الأحد، 24 يوليو 2016

من اكون ؟!

تأليف : امل شانوحة

موقع,فشل,ام,موهبة,قرّاء,اكتئاب
انا فاشل !!

كان اول ما كتبه في موقعه (الذي افتتحه حديثاً) :
((تحيّة طيّبة لجنابكم الكريم .. اسمي زياد .. عمري اربعين سنة .. اعيش بمفردي في غرفة واحدة فوق سطح مبنى مُتهالك .. خرّيج آداب .. عازب الى يوم الدين .. انطوائي جداً .. و بالرغم من كل هذا , اتوقع ان يمتلأ موقعي بالأصدقاء .. لماذا ؟ .. لأن هناك شيئاً واحداً سيجمعنا .. عُشقنا للرعب !!

..فكما لاحظتم .. المواقع العربية التي تهتم بهذه المواضيع شحيحة جداً ! ربما لأن عالمنا العربي يعيش الرعب على ارض الواقع , فلا حاجة للمزيد من الإثارة .. كما يقولون : ((الضرب في الميت حرام !)).. لذلك كنت اقضي الساعات الطويلة اجوب المواقع الأجنبية لأقرأ المقالات المخيفة والرائعة , ولوّ كانت واقعية ومرعبة فهي اجمل بكثير !! 

..و لأن لغتي الأجنبية متواضعة , فقد اتعبتني الترجمة .. و مع هذا , خطر في بالي افتتاح هذا الموقع .. و فيه سأتكفّل عنكم بهذه المهمّة .. فليعينّي الله ! .. لكن بالمقابل اعدكم بمقالاتٍ مثيرة , مُنمّقة و سلسة .. يعني .. لأستفدّ قليلاً من شهادتي الغبية ! اعرف بأنني اُكلّم نفسي الآن .. فأنا لم اكتب سوى مقالتين في هذا الموقع الذي قسّمته لأقسامٍ كثيرة , معظمها مازال فارغاً ! .. لكن من يدري ؟ ربما انتم ايها القرّاء الأعزاء تملاؤنها بمقالاتكم الجيدة .. كل ما عليكم فعله : هو ان تذهبوا الى خانة (انشر معنا) و ترسلوها لي .. و ان اعجبتني , انشرها لكم فوراً !! ..     و لنُساهم جميعنا في جعلهِ اهم موقع عربي يهتم بالمواضيع المرعبة !!     و انا في انتظار آراءكم .. مع فائق التقدير و الإحترام))

و قبل ان يُغلق حاسوبه , اتاه اتصال من والدته التي تسكن في القرية المجاورة .. و ما ان رأى الرقم على جواله , حتى تأفّف بضيق :    (يا الهي ماذا تريد الآن ؟!)
- الو !! نعم امي , ما الأمر ؟
- اهكذا يجيبون والدتهم , يا عديم التربية ؟!!
- لنختصر هذه الإهانات اليوم , فأنا متعبٌ جداً .. اخبريني مالموضوع ؟ ....هل ابي بخير ؟
- لا يهمّك سوى والدك العاجز !! اما انا و اخوك , فلا... 
- اختصري امي !!
- اخوك يريد ان يعزم صديقه على المطعم , لذا ارسل له بعض المال
- تمزحين طبعاً ! انا اعمل طوال النهار في المحاسبة لأجمع بعض المال , لكيّ اطوّر موقعي ..و انت ....
- موقع ماذا ؟!! الم تكفّ بعد عن هذه التفاهة ؟!
- امي !! هذا الموقع سيصبح افضل موقع عربي , لكنه يحتاج الى دعمٍ مادي .. لذلك انا ... 
- اتركني من هذه السخافات , و قلّ لي .. هل سترسل المبلغ ام لا ؟!!

و هنا يسمع سُعالاً قويّاً لوالده العاجز (من بعيد)
- امي ! الحقي بوالدي !! كأنه يختنق !
- فليمت و يرِحنا من همّه !! لقد انكسر ظهري و انا انظفه و... 
- اذاً دعي اخي المدلّل يُساعدك !!!
- ايّاك ان تتكلّم عنه بسوء !! فأخوك افضل منك بكثير !! هاهو سيتخرج قريباً من الهندسة , و سيعمل بإذن الله بأفضل الشركات .. و سيُخرج امه من بؤرة الفقر .. ليس مثلك يا فاشل !! آداب و موقع  و خرابيط !!!
لم يستطع زياد تحمّل المزيد , و اغلق الهاتف .. فقد اخذ جرعته من الإهانات لهذا الأسبوع !
في المساء .. استلقى على سريره و بدأ يتذكّر ماضيه .. و كيف قضى طفولته بين والدٍ ضعيف الشخصية , و امٌ قاسية مُسيطرة , لكنها في نفس الوقت : ام مثالية لأخيه الصغير , الكامل الأوصاف بنظرها ! 
- لما يا امي تكرهينني هكذا ؟! 
لحظة ! هي اجابتني عن هذا السؤال في اكثر من مناسبة .. فأنا كنت بالنسبة لها غلطة .. نعم هي تزوجت تنفيذاً لأوامر جدي , الذي يبدو انها ورثت قساوته ! لكنها لم تكن تنوي الإنجاب قبل ان تُنهي مرحلة الثانوية ..

و هنا يتذكّر صراخها قائلة : 
- ولِدّتَ قبل الإمتحانات النهائية , بيوم !! كنتُ في بداية شهري التاسع , فلما كنتَ عجولاً هكذا !! لو تأخّرت لإسبوعين فقط , لتغيرت كل حياتي !!!!
و كأن قدومي لدنيا كان بيدي ! لكن اظن ان هناك سببٌ آخر .. فأمي كاتبة مثلي .. هي لم تُخبر احداً بذلك .. بل انا تسلّلت خلفها الى العلّية .. و بعد ان ذهبت , فتحت الصندوق نفسه الذي جلَسَت تعبث فيه لأكثر من ساعة .. و قد وجدتهم !! قصصٌ قصيرة مكتوبة بخطّ اليد ! و لوّ لم اجد اسم امي عليها , لظننتها لكاتبٍ عظيم ! 

..و بعد ثلاث ساعات من القراءة المتواصلة (بالطبع لم يفتقدني احد !) كنت قد انهيت قراءة قصصها السبع و العشرون .. كم كنت احب مناقشتهم معها , فهو اختصاصي الجامعي .. لكن بصراحة , خُفت من ردّة فعلها ! .. ستفهمون قصدي لاحقاً ... لأتابع .. و بينما كنت اتصفّحهم , لاحظت التواريخ التي وضعتها في اول كل قصة ..  كانت ايام حَملها بي ....و تواريخ القصص تدل على انها كانت تستعجل في كتاباتهم الواحد تلوّ الآخر ! يبدو انها كانت تعرف بأن حلمها الكبير سيضيع مع اول صرخة لطفلها الفاشل..الذي هو انا!  
..و هذا ما حصل بالفعل .. و هي و ان كانت معاملتها لي جافة طوال فترة طفولتي (مقارنةً بدلالها لأخي !) الاّ ان قسوتها زادت عليّ في ايام الثانوية .. مازلت اتذكّر ذلك اليوم جيداً :
- امي , انظري !! لقد حصلت على اعلى علامة في مادة الإنشاء (التعبير) !!!! 

فسحبت امي الدفتر من يدي بعنف , و هي مُقضّبة الجبين ..و بدأت تقرأ موضوعي بسرعة .. لكن ردّة فعلها فاجأني .. بل صدمني للغاية !    فقد رمت دفتري بعيداً , و اكملت غسل الصحون !
- امي ! ماذا حصل ؟! الم يعجبك موضوعي ؟!
- لا تضيّع وقتك بهذه التفاهات !! لا احد بهذه العائلة , سيكون اديباً .. افهمت !!!
و تحليلي للموضوع : انني بذلك فتحت لها جرحاً قديماً , كانت تحاول جاهدة نسيانه ! بل ربما شعرت بأنني اسّلبها موهبتها , التي لم ترتوي منها بعد ! 

و رغم انني اتفهّم كرهها لي , الاّ انني اكاد انفجر غضباً منها !! 
مازلت اذّكر : حين كان المتنمّرون في مدرستي يتفنّنون في تعذيبي اللفظي و الجسدي .. و هي بدل ان تخفّف آلامي , كانت تقول لي بإستهزاء : 
- اضربوك اليوم ايضاً ؟ جيد !! فأنت تستحق ذلك , يا فاشل !!! 

ربما تظنون كلامي مُبالغاً فيه , لكنها الحقيقة (مع الأسف) !..    احياناً اتخيلها زوجة ابي و ليست امي ! لكن ماذا اقول ؟ .. آه .. ياليتها حنونة كأبي .. كم اشفق على هذا المسكين الذي حوّله الشلل لدمية مُتصلِّبة الأطراف , تتقاذفه يداها القاسيتان ! كم ارجو له ان ينتقل للرفيق الأعلى , ليرتاح منها ! 
افّ !!! لما اُعيد ذكرياتي الأليمة ! الأفضل ان اقوم و افتح موقعي , فكلام امي الجميل اذهب النوم من عيني !

و عندما فتح زياد موقعه , لم يصدّق عينيه ! فقد وجد اول قارىء لمقالته .. فأسرع يحاول التعرّف عليه , بتعليقٍ له (تحت المقال)
- عزيزي القارىء الأول !! تحيّة طيبة لجنابك الكريم .. ان لم يكن لديك مانع , بودّي ان اتواصل معك على صفحتي على الفيس بوك المدوّن بأسفل الصفحة .. و انا في انتظار اقتراحاتك لموقعي الجديد .. مع فائق التقدير و الإحترام

لكن هذا القارىء لم يتواصل معه الاّ بعد اربعة ايام .. لا لأن يطلعه على نصائحه لتحسين الموقع , بل ليرسل له مقالاً مكتوباً بلغة عربية ركيكة..    و يرجو نشره في موقعه

فقرأ زياد مقالته بفرحٍ شديد ..و رغم ان جميع المعلومات التي فيه قديمة بالنسبة له , الاّ انه قام بتنقيحه لغوياً ..و ظلّ لساعات يبحث في الأنترنت عن الصورة المناسبة للمقال .. ثم نشرها له  ..    
و يبدو ان هذا الشاب تفاخر امام اصدقائه بمقالته المنشورة , فأثار غيرتهم ! فقاموا هم ايضاً بإرسال مقالاتهم للموقع ..   

و بغضون اشهرٍ قليلة ..امتلأت جميع اقسام الموقع بمقالات القرّاء , بالإضافة لمقالات زياد المحترفة .. و في خمس سنوات , اصبح الموقع العربي الأول المتخصّص بالمواضيع المرعبة .. و صار لديه معجبين من كافة الدول العربية , بل انهم اعتبروه قدوتهم .. لكن زياد لم يكن سعيداً بذلك ! 

و كان هذا واضحاً من ردوده التشاؤمية في قسم (قضية للنقاش) .. و كان ذلك يُفاجىء معجبيه , الذين سرعان ما ينهالوا عليه بالمديح , الذي كان يُشعره بالحقيقة بالغثيان و الغضب ! .. لماذا ؟ .. لأنه كان يعيش صراعاً داخلياً !! حيث تتصادم في رأسه : العبارات الجارحة لأمه  و الكلمات الساخرة من اخيه الأصغر , و في الجهة المضادة : يوجد هذا الكمّ الهائل من المدح و الثناء من قرّائِه .. فأيهم يصدّق ؟! .. من هو ؟.. هل هو فاشل ام مبدع ؟.. حقاً لم يعد يعرف !

بل ان حالته ازدادت سوءاً بعد ذهابه لجنازة والده ..و كما هو متوقّع , سخر القريب و البعيد من تضيع وقته في موقعٍ لا يجني منه المال , و لأنه ايضاً صار بهذا العمر و لم يتزوج بعد , بينما اخيه الأصغر اصبح لديه ابن و عملٌ محترم .. و بالطبع لا احد فخور كوالدته , التي تعيش مع عائلته في منزله الفخم 


فعاد زياد الى غرفته الكئيبة فوق السطح , مهزوماً و مكسور الخاطر .. 
و صار رأسه يردّد الكلمة التي سمعها اليوم , اكثر من عبارة : (عظّم الله اجرك) .. نعم حزرتم !! كلمة : فاشل .. فاشل !! ..فاشل !!!!!!
بحلول العصر .. كانت نفسَه تعافُ الطعام , لذلك فضّل النوم .. ثم استفاق مساءً كعادته ..و جلس امام حاسوبه , ليُجيب على طلبات القرّاء التي لا تنتهي في قسم (اتصل بنا) .. و كالعادة ..لا يخلو اي طلب .. او حتى تعليق على احدَ مقالاته , من الكمّ المبالغ فيه من المديح المقيت ! فهذا بحسب رأيه : مُجرّد كلام غير صادق بالمرّة   
يبدو ان نفسية زياد المُحطّمة صارت تتقبّل الذمّ افضل بكثير من المدح , الذي لم يستوعبه عقله يوماً ! 
بل صار يُقنع نفسه : بأن معظم المادحين هم من المراهقين الصغار الذين يتملّقونه , لكيّ ينشر لهم مقالاتهم السخيفة !
و الأسوء !! انه كان هناك سبعة من القرّاء (هم من اقدم متابعينه) مازالوا يلتصقون به كالغِراء ! لا يغادرون الموقع ابداً , و كأنه صار بيتهم !    بل صار يشعر و كأنهم يحاولون سحب البساط من تحت قدميه !!

- ما هذا ؟ انهم يُجيبون على اسئلة القرّاء , بدلاً عني ! ايريدون اخذ الموقع مني ؟! لا مستحيل !! هذا هو الشيء الوحيد الذي املكه .. انه موقعي انا !! 


ثم عاد و قرأ طلب احدهم (السبعة القدامى) و هو يصرّ عليه : ان يفتح مجالاً لتعين المُشرفين , و الذي برأيه (المعجب القديم) يُساهم في الإسراع بالنشر من جهة , و مساعدته (للأستاذ زياد) من جهةٍ اخرى
- لا طبعاً !! انا لا اريد مشرفين , و لن اسمح لأحد بسرقة موقعي !!!
لكن زياد عاد و حذف تعليقه , قبل ثواني من نشره .. و هو يقول لنفسه :
- اهدأ يا زياد , مابك ؟ ... آه ياربي اكاد انفجر !!!!

و عاد و اغلق حاسوبه .. بعد ان اعتذر من الجميع عن الإجابة على كل اسئلتهم , بحجّة شعوره بنوبة الم في كليته ! 
ثم استلقى على سريره ....... لكنه لم ينمّ الاّ مع تباشير الصباح
بنهاية الإسبوع .. تفاجىء المعجبون القدامى السبع (الأكثر اخلاصاً للموقع) بدعوة لهم على ايميلهم الخاص من زياد , يدعوهم الى حفل عشاء في منزله المتواضع , لأنه يرغب بالتعرّف عليهم , فهو لا يعرف سوى القابهم المزيفة .. و بالتأكيد هلّلوا فرحاً لذلك !! و لم يكن صعباً عليهم ان يقطعوا تذاكر الطائرة لحضور الحفل المنزلي , لنِجمهم المفضّل ..   و بعد سيل من المديح الذي ترافق مع قدوم كل معجبٍ منهم .. جلسوا اخيراً لتناول العشاء , الذي اعدّهُ خصيصاً لهم .. و بعد ان امضوا الوقت  بالضحك و المزاح المتواصل (بينما زياد يجاريهم بإبتسامة صفراء) ,     
تفاجأوا بالسعال الحاد لأحدهم ! .. فسأله زياد بخبث :
- ما بك ؟ الم يعجبك الطعام ؟


فحاول (هذا المُعجب) ان يتكلّم , لكنه كان يختنق : 
- ماذا وضعت في صحني ؟! انا لا استطيع ..
ثم زاد سعاله حتى ازرقّ وجهه , ففزع الجميع ! و اسرع الذي بجانبه  ليُحضر له الماء , لكنه ايضاً اصيب بدوارٍ مُفاجىء جعله يسقط على الأرض ساحباً معه غطاء المائدة , ليتساقط كل ما عليها على الأرض !
و بأقل من نصف ساعة .. كان الجميع مطروحين في اماكنهم : بعضهم يتقيأ , و منهم من كان يهتزّ بإنتفاضات مُرعبة .. اما البعض الآخر فقد فارق الحياة ! 
ربع ساعة اخرى .. و توقفت حِراكهم نهائياً !    

هنا وقف زياد صارخاً :
- لقد اتعبني مديحكم المتواصل لي !! الا تعرفون من انا ؟!..    انا اكبر فاشل بالدنيا !! انا فاشل !! ......... فاشل !!!!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

التوأمتان المتعاكستان

تأليف : امل شانوحة  الطيّبة والشريرة دخلت السكرتيرة الى مكتب مديرها (جاك) لتجده يفكّر مهموماً :   - إن كنت ما تزال متعباً ، فعدّ الى قصرك ...