السبت، 23 يوليو 2016

رداء الأخفاء

تأليف : امل شانوحة 

صورة, قصة, اب, ابن, سجن, رداء
كيف دخلت الى هنا ؟!


في تلك الليلة .. إستيقظ السجين من نومه ، ليتفاجىء بإبنه جيم (ذوّ الثماني سنوات) يقف امام سريره في الزنزانة .. مرتدياً قناعاً فوق عينيه ورداءً اسوداً , ويحمل كيساً كبيراً.. 

ففتح السجين عيناه بصعوبة ، وهو لا يصدّق ما يراه :
- ابني !
فأجاب ابنه بابتسامةٍ طفولية : نعم ابي ..هذا انا !!
- كيف دخلت الى هنا ؟!
ابنه بفرح : بواسطة هذا !! 
وأشار الى ردائه..

فجلس والده على حافّة سريره وهو يسأله :
- لا حقاً ! كيف سمحوا لك ؟!
- ابي هذا رداء الإخفاء ، أنسيت ؟! يمكنني التجوّل فيه أينما شئت , ودون أن يراني احد

فمدّ ذراعه نحو ابنه , قائلاً بشوق :
- تعال يا جيم .. اريد أن أحضنك , فقد اشتقت اليك كثيراً
جيم بصوتٍ منخفض : 
- ابي , ليس الآن .. بل بعد عودتنا الى المنزل 
فاستفسر بإستغراب : وكيف سأهرب ؟!

فأخرج ابنه من الكيس رداء إخفاء بحجمٍ كبير :
- أحضرت رداءً يناسبك ، إلبسه حالاً !!

فلبس السجين الرداء والقناع الأسودين .. وما أن انتهى من لبس ثيابه التنكّرية , حتى رأى نور كشّاف الحارس (الذي عمله التأكّد من نوم المساجين) يقترب من الزنزانة .. 

فهمس لإبنه بقلق :
- سيرانا الحارس
فأجاب ابنه بثقة :
- لا تقلق ابي ، قف بجانبي .. هيا بسرعة !!

فالتصق الأب بإبنه على الجدار القريب من القضبان , دون أن يراهما الحارس الذي صرخ بارتباك :
-السجين رقم 112 غير موجود في سريره ! إفتحوا الباب بسرعة!!!

وما أن فُتح باب السجن ، حتى همس لإبيه المرتعب :  
-هيا ابي , لنخرج من هنا ..
فقال الأب بصوتٍ مرتعش : سيرانا حتماً 

فردّ ابنه بعتاب : أكل مرة أذكّرك برداء الإخفاء ! هيا لنهرب بسرعة ، قبل إغلاقهم الأبواب 
وذُهل الوالد بعد مروره بجانب الحارس الذي يفتّش اسفل سريره ! 

وهكذا تجاوزا كل الأبواب والحرس ، وصولاً الى ساحة السجن الخارجية .. تاركان العنابر هائجة بغضب الحرّاس وصراخ المساجين الذين طرقوا بأكوابهم على قضبان زنزاناتهم , فرحين بهروب احدهم من سجنهم المرعب
***

في ساحة السجن .. إلتصق الأب وابنه بجدار السجن الخارجية , خوفاً أن يراهم الحارس المسلّح الموجود أعلى برج المراقبة

وهمس لإبنه بخوفٍ بالغ :
-ابني ..إنتبه جيداً من ضوء المنارة , وإلاّ سيطلق مراقب البرج الرصاص علينا !
فابتسم ابنه بثقة : 
- طالما نلبس رداء الإخفاء ، فلا خوف منه .. (وأمسك يده) ..هيا نعود الى منزلنا يا ابي 

وفجأة ! لمع الضوء في عين السجين ، فصرخ بفزع وهو يرفع يداه مستسلماً :
- لا تطلقوا النار !!
***

وحين فتح السجين عيناه , رأى حارس السجن وهو يُقرّب نور الكشّاف من سريره , ويقول :
- روبرتو , استيقظ !! لقد حان الوقت 

فعَلِمَ السجين إنه يحلم ! وبأنهم قدموا لأخذه لتنفيذ حكم الأعدام , بعد إنتهاء جميع المرافعات القضائية التي دامت لأكثر من سنة 
***

بعد دقائق .. إنتهى الحرّاس من تجهيزه , وتقييد يديه وقدميه بالسلاسل .. ثم اقتادوه باتجاه غرفة الإعدام .. بينما كان المساجين الآخرين يطرقون بالأكواب على قضبان زنزاناتهم لتحيّة روبرتو للمرة الأخيرة.. 
***

في طريقه الى هناك .. تذكّر روبرتو آخر مرافعة له في المحكمة , حيث ألحّ محاميه ، قائلاً :
- سيد روبرتو .. الأمر خطيرٌ جداً , قد يصدر القاضي بعد قليل حكماً بإعدامك.. أرجوك دافع عن نفسك ، إنها فرصتك الأخيرة !

وانقطع حديثه ، بقدوم القاضي الذي أمر روبرتو بالوقوف ليسأله مجدداً : 
- سيد روبرتو !! سأسألك للمرّة الأخيرة .. ماذا تقول بشأن قتلك لأبنك ومعلمته ؟
السجين روبرتو : أقول إنني .... مذنب !!

فخاب امل محاميه , وبعض أقاربه الذين تواجدوا في المحكمة ..
وحان وقت إصدار الحكم النهائيّ ..

فقال القاضي بصوتٍ عالي :
- بعد سماعنا لإقراره بالذنب في أكثر من جلسة .. لم يعدّ امامي الا الحكم عليه ..... بالإعدام !!! وستنفّذ عقوبته في بداية الشهر القادم , بواسطة الكرسي الكهربائي !! ... رُفعت الجلسة !!!

لتضجّ القاعة ببكاء أقاربه ، وتصفيق اهالي المعلمة المغدورة..
***

ثم عاد روبرتو إلى الواقع فور دخوله القاعة الصغيرة التي يتوسّطها الكرسي الخشبيّ الكئيب الموصول بالأسلاك الكهربائية.. 

وبعد تقيّده بالكرسي .. إقترب منه رجل الدين لترتيل الإنجيل .. بينما تسمّرت عينا روبرتو على الأشخاص الجالسين خلف الزجاج ، ليكونوا شهوداً على موته ..  

وهنا عادت ذاكرته للوراء ، وتذكّر اسباب إرتكابه الجريمتين :
فإبنه الوحيد جيم أصبح قليل الكلام بعد وفاة والدته بالسرطان , وتردّى مستواه المدرسيّ كثيراً .. 

لكن بعد فترة .. وجد الصغير راحته في مشاهدة مسلسله الكرتونيّ المفضّل الذي يُحكى فيه : ((عن ولدٍ صغير يلبس معطفاً اسوداً يُخفيه عن الأنظار , ليقوم بمساعدة الناس دون علمهم)).. 

وبعد انتهاء المسلسل ، بدأت الدعايات التجارية تُعلن : بتوفّر رداء الإخفاء بمحلات الألعاب.. 
فصار كلّ همّه هو شراء ذلك الرداء .. لكن والده روبرتو (العامل في معمل المنظّفات الكيماويّة) لم يكن في مقدوره شراء الرداء الغالي بالنسبة لمرتّبه البسيط .. وبدأ يغضب من إصرار ابنه كل يوم على شرائه..
***

وفي صباح أحد الأيام ...إقترب جيم من ابيه وهو يحمل قصاصة ورق :
- ابي .. سألتني البارحة لما أصرّ على شراء الرداء ؟ فكتبت هذه الورقة لتوضيح سبب رغبتي به.. ارجوك إقرأها

فأخذ الأب (روبيرتو) الورقة ورماها على الطاولة , قائلاً بعدم مبالاة :  
- سأقرأها لاحقاً
-لكن ابي ..
فصرخ مقاطعاً :
- قلت فيما بعد !! هيّا حضّر نفسك لتوصيلك الى المدرسة قبل ذهابي الى العمل ، فقد تأخّر الوقت 
***

ومضت اسابيع ، والورقة مازالت على الطاولة !  
وفي أحد الأيام ، فاجأ الصبي اباه ببعض المال .. 
فسأله والده بدهشة :
- كم المبلغ ؟ ومن اين أحضرته ؟!
فأجاب ابنه بحماس :
- هذه سبعون دولاراً , ثمن الرداء !! فأنا لي مدّة أدّخر مصروفي .. كما أحضرت بعض الحاجيات لجارتنا العجوز , وهي كافأتني ببعض المال

والده بإستهزاء :
- أكل هذا لأجل ردائك السخيف ؟!
فردّ بعصبية وإصرار : لا تقلّ هذا ابي ، فأنا احتاجه فعلاً !! وقمت بدوري بجمع ثمنه ..كلّ ما عليك فعله , هو الذهاب للسوق وشراءه لي .. رجاءً ابي !!

ففكّر والده قليلاً , قبل أن يقول : 
-حسناً ، سأفعل 
فقفز جيم بفرح ، وهو لا يصدّق ما سمعه :
-أحقاً ابي ؟!!
-نعم سأذهب الآن .. لكن عدّني حين أعود , تكون أنهيت جميع واجباتك الدراسيّة
ابنه بحماس :
- سأبدأ حالاً !!!
وركض سعيداً الى غرفته..
فابتسم الأب بعد وضعه المال في جيبه ، ثم خرج من المنزل.. 
***

وقبل وصوله لشارع التسوّق ..لاحظ بعض زملائه (في المعمل) مُتجمّعين على جانب الطريق .. فأوقف سيارته واقترب منهم..

روبرتو : ماذا يحدث هنا ؟!
فقال احد اصدقائه بقهر :
- ألم تسمع ؟!! سيغلقون معمل المنظّفات الكيماوية غداً !
روبرتو بدهشة : لماذا ؟! 
فأجاب صديقٌ آخر بعصبية :
- لأن بعض نشطاء الحفاظ على البيئة , ربحوا القضية ضدّ معملِنا .. وسيصدر الأمر غداً بإغلاقه ! 
روبرتو بضيقٍ وقلق :
- وماذا سنفعل نحن ؟!
صديقه بحزن : لا ندري !

الصديقٌ الآخر بغضب :
- برأيّ أن نذهب جميعاً لرميّ مكتب اولئك الحمقى بالحجارة , لربما نُرعبهم ويتركونا وشأننا !
روبرتو بقلق : أظن هذا سيزيد الأمر سوءاً !
فأجابه الشخص ذاته بعصبية :
- هل لديك حلٌ آخر ؟!!
وهنا تدخّل الصديق الثالث قائلاً : 
- انا سأذهب معك !! ولنلقّن اولئك الحمقى درساً لن ينسوه ابداً .. (ثم قال ساخراً).. وأنت يا روبرتو .. هل ستذهب معنا ، أم ستخاف كعادتك ؟
روبرتو بعصبية :
- من قال انني خائف .. هيا لنذهب اليهم !!
***

عاد الأب (روبرتو) في آخر الليل مرهقاً وحزيناً .. فاستيقظ ابنه (الذي غلبه النعاس على الكنبة في انتظار عودته) ..وركض مباشرةً إليه ، وهو يسأله بحماس :
- هل اشتريت لي الرداء يا ابي ؟!! 

فتهالك الأب على الكنبة بتعب , وهو يقول :
- آسف بنيّ .. دفعت مالك بالإضافة لما معي , ثمن الكفالة للخروج من توقيف الشرطة  
ابنه بدهشة :
- ولما وضعوك في السجن ؟! 
- تورّطتُ في مشاجرةٍ سخيفة ، وقبضت الشرطة علينا ..(ثم تنّهد بتعب) .. أعدك بشرائه الشهر القادم
فبكى الولد بقهر :
- لكني بحاجته غداً !!

وظلّ يبكي .. إلى أن فقد والده أعصابه ، فصرخ عليه بغضب :
- حسناً ، خذّ هذا بدلاً منه !! 
ووضع الملاءة (التي كانت على الكنبة) فوق رأس ابنه ، وهو يقول ساخراً:
-هآقد حصلت على ردائك اللعين ، والآن أغرب عن وجهي !!!

ليتفاجأ بإبنه يصرخ كالمجنون ويُخرّب كل شيء , ويقذف الأشياء على والده (بهستيريا) وهو يقول :
- أنا أكرهك !! انت والدٌ سيّء .. ليتك متّ بدلاً من امي !!
فجنّ جنون الأب : 
- ماذا قلت يا ولد ؟!!!

وحمل ابنه ورماه الى الكنبة الأخرى ، إلا أن رأسه ارتطم بقوّة بحافة الطاولة .. فتهاوى جسده دون حراك على الأرض .. 

فأقترب والده وهو يرتجف بخوف , ليرى بقعة دماء خلف رأس الصغير .. فصار يهزّه برعب , وهو يبكي بهستيريا :
- جيم حبيبي !! انا آسف .. هيّا قمّ ارجوك !! سأشتري لك الرداء .. أحلف لك !! هيا رجاءً ، إفتح عينيك !

وأمضى الأب ليلته في البكاء وهو يحتضن جثة ابنه , حتى طلع الصباح 
 
ثم حمل الأب ابنه , ووضعه على الكنبة .. وذهب ناحية الهاتف للإبلاغ عن نفسه .. واتصل بالشرطة ليقول بصوتٍ مرهق وحزين:
- الو ، اريد الإبلاغ عن ..
- معك الشرطة سيدي ، ما المشكلة ؟  

لكن روبرتو توقف عن الكلام ، فور رؤيته ورقة ابنه التي نساها شهراً فوق الطاولة !
فأغلق الهاتف , وأخذ يقرأ ما فيها :
((أبي العزيز .. أعرف إنني ألحّ عليك كثيراً لشراء الرداء .. وسبب ذلك إنني اريد الإختفاء عن أعين معلمتي (ليندا) .. فهي قاسية جداً معي ! ودائماً ما تستهزأ من ثيابي البالية وقلّة نظافتي ..رغم علمها بوفاة امي وانشغالك الدائم في العمل وسوء أوضاعنا المادية ، ومع ذلك تصرّ على جعلي مثالاً سيئاً امام رفاقي ! لهذا سألبس الرداء في حصّتها فقط , لأني لم أعد أحتمل إهاناتها المتكرّرة ...ارجوك ساعدني ابي ، فنقدها القاسي يقتلني كل يوم .. رجاءً إشتري رداء الإخفاء , وأرحني من عذابها))

وما أن أنهى روبرتو الرسالة , حتى جنّ جنونه .. فلبس معطفه لإخفاء قميصه الملوّث بدماء ابنه.. وخرج مُسرعاً باتجاه المدرسة ..
وبعد معرفته رقم الفصل الذي تُدرّس فيه المعلمة ليندا , توجّه اليه فوراً .. 

وقبل فتحه الباب , سمعها تقول للطلاّب (بسخريةٍ وازدراء) :
- جيد إن جيم الفاشل لم يأتي اليوم الى المدرسة ، فنحن لا نريد رائحته النتنة أن تعكّر صباحنا 
فضحكوا الطلاب قليلاً ، قبل ارتعابهم بهجوم روبرتو الشرس على المعلمة وهو يصرخ غاضباً : 
- سأريك من سيُعكّر صباحك ، يا عديمة الرحمة !!

وبدأ يخنقها بقوّة ..فأسرع أحد الطلاّب لإبلاغ المدير الذي ركض باتجاه الغرفة ، ليجدها قد فارقت الحياة !
***

وفي قاعة الإعدام..عاد ذهن روبرتو الى الواقع , بعد سماعه السجّان يسأله:
- هل لديك طلبٌ أخير سيد روبرتو , قبل تنفيذنا الحكم ؟

وهنا ترآى له ابنه (وهو يلبس رداء الإخفاء) جالساً خلف الزجاج ، مع بقية الشهود !
وكان خيال ابنه يتمّتمّ : لنذهب الى بيتنا يا ابي 

فأعاد السجّان السؤال :
- سيد روبرتو ، أتسمعني ؟!! .. هل لديك طلبٌ أخير ننفّذه لك؟!

فقال روبرتو (ودمعته تنساب بهدوء على وجنته) بابتسامةٍ حزينة : 
- نعم ... رداء الإخفاء !

وكانت هذه آخر كلماته , قبل إطلاق صرخته المرعبة والأخيرة !


هناك تعليق واحد:

مسابقة الجدارة

تأليف : امل شانوحة منصبٌ رفيع إستوفى خمسة شباب شروط الوظيفة في شركةٍ مرموقة .. واجتمعوا في مكتب المدير العام (أغنى تجّار البلد) الذي قال لهم...