمتشردّين في زوايا الدكاكين التجارية محاولاً تدفئة نفسه من البرد القارص , و قد اعتاش على فتات الطعام التي يعطيها له المارّة .. و يبدو ان بعده عن الميتم رفع من معنوياته فتحسّنت صحته تدريجياً

و في غضون ذلك ..كان الأب يبكي كل يوم عند قبر زوجته التي دفنها الجيران قرب بقايا منزله المحترق 
***

و في احد الأيام .. مرّ احد رؤساء الأحزاب التركية المناضلة مع معاونه قرب بولنت النائم على جانب الطريق
الرئيس : انظر الى هذا الصبي , يكاد يتجمّد من البرد
معاونه : يوجد الكثير من اولاد الشوارع هذه الأيام 
- اذاً ماذا تنتظر ؟ اجمع هؤلاء الأولاد و جنّدهم في حزبنا
معاونه بدهشة : لكنهم اولاد دون سن 18

- و هذا افضل , فهم اولاد لا اهل لهم ..كما انه في ظلّ الفوضى التي تتزداد هذه الأيام يمكننا استخدامهم في الصفوف الأمامية لحرب الشوارع التي نخوضها مع اليونانيين و الإنجليز .. هيّا !! مابك تجمّدت في مكانك ؟! احضر جميع المشرّدين الى مبنى حزبنا .. و بعد ان تطعموا هذا الولد و امثاله , ابدأوا بتعليمهم كيفية استخدام الأسلحة
***

انتهت عطلة الضابط مراد دون ان يجد ابنه , و كان عليه العودة الى جبهة القتال .. لكنه اوصى اصدقائه في القرية بالبحث عن ابنه , و اخباره فوراً برسالة في حال وجدوه 

و قبل ان يركب العربة متجهاً الى المدينة , اقترب منه رجل قائلاً :
- آسف سيدي , لكني سمعت كلامك مع صديقك بالصدفة .. كل ما اعرفه ان هناك رئيس لإحد الأحزاب التركية يجمع المتشرّدين  و يجنّدهم ضمن صفوفه , و يقال ان من بينهم اولاد .. برأيّ اسأل عن ابنك هناك

فأسرع مراد نحو العنوان الذي اعطاه ايّاه هذا الرجل
***

و رغم ان الموظف في ذلك المبنى بحث لمراد اكثر من مرّة في ملفاته عن اسم ابنه , الا انه لم يجده ضمن المجنّدين الجدّد (من ابناء الشوارع) 
مراد بغضب : كيف لم تجد ابني ؟! اصلاً من سمح لكم بتجنيد الأطفال ؟!

بارتباك : سيدي انا لا دخل لي بالموضوع , انا مجرّد موظفٌ بسيط 
يصرخ مهدّداً : و الله سأبلّغ عنكم القيادة العليا , و اوقف هذه المهزلة !!

و بعد خروجه من المبنى , وجد حافلة مليئة بالمراهقين الذي جنّدهم رئيس الحزب .. فدخل اليها باحثاً عن ابنه , لكنه لم يجده من بينهم
فقال له السائق : نحن ذاهبون الى المعركة , فهل ستذهب معنا سيدي ؟
فأجاب مراد و هو يعدّل قبعته العسكرية بيأس : لم يعد بيدي شيئاً آخر افعله .. سأذهب معكم الى هناك 
***

و في هذه الأثناء بمبنى التجنيد .. يأتي مجنّدٌ مراهق و هو يمسك بقسوة ولداً على وجهه آثار الضرب , و قال لموظف الأستقبال : 
- آسف سيدي .. لكن ماذا افعل بهذا الولد المشاغب ؟
الموظف العسكري : و من هذا ؟!
- هذا بولنت اليتيم
فصرخ بولنت : بل انا بولت , ابن الضابط مراد اوغلو !!

فقال الموظف للجندي معاتباً : و لما لم تخبرني بوجوده معنا لأضمّ اسمه الى ملفّاتي  
الجندي : احضروه منذ ايام , و قد حاولت حينها ازالة العقد من رقبته فجنّ جنونه , فحبسته بالقبو
بولنت يصرخ بغضب : انا وعدت ابي ان اعيد له تميمة جدي , وان قلتم ان ابي ميت فسأقتلكم جميعاً !! 
فقال الموظف : ابوك فعلاً حيٌ يرزق , و قد سأل عنك قبل قليل
بولنت بدهشة : ابي كان هنا !

و اسرع ناحية النافذة (الموجودة خلف الموظف) و اخرج رأسه من بين القضبان الحديدية , و صار يصرخ بأعلى صوته و هو ينظر الى الحافلات الموجودة بأسفل المبنى
بولنت صارخاً : ابي !!! .. ابي انا هنا !! انظر الى فوق !!!

بينما كان الموظف و الجندي يحاولان جاهداً انزال بولنت من على النافذة , لكنه تشبّث بالقضبان بكل ما اوتي من قوة , و ظلّ يصرخ بعلوّ صوته

و في الأسفل .. كانت الحافلة التي يستقلّها والده على وشك ان تتحرّك , حين قال احد المجنّدين : 
- هل تسمعون هذا الصراخ ؟! من اين يأتي يا ترى ؟!
مجنّدٌ آخر : يبدو انه صوت ولدٌ صغير ... اظنه يصرخ من داخل المبنى !

و هنا تناهى الى سمع والده جملة ابنه :
- مراد اوغلو !!! انا ابنك بولنت !! تعال و انقذني يا ابي !!

و ما ان سمع ذلك حتى قفز كالمجنون من الحافلة , و ركض بأقصى قوته على السلالم باتجاه الطابق الذي يصدر منه صراخ الصبي

و في هذه الأثناء .. كان الجندي و الموظف قد استطاعا سحب بولنت من النافذة و رميه على الأرض .. ثم بدءا بركله و ضربه لتهدأة جنونه

و قد شاهد هذا والده فور دخوله الغرفة , و حينها صرخ صرخة هزّت لها اركان المبنى
- ابتعدا عن ابني ايها الملاعيين !!!!!

فانتفضا برعب مبتعدان عن الصبي الذي امتلأ جسمه بالرضوض   
و صار ابوه يمسح الدماء عن وجه صغيره , بينما كان بولنت يبتسم بسعادة لرؤية والده بخير

ثم نزع القلادة من رقبته و وضعها بيد والده قائلاً :
- هذه امانتك يا ابي , لقد حافظت عليها بروحي كما وعدتك

فضمّه مراد الى صدره و انهارا بالبكاء , لكن هذه المرّة كانت دموع الفرح و الإرتياح بعد رحلة العذاب الطويلة ! 

انا افقد موهبتي !


تأليف : امل شانوحة


الكتابة,كتّاب,ايتام,دار,المسنين,قسوة,موهبة,كتابة
انت منافستي الصغيرة

((اريد ان اكتب شيئاً ... ايّ شيء !! .. مرّت ثلاثة اشهر و لم اكتب ايّ حرف .. ماهذه المصيبة !))

و هنا تدخل الممرضة الى غرفته :
- استاذ مصطفى
- نعم
- عليك ان تنزل حالاً , فقد حان موعد الغداء
- الا تريني مشغولاً ؟!! 
- انت تعرف القوانين جيداً , اذا لم تأكل الآن فعليك الإنتظار لوقت العشاء
- افّ , حسناً حسناً ..فهمت
- كما ان رئيس الدار يحضّر لكم مفاجأة
فتمّتم بقلق : خيرٌ ان شاء

ثم اتجه بكرسيه المتحرّك نحو المصعد الذي اوصله لقاعة الطعام الجماعية مع باقي المسنين في الدار
و هناك قالت صديقته العجوز (هدى) لأثنين آخرين يشاركونها المائدة :
- هآقد اتى مصطفى
و بعد ان اقترب منهم ..
- كيف حالكم يا اصدقاء ؟

فقال مروان :
- ظنّنا انك لن تأتي يا رجل
- كنت اكتب شيئاً
بارتياح و الإبتسامة على وجهها :
هدى : أحقاً ؟!!  .. أهذا يعني انه عاد الهامك ؟
فقال مصطفى بضيق : يعني .. قليلاً

فأراد الرجل الآخر (فؤاد) ممازحته :
- لا تحاول يا رجل , فقريباً سيصيبك الزهايمر كما اخونا احمد هناك
و اخذ يضحك .. فأجابه مصطفى بعصبية : 
- ربما انتم !! لكنني كاتبٌ مشهور , و اُشغل عقلي دائماً بالقراءة  و الكتابة , و لست مثلكم اقضي وقتي كلّه بلعب الطاولة و الورق و السخافات الأخرى !!
- كنت امزح ! يا الهي كم انت رجلٌ صعب

ثم رأى الممرضة وهي تصرخ على العجوز احمد(المصاب بالإلزهايمر) :
- لما ازلت حفاضتك ؟!! هآ قد اوسخت نفسك من جديد !!
فانتفض مصطفى غاضباً :
- لا تصرخي عليه , فهو في مقام والدك !!
لكنها جرّت كرسي احمد بعيداً لتنظفه و هي متضايقة  

و قد ضايق هذا الحدث مصطفى كثيراً , فسحب كرسيّه المتحرك من خلف المائدة :
- سيدة هدى اعذريني , لكني سأتناول طعامي في الشرفة هذه المرّة
هدى بنبرة حنونة : كما تشاء

لكن قبل ان يذهب , اتى رئيس الدار مُعلناً خبراً مفاجئاً للجميع !
- اخواني !! لقد تقرّر منذ اليوم السماح بزياراتٍ متكرّرة لمجموعة من اطفال اليتامى للأنضمام الينا  

فكان اثر الخبر على المسنين مختلف , فمعظم نساء العجائز كنّ فرحين بهذا القرار الجديد , بينما الرجال منهم كانوا مشتتي الذهن ! فمنهم من يراه قراراً متسرعاً و أحمقاً , و منهم من تقبّل الموضوع بغرابة

فحاول المدير تهدئة الموقف :
- اعرف ما تفكرون به , لكننا لن نحضر سوى الأطفال فوق سن الخامسة و تحت سن الثالثة عشر , ايّ السن الذي باستطاعتكم التحدّث معهم
فتقول هدى بفرح : هذا قرارٌ جميل !! كما ان الأولاد بهذا العمر يحبّون الأجداد , و نحن بهذا السن نحب ملاعبة الأطفال

المدير : و انا اتفق معك يا هدى , فالأيتام بحاجة الى شخصٍ كبير يعلّمهم خبرته بالحياة , و انتم ايضاً بحاجة للشعور بالمسؤولية من جديد
فقال مصطفى بعصبية : 
- ليس جميعنا ! ثم الم يكن الأجدر بك ان تناقشنا بهذا القرار اولاً ؟ 
المدير بحزم : هذا ليس قراري سيد مصطفى , بل قرارٍ وزاري .. كما ان الغرض الأول منه هو الترفيه عنكم

مصطفى بعصبية : و الله ان كانت الوزارة حقاً تهتم بترفيهنا , فكان الأولى بها ان تمنحنا تدليكاً شهرياً ..
فقاطعه صديقه فؤاد ممازحاً : نعم تدليكاً من ممرضات آسيويات جميلات
فردّ مصطفى بحزم : كنت اقصد علاجاً فيزيائياً لمن هم في مثل حالتي
و آشار على كرسيه المتحرك

ثم اردف قائلاً للمدير : و في حال كانت الوزارة الزمتك بأن تحضر احداً الى هنا , فكان القرار الأفضل هو ان تسمح لمجموعة من الشباب الجامعي ان يزورونا كيّ نعطيهم خبرتنا بالحياة , لا ان تعطي الإذن لمجموعة من المشاغبين الصغار الذين حتماً سيقلقون راحتنا 
ثم حرّك كرسيه نحو الشرفة متضايقاً

بينما تقدّمت احدى الممرضات من المدير , و سألته بتردّد : 
- استاذ محمد .. هل هذا سيزيد من مسؤلياتنا ؟!
- لا تقلقي .. فالأطفال سيرافقهم مسؤولين من دار الأيتام 
و هنا رنّ جواله :
المدير : (( نعم .. آه وصلوا .. ادخلوهم الى قاعة الطعام ))
ثم اغلق هاتفه , و قال للمسنين : 
- لقد وصل الأطفال الآن .. استمتعوا !!

و بخلال دقائق انتشر الأربعون ولداً بين المسنين .. و بأقل من ساعة كانوا اندمجوا فيما بينهم , حيث انفرد كل مسنّ بولدٍ او بنت على انفراد و هم  يجرون معهم الأحاديث ليتعرّفوا عليهم اكثر .. 

بينما بقي العجوز مصطفى لوحده في الشرفة و هو يراقبهم من بعيد , ممسكاً بقلمه و دفتره و هو يحاول كتابة بعض الأفكار الأدبية .. و صار يتمّتمّ بضيق :
(( اللعنة !! لم اكتب سوى سطرين من القصة .. اصلاً كيف سأكتب الآن مع هذا القرار الغبي و كل هذه الضوضاء المزعجة .. يبدو ان ايامي ككاتب انتهت هذا اليوم ))

- مرحباً !!
قالتها طفلة في الثامنة اطلّت من باب الشرفة
نظرة خاطفة من مصطفى , ثم اعاد نظره بغضب الى دفتره مشيراً اليها بيده , قائلاً بلا مبالاة :
- اذهبي يا فتاة عند غيري , فأنا مشغول

لكنها مع هذا دخلت , و اغلقت الباب الزجاحي خلفها..
- الا تفهمين يا بنت ؟!
لكنها لم تكترث بغضبه بل اقتربت نحوه و هي تنظر نحو دفتره , ثم سألته باهتمام : ماذا تكتب يا عمو ؟
- و مادخلك انت ؟!!
- اتكتب قصة ؟
- و كيف عرفتي ؟!
- احقاً ؟! كنت اخمّن فقط .. طيب عن ماذا تدور القصة ؟
- عن فتاةٍ صغيرة
- آه جميل !! و هل هي في مثل عمري ؟
- و كم عمرك ؟
- ثماني سنوات
- اذاً نعم , هي في عمرك
- و ماذا تفعل هذه الفتاة , هل تطير ؟
- تطير ! انا لا اكتب هذه السخافات , بل اكتب قصصاً حقيقية
- اذاً ماذا فعلت هذه الصغيرة ؟

فتنهّد بغضب ثم سكت .. فألحّت عليه :
- هيا يا عمو اخبرني !!
و بتردّد و ضيق قال لها :
- كانت تهرب مع اهلها على متن السفينة
- و مما تهرب ؟ هل من التنين ؟
- تنين ! قلت قصصاً حقيقية !! (بسخرية) ..فهل رأيتِ تنيناً من قبل ؟
- نعم .. (بنبرة حزينة) ..العم خالد
- و من هو ؟!
- المسؤول عنّا في الدار
- و ماذا يفعل ؟
- يضربنا بقوة لننام .. انظر
و أرته يدها التي عليها آثار المسطرة

- لا يحق له ضربكم ! هل يعرف مديركم بالأمر ؟
- تقصد مديرتنا ؟
- نعم , هل تعرف بذلك ؟
- لا اظن , فهو يقول بأنه سيقتلنا ان اخبرنا احد !
- اذاً سأحاول ان احلّ الموضوع 
- طيب لا تنسى ان تخبرهم عن لؤي .. فالعم خالد دائماً يعاقبه بالحبس في قبو الميتم لأنه مشاغب
- لا يجوز هذا ابداً , سأتصرّف بهذا الخصوص .. لا تقلقي
الطفلة بحماس : هذا جيد !! و الآن اخبرني البقيّة 
- عن ماذا اخبرك ؟!
- ماذا فعلت الفتاة بالتنين ؟
- ايّ تنين !! .. أفّ يالهي ! .. لا يا عزيزتي , القصة التي اكتبها هي عن فتاةٍ لاجئة
- و ماذا يعني لاجئة ؟
- ايّ هربت مع اهلها من الحرب لبلدة اكثر أماناً
- و هل والدها هو القبطان ؟ 
- لا !
- (فقالت بحماس) اذاً هو القرصان !!

فيفكّر قليلاً ثم يبتسم : 
- بل اظن انها ستكون قصة اجمل لو كانت تظن ان والدها هو قبطانٌ محترم , لكنها تتفاجىء و على محض الصدفة بأنه قرصان دنيء 
- يا سلام !! تبدو قصة جميلة يا عمو .. 

ثم بدأت البنت تطرح افكارها ليدمجها هو بذكاء داخل قصته الجديدة ,  و بعد ان فكّرت قليلاً تقول له :
- اذاً لنتخيل يا عمو انها قصة بنت تحب والدها كثيراً لكنها تعيش مع جدتها , لأن والدها يذهب كل اسبوع نحو البحر 
- نعم عزيزتي , لكن الأفضل ان نجعله يغيب شهوراً طويلة بالبحر 
- نعم هذا احسن .. و في يوم اختبأت داخل سفينة والدها
- ليتفاجىء بها و هو في وسط البحر
- نعم نعم !! ولم يقدر هو ان يعيدها لجدتها .. (ثم تفكّر قليلاً) ..و ذات يومٍ اقتربت منهم سفينةٌ اخرى

- و في تلك الأثناء , طلب من ابنته ان لا تخرج من غرفتها
- لكنها لحقته , و استطاعت ان تراه و هو يتحوّل لقرصان
- تقصدين يسرق السفينة الأخرى و يخطف ركابها
- وهل القرصان يخطف الركاب ؟!
- نعم و احياناً يقتلهم
- اذاً هي تمنعه من ذلك  
- صحيح تنقذ الوضع باللحظة الأخيرة .. ربما لأنها رأت شيئاً
- اذاً لابد انها رأت ولداً في مثل عمرها بين ركّاب السفينة المختطفة

فأكمل مصطفى بابتسامة : نعم و استطاعت ليلتها ان تسرق مفاتيح والدها و تُفرج عن ركّاب السفينة المحتجزين في قبو السفينة , الذين قاموا لاحقاً بالهجوم عليه و على باقي العصابة .. خاصة ان القراصنة كانوا وقتها يحتفلون و هم سكارى
- ما معنى سكارى ؟!
- اي .. يعني نعاسى
- نعم .. ثم ماذا حصل بعدها ؟

و هنا قاطعتهم مسؤولة الأيتام حينما دخلت عليهم : 
- آه ! انت هنا يا سارة , و نحن نبحث عنك
فيقول مصطفى للبنت :
- اسمك سارة اذاً ؟
- نعم و انت يا عمو ؟
- العم مصطفى
فتلتفت الطفلة نحو معلمتها :
- العم مصطفى كاتب يا آنستي , و انا اساعده بكتابة قصة .. اليس كذلك يا عمو ؟
فردّ بابتسامة : هذا صحيح
المعلمة : هذا جيد ..لكن علينا العودة الى الدار
- الا استطيع البقاء مع عمو قليلاً ؟
- غداً نأتي .. هيّا الى الحافلة
- حسناً عمو ..هل تستطيع اكمال القصة لوحدك ؟
فيبتسم قائلاً : سأحاول
- اذاً سآتي غداً لتخبرني بها كاملة
- ان شاء الله 
- وداعاً عمو !!

ثم اسرعت الفتاة الى الداخل لكن قبل ان تلحقها معلمتها , اوقفها العجوز سائلاً :
- لحظة يا آنسة .. هل يوجد عامل عندكم اسمه خالد ؟
- نعم !
- لقد اخبرتني سارة انه يضربهم بقسوة كل يوم
- أحقاً ! لقد انتبهت للأمر هذا الصباح , عندما كنت انا و باقي المسؤولات نلبسهم ثياباً جديدة للحضور الى هنا , و كانت آثار الضرب موجودة على جلودهم , لكنهم جميعاً رفضوا الكلام 
- ذلك لأنه يهدّدهم بالقتل ان فضحوه 
- القتل ! .. حسناً لا تقلق , سأخبر المديرة بالأمر ..لكن اتدري يا سيد , انا سعيدة لأن سارة احبّتك .. يبدو انك ذكّرتها بجدّها المرحوم

- جدّها ! اليست يتيمة ؟!
- هو صحيح ان معظم من في الدار لقطاء للأسف , لكن والدا سارة توفيا في حادث سيارة , و قد ربّاها جدها حتى سن السادسة , لكنه توفي منذ سنتين فأحضروها الينا
- الآن فهمت لما هي طلقة اللسان
- اتدري انها اتت الينا و هي تعرف القراءة جيداً ! فقد كان جدّها يقرأ لها القصص منذ صغرها 
- لهذا لديها خيالٌ خصب
- نعم كما ان جدّها رجلٌ غني , اعتقد انك سمعت بإسمه .. السيد محمد سعيد  
- صاحب دار النشر الشهيرة ؟!
- نعم هو , و قد كتب دار النشر بإسمها , لكن عمها (الوصيّ عليها) استولى على ميراثها و رماها عندنا في دار الأيتام
- ما ابشع الظلم في هذه الدنيا !
- ماذا نفعل ؟ .. هذا نصيبها

لكن قبل ان تذهب المشرفة عاد و سألها العجوز :
- اريد ان اسألك سؤالاً .. ما مصير هؤلاء الأيتام ؟
فتجيب بحزن : الأولاد يعلمونهم صنعةً مهنية و يسرحوهم من الدار بعمر 18 و احياناً في 16.. اما الفتيات فيزوجوهنّ عادة بعد سن 18 ,  و العرسان يكونوا اما عجائز او معاقين او بخلاء .. اما من تبقى عزباء مثلي , فعليها ان تصبح مدرسة بنفس الدار
- آسف .. لم اكن اعلم انك يتيمةٌ ايضاً !
بنبرةٍ مكسورة : و لهذا احنّ عليهم , فقد عشت معاناتهم 

و هنا ! ظهر صوتٌ قوي :
- آه ! هذا بوق الحافلة ..عليّ الذهاب .. لكني سأحضر سارة اليك غداً 
- اذاً سأحاول ان انهي لها قصتها هذه الليلة 
- هذا جميل

و بعد ان ذهبت و انطلقت حافلة الأيتام .. اقتربت السيدة هدى من زجاج الشرفة لترى صديقها مصطفى منهمكاً في الكتابة , فأطلّت من الباب قائلة بسعادة :
- لا اريد الهائك , لكني سعيدة انك عدّت للكتابة ثانية
- آه هدى ! تعالي .. اريد ان اخبرك عن الطفلة سارة 

و بعد ان اخبرها مضمون القصة الصغيرة .. قالت له :
- و مالمشكلة يا مصطفى ؟! فالكاتب الجيد عليه ان يحاول الكتابة في جميع المجالات
- لكن قصص اطفال ! انا لم اتخيّل نفسي اكتب في هذا المجال ابداً 
- و ما يدريك , ربما تنجح فيه اكثر من المجال الدرامي .. كما انها وريثة دار نشر , فربما يساعدك ذلك في نشر كتبك .. فأنت تعبت طوال حياتك من تعاملك مع دور نشر لصوص قاموا بنشر قصصك بثمنٍ زهد , فربما يتغير الأمر الآن 

مصطفى بدهشة : و من اخبرك بهذا الموضوع ؟!
- الأخبار تنتشر هنا بسرعة ..هيا لا تحزن يا صديقي , فقد قرأت معظم كتبك و هي رائعة حقاً , لكننا بزمن لم يعد الشباب يقدّرون فيه الكتب الأدبية كما السابق , و لهذا ربما وضع الله هذه الفتاة في طريقك لتغير من طريقة كتابتك , و ربما ينشهر اسمك اخيراً في مجال قصص الأطفال الخيالية .. كما اظن ان الصغيرة ستساعدك بنشر ق..
مقاطعاً و معاتباً : هدى !! انا لن استغلّ هذه الفتاة ..انا فقط احوّل افكارها لقصة كاملة , لكن بعد ان انهي قصتها كما وعدتها سأعود لكتاباتي الدرامية الأدبية 
- حسناً فهمت .. طيب سأتركك الآن لتكمل عملك
***

و في اليوم التالي..اتت سارة مع بقية الأيتام في نفس الوقت , ليتفاجىء بها مصطفى بعد ان اطلّت من باب الشرفة بينما هو منهمكٌ في الكتابة : 
سارة بحماس : هآ عمو !! هل انهيت قصتي ؟
معاتباً برفق : قولي مرحباً اولاً
- مرحباً جدّو .. ام عليّ ان اناديك بعمّو ؟
فتذكّر انها كانت تعيش مع جدّها و ربما تحنّ اليه , فقال بابتسامة حنونة :
- لا جدّو اجمل ..هيا اجلسي لأخبرك القصة
- قبل ان تخبرني عنها , اريد ان اسألك سؤالاً اولاً 
مبتسماً : خير , ماهو ؟
- اين هم اولادك يا جدو , هل يزورونك ؟
- انا لم اتزوج اصلاً , لأني كنت منهمكاً بشغلي
- ماذا يعني منهمك ؟!
- ايّ مشغول بالعمل طوال الوقت , حتى ضاعت سنوات عمري
- طيب لا بأس ... (و تسكت قليلاً , ثم تقول بحماس) .. اذاً اخبرني الآن بالقصة !!
- لا اولاً دعينا نتغدّى سويّا , ثم نعود الى هنا .. هيّا بنا

و بعد الغداء عادا الى الشرفة , و هناك اخبرها بالقصة التي اعجبتها كثيراً
قالت الطفلة بحماس : بما ان هذه القصة انتهت , علينا اذاً التفكير بقصتنا التالية
- لا يا سارة ! عليّ ان انهي كتابي , فأنا ..  
لكنها امسكت بيده و هي تقول بأصرار : لا ارجوك جدّو ..دعني أؤلّف قصة جديدة معك , فأنا فكرت بها طوال الليل
- أحقاً ؟ اذاً اخبريني بالفكرة اولاً
- الكوابيس
- ماذا بها ؟
- من يجعلنا نرى الكوابيس ؟
- اعتقد الشيطان
- و ماذا عن الأحلام الجميلة ؟
- اظن ملاكاً ما !
- اذاً لما لا نكتب عن وظيفة كلاّ منهما 
- تقصدين تأثيرهما على نشاط الأنسان و حيويته اليومية
- لم افهم قصدك ! لكن دعنا نقول انهما يتعاركان معاً
- تقصدين يتنافسان فيما بينهم ..(ثم يفكّر قليلاً) .. اتدرين يا سارة اظنها فكرةٌ جيدة .. ربما نكتب قصة انسان و صراعه مع احلامه  و كوابيسه
- لا بل قصة فتاةٌ صغيرة 
- حسناً كما تشائين
- و سأجعل عمّي ينشرها لك
بابتسامة حزينة : ربما يا عزيزتي

فهو يشعر بالشفقة عليها , لأنه بالرغم من ان عمها رماها في دار الأيتام الا انها مازالت تثق به ! و هنا قطعت افكاره قائلة بارتياح :
- آه صحيح !! اتدري ان العم خالد لم يعد يعمل عندنا
- أهذا صحيح ؟! ماذا حصل ؟
- لا ادري ! لكنه كان يشتمنا جميعاً و هو خارجاً هذا الصباح من الدار .. لقد كان بالفعل غاضباً جداً !
- اظن على الأطفال ان يشكروكِ يا سارة على ذلك
- لماذا ؟! ماذا فعلت انا
فيقول مبتسماً : لا عليك , دعينا ننهي قصتك الثانية
***

و ذات يوم اتت سارة و هي حزينة , فسألها العم مصطفى :
- ما بكِ يا سارة ؟
- انا حزينة يا جدو , فقد اخذونا البارحة الى حفلةٍ مدرسية 
- و مالذي يحزن في الموضوع ؟!
- كان اهلهم متواجدون معهم , و كان عيد الأم .. و هذا ما احزن اصدقائي اليتامى , حتى ان هناك يتيماً في الخامسة سألني : ماذا يعني ام ؟! و قد ابكاني ذلك , فقد تذكّرت امي .. (و صارت تبكي) 
مصطفى متضايق عليها : كانت فكرة دمجكم مع الطلاب العاديين خاطئة تماماً

سارة : هذه ليست المرة الأولى التي يحزنوننا فيها .. فالسنة الفائتة اخذونا الى مدينة الملاهي , و كان هناك مصورين و اعلام , و رجلٌ مهم يتصوّر معنا
- آه .. السنة الفائتة كانت فترة انتخابات نيابية , ربما احدهم اراد ان يستغلكم لكي ينجح بالإنتخابات .. المهم اكملي ما حصل
- اعطونا تذكرة واحدة , و قد كنت كما جميع الأطفال نريد اللعب بأكثر من لعبة , لكنهم رفضوا ذلك .. بل حتى انهم لم يطعمونا ايّ شيء , و لا حتى بوشار.. (و هي تمسح دموعها) ..كم كنت سعيدة برفقة اهلي .. لكن يبدو انهم غاضبون منّي !

- لا طبعاً ! هم فقط سبقوكِ الى الجنة و ..  
مقاطعة بغضب : اذاً لما لم يأخذاني معهم الى هناك ؟!!
- لأن لكل انسانٍ قدر .. اقصد لكل منّا توقيتٌ معين للذهاب من هذه الدنيا , طبعاً بعد ان ينهي الهدف الذي خلقه الله لأجله 
- و مالهدف من بقائي حيّة ؟!
- هآ انت تقومين فعلاً بهدفك  
- تقصد كتابة القصص !
- نعم .. و اتمنى ان تدعي الكتابة تأخذك الى عالم الخيال و تبعدك عن كل احزانك و همومك .. ايّ اجعليها هدفك الأعلى يا سارة ..  
لكنه مازال يشعر بحزنها , فيقول لها و هو يفتح ذراعيه..
- تعالي حبيبتي
و يضمّها للمرّة الأولى مما اراحهما هما الأثنان
***

و مرّت الشهور بسرعة كتب فيها العم مصطفى و سارة عشرات قصص الأطفال سويّاً .. إلى أن آتى يوم لم تأتي فيه سارة مع بقيّة اصدقائها الى دار المسنين.. فاتجه العم مصطفى بكرسيه المتحرّك نحو المسؤولة عنهم  و سألها بقلق :
- اين سارة ؟! لما لم .. 
فقاطعته قائلة : عمها قدم الينا البارحة , و اعادها معه الى منزله
بخوف : لا !! اكيد عمها سيؤذيها  
- لا اظن , فقد بدا مختلفاً تماماً ! ربما بسبب طلاقه الأخير كما اخبرنا بذلك ..
فذهب العم مصطفى بعدها الى غرفته و اغلق على نفسه الباب و هو يشعر بضيقٍ شديد و قلق على مصير صديقته الصغيرة
*** 

و بعد يومين .. قدِمَ عمّ سارة الى دار المسنين , و دلّته الممرضة على العجوز مصطفى الذي كان يجلس حزيناً لوحده على الشرفة , فأقترب منه قائلاً :
- هل انت الأستاذ مصطفى ؟
- نعم , من حضرتك ؟
- انا عمّ الطفلة سارة
فنظر اليه بإشمئزاز , ثم ادار له ظهره (بكرسيه المتحرّك) ..فاقترب الرجل منه قائلاً :
- اعرف بما تفكّر به , لكن يبدو ان الله عاقبني و بقوة على ظلمي لأبنة اخي .. فقد طلقتني زوجتي بعد ان علمت منذ ايام بأني عقيم  و لا علاج لحالتي .. و لهذا قمت بأخذ سارة لبيتي و قمت بتدليلها  و احضار الكثير من الهدايا لها , لكنها ظلّت تبكي و تقول بأنها مشتاقة الى جدّها .. في البداية ظننتها تتكلّم عن ابي , لكنها اخبرتني عنك و عن قصصك , و بصراحة اعجبتني افكارك كثيراً

- هذه افكارها هي , انا فقط اكتبتهم لها 
- و هل ممكن ان تسلّمني نسخاً منها ؟ و انا اعدك اذا كانت جيدة كما وصفتها لي سارة فسأطبعهم لك بدار النشر , لأن اكثر مبيعاتنا من قصص الأطفال
و بعد تردّد و اخذ و ردّ , اعطى مصطفى جميع نسخ قصص الأطفال لعمّ سارة
***

و بالفعل صدرت الكتب بعد شهر.. 
و جلست هدى و صديقاه في الدار يقرأوا القصص بكتبها الملونة المليئة بالصور و هم يجلسون معه بالشرفة , فقال صديقه (فؤاد) ممازحاً :
- يعني اصبحت غنياً يا مصطفى ؟
- نعم لكن لا تقلقوا فأنا لن اترك الدار , فقد تعوّدت عليكم جميعاً
فيسأله صديقه الآخر (مروان) : و ماذا عن دار النشر ؟
- لقد تعاقدوا معي اليوم صباحاً على سلسلة من القصص , و لهذا طلبت من العم ان تزورني ابنة اخيه سارة لنكمل العمل سويّاً
هدى بابتسامة : ارأيت يا مصطفى , هآقد نجحت اخيراً بالكتابة
- من كان يظن انني سأنجح في مجال قصص الأطفال , رغم انني لم انجب في حياتي !

ثم يضحك.. فتسأله صديقته باستغراب :
- ما بك ؟!
مصطفى : لقد أصبحت جدّاً قبل ان اصبح اباً يا هدى , اليس هذا غريباً ؟!
فتجيبه بفخر : و جدّاً رائعاً ايضاً 
فيقول صديقه (مروان) : ما اعجبني حقاً هو الأهداء الموجود في الصفحات الأولى من القصص 
و يقرأه بصوتٍ مسموع :
(( اهداء الى حفيدتي سارة , التي غيّرت مسيرتي المهنية نحو الأفضل ))
و عقّب قائلاً :
- اهداءٌ جميل يا مصطفى

و هنا ! دخلت عليهم سارة الصغيرة من باب الشرفة الزجاجي , و قالت بحماس :
- انا اتيت يا جدووو !!!
مصطفى متفاجىء : آه ! اهلاً و سهلاً بحفيدتي الحلوة .. تعالي لأعرّفك على اصدقائي ..هذه هي السيدة هدى , و هذان هما مروان و فؤاد 
سارة : كيف حالكم جميعاً ؟
هدى بابتسامة : بخير يا صغيرة .. 
ثم تقول السيدة لمروان و فؤاد : دعونا نتركهما ليكملا العمل

و بعد ان دخلوا العجائز الثلاثة الى الداخل ..
مصطفى : هآ يا سارة , كيف هي الحياة مع عمك ؟
- جيدة , لكني افضل ان ابقى معك هنا
- في دار المسنين !

و هنا تسمعهم المشرفة فتقول :
- سارة انت تعيشين الآن مع عمك , و يمكنك زيارة العم مصطفى  متى تشائين
سارة بشفقة : انا افكر بأصدقائي اليتامى , و ارى انه من الأفضل ان يعيشوا معهم 
و تشير الى العم مصطفى 
فتقول المشرفة : هذا صعب يا سارة , فالأطفال سيضايقون كبار السن بأصواتهم
سارة : اذاً ليكن لكلاً منهما طابقه , لكنهم يتشاركون الملعب و قاعة الطعام سويّاً , ما رأيكما ؟

يبتسم مصطفى : اتدرين يا سارة .. انها فكرةً جميلة ! .. لما لا نكتب لاحقاً عن قصتنا انا و انت , و ربما يقرأها احد المسؤولين و يقبل بفكرة دمج الدارين
سارة بحماس : حسناً !! ..و هآقد وجدنا يا جدو فكرة قصتنا الجديدة
يبتسم : نعم عزيزتي 

و بعد ان ودّعته , نظر اليها من اعلى الشرفة و هي تستقلّ سيارة عمها .. فتمّتم مبتسماً : 

((سارة سعيد .. ستكونين اسماً بارزاً في عالم الكتابة , يا منافستي الصغيرة ))


الاثنين، 27 مارس 2017

50 نصيحة من الكتّاب المحترفين للكتّاب المبتدئين

تلخيص : امل شانوحة

نصائح للكتّاب المبتدئين

1- يمكنك تعلّم تقنيات الكتابة , لكن يجب ان تكون موهوباً بالفطرة كي تنجح
2- استمتع و انت تكتب لكن مع التركيز (و كأنك في مباراة ودّية) فعندما تستمتع بالكتابة , كذلك القارىء 
3- اكتب لنفسك و اقهر الظروف التي تحيط بك 
4- اجعل الكتابة الرقم الأول في حياتك  
5- اطلّع على حضارات و ثقافات الشعوب الأخرى 
6- لا تجعل وضعك الإجتماعي او المادي يُثنيك عن الوصول الى غايتك 
7- الأفكار كسربٍ من الطيور ان اطلقتها من يدك (قبل تدوينها) فستصل حتماً لمخيّلة كاتبٍ آخر
8- بعد ان تنوي الكتابة , هيّء المكان و حالتك النفسية قبل الشروع بتحويل افكارك الى صفحات في كتاب
9- حاول التنقّل بين النثر و الشعر و الخاطرة لأنه سينمّي قدراتك الإبداعية
10- بعد ان تقرأ للكتّاب الآخرين , خذّ منهم ما يناسب نوعية كتاباتك و لا تقلّد احداً 
11- لكي تنتج قصّةً عظيمة , اخترّ منذ البداية موضوعاً عظيماً
12- الكتابة هي المكافأة بحدّ ذاتها
13- الكتابة ماهو الاّ ترتيب الكلمات بعباراتٍ صحيحة
14- استفدّ من تجاربك السابقة لإثراء محتوى قصصك
15- حافظ على نظافة و جودة اسمك , فلا تقبل بتغير اسلوب كتابتك لإرضاء احد او لأجل المال , فربما مع الوقت تصبح رمزاً للأسلوب الذي حافظت عليه
16- اكتب و انت تُقنع نفسك بأنها ستكون اجمل ما كتبت , فهذا الإحساس المتفائل يصل حتماً للقارىء
17- الأفضل ان تكتب بالفصحة بدل اللغة المحكية ليفهمها الجميع , و لتسهيل ترجمتها لاحقاً الى لغاتٍ اخرى 
18- اهتمامك الحسّي بموضوع القصة سيصل بنفس الحماس الى القارىء 
19- عليك ان تعلم منذ البداية انه لا يمكنك أن ترضي جميع القرّاء
20- قبل ان تكتب القصة تخيلها كفيلمٍ سينمائي 
21- القصة تأتيك عادة على شكل اجزاءٍ متفرقة , و عليك ككاتب ان تركّب الأحجية
22- في حال اجريت بحثاً عن احداث القصّة , فأجعل هذه المعلومات خلفيّة لإحدى الشخصيات دون ان تطغى على جميع حوارات القصة
23- تحتاج الى الكثير من الصبر خاصة عندما تتزايد فوضى الأفكار في رأسك و تشعر بالقلق حيّال ترتيبها 
24- احمل معك دائماً دفتراً صغيراً لتدوين الملاحظات و الأفكار العشوائية , و حاول تنظيمها لاحقاً سواءً باستخدامها كلها او حتى حذف معظمها .. المهم ان تدوّن فيها كل فكرة تخطر لك عن الموضوع الذي تنوي كتابته , فهذه الطريقة تخفّف لاحقاً من ضغط الكتابة
25- الكتابة عبارة عن تخاطر بين الكاتب و القارىء , لذا حاول ان تنقل افكارك اليه بشكلٍ واضح
26- حاول ان تستشعر كل ما تكتبه
27- اكتب كل يوم ولوّ كلمة واحدة , المهم ان لا تتوقف عن الكتابة و الاّ ماتت الشخصيات في فكرك
28- اكتب 10 صفحات كل يوم , على ان تُنهي المسودة الأولى خلال 3 اشهر 
29- عليك ان تثقّ بموهبتك , خاصّة في الأيام التي تفقد فيها ثقتك بنفسك ككاتب 
30- لابد ان تكون ردّة الفعل لشخصيات قصتك من الممكن حصولها في عالم الواقع (الاّ اذا كانت القصة خيالية)
31- مفتاح الوصف هو وضوح الصورة بأبسط المفردات 
32- المصطلحات الأدبية الصعبة تستعمل بفقراتٍ محددّة و ليس طوال الوقت 
33- اهم شيء بالقصة هي المسودّة الأولى , لهذا ركّز على ترابط الأفكار منذ البداية و حتى النهاية 
34- القصّة الجيدة هي التي تُكتب بسلاسة دون ان تشعر بالجهد 
35- يقول احد الكتّاب : الكتابة عبارة عن قيادة سيارتك وسط الظلام , فأنت لن ترى سوى مسافة المترين التي تضيئهم لك انوار سيارتك , و كذلك القصة لن تعرف احداثها الا بعد ان تدعّ طباع الشخصيات (التي اختلقتها) تقود مجريات القصة .. او كما يقول كاتبٌ آخر((دعّ شياطينك تقودك)) وحتماً ستفاجئك النهاية ! 
36- او باختصار : اجعل لبطلك هدفاً يلاحقه ثم اتبعهما 
37- حرّر الوحوش التي بداخل شخصياتك , دعهم يصلون الى ذرّوة غضبهم و انفعالاتهم , و ذرّوة عواطفهم الجيّاشة
38- لابد ان تضّح لك نهاية القصّة بعد ان تجاوزت منتصف الأحداث
39- عندما تملّ من طول حواراتك , فتأكّد بأن القارىء سيملّ منها ايضاً
40- لا يجوز ان يقرأ القارىء نفس المعلومة مرتين
41- لا تُنهي الفكرة تماماً بنهاية احد الفصول بالرواية , بل اجعلها غامضة و اقطعها في ذروة التشويق , و دعّ الحلول تتوضّح في الفصل الأخير , فهذا سيحمّس القارىء على انهائها
42- و في حال توقفت افكارك في منتصف الرواية , فأتركها جانباً و اكتب ايّ شيءٍ آخر .. الى ان تسمع صوتاً داخلي يُملي عليك بأفكاره التي سترشدك نحو نهاية احداث القصة , فهذا  ما يسمى بالإلهام  
43- من السهل كتابة قصة طويلة , لكن من الصعب اختصارها الى قصة قصيرة
44- بعد ان تُنهي قصتك , راجعها و كأنك قارىء يقرأها لأول مرة , ثم اقرأها مجدّداً و كأنك ناقدٌ ادبي 
45- اشطب العبارات التي لا تخدم قصتك ولوّ كانت جميلة
46- لا تجعل القارىء يشعر بعد قراءته لقصتك بأنه اضاع وقته , فكما يقول احد الكتّاب ((الإمساك بأرنب أسهل بكثير من الإمساك بقارئ))
47- اكتب ثم اكتب و ستجد ان جودة كتاباتك ستتحسّن مع الوقت
48- الكتابة عبارة عن 10% الهام و 90% جهد
49- لا تخشى الفشل , المهم ان لا تتوقف بسبب الإنتقادات او الشكّ بقدراتك
50- بنهاية الأمر : لا تفكّر ابداً بالجوائز المادية او التكريمية لأنها نوعاً ما تقتل شغفك 

التوأمتان المتعاكستان

تأليف : امل شانوحة  الطيّبة والشريرة دخلت السكرتيرة الى مكتب مديرها (جاك) لتجده يفكّر مهموماً :   - إن كنت ما تزال متعباً ، فعدّ الى قصرك ...